يفتنك شاطئها ويحلو مشاهدة اختلاط ماء بحرها الواسع بمياه النيل الضيق.. لكن ما يميز مدينة رأس البر اعتبارها "مصيف الفقرا والفلاحين" خاصة أن معظم روادها ينتمون لمحافظات الدلتا المجاورة التي اشتهتر بالزراعة وانتماء أهلها للطبقة المتوسطة. المدينة الشاطئية مغزولة بالذكريات الجميلة التي حفرت في أذهان أبنائها وتمتلك تاريخا حافلا وعامرا بالأحداث والشخصيات يستحق التوثيق والتسجيل حتى تعرفه الأجيال الجديدة. يحكي الأستاذ بجامعة كفر الشيخ الدكتور مصطفى راشد، أحد أبناء دمياط، ل"التحرير" أنه قضى سنوات طفولته الأولى في المدينة الساحرة، ولأنه أدرك أن الأجيال التي تلته فاتها الكثير، قرر أن يعيد أمجاد رأس البر على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، فأسس صفحة تحمل عنوان "ذكرياتي في رأس البر" وهي الصفحة التي ملأها حنينا إلى الماضي الجميل، وزينها بصور وذكريات ومعلومات خاصة جدا أتاحت لمتابعيها فرصة ذهبية للتعرف على تاريخ مدينة لا زالت رغم عمرها الطويل تعافر للحفاظ على هويتها ومكانتها بين المدن الساحلية المصرية. البداية.. تحدث راشد عن بداية رأس البر كمدينة على الخريطة المصرية قائلا: يعود تاريخها إلى عام 1823، حيث كان مشايخ الطرق الصوفية وأتباعهم بدمياط يسيرون بجموعهم نحو الشمال مع النيل للاحتفال بمولد الشيخ "الجربي" بمنطقة الجربي جنوبالمدينة. وأضاف الأستاذ بكلية كفر الشيخ: "في ذلك الوقت كان التجار يفدون إلى رأس البر لمقابلة سفنهم العائدة من رحلاتهم؛ وهنا شاهدوا أول طلائع المصيف ممثلة في هؤلاء المتصوفين.. فبدأت الفكرة وتأسست أول نواة للمدينة حيث حرص الجميع على التوافد على هذا المكان من وقت لآخر للتمتع بهدوئه الجميل الذي يبعث في النفس روعة التأمل وطمأنينة التعبد". وتابع: من أشهر المناطق التي حرص زوار المدينة على مشاهدتها والتأمل فيها، نقطة التقاء مياه النيل العذبة بالبحر المالح، في المكان المعروف باسم اللسان، حيث يصب النيل مياهه بعد رحلة طولها 6 آلاف و695 كيلو مترا يقطعها في أراضي عشر دول أفريقية جنوبا، ليصب فيضه عند المدينة الساحلية في مشهد فريد، وهذا ما دفع المقريزي عندما زارها لتسميتها "مرج البحرين"، بعد أن كانت تسمى قبل الفتح العربي باسم "جيزة دمياط"، أي "ناحية دمياط". وأكد راشد أنه مع الوقت اعتادت بعض الأسر أن تخرج أيام الصيف في سفن شراعية على النيل وترسو أمام رأس البر وتقضى النهار في النزهة والصيد والرياضة فراقهم جوها وشيدوا لهم أكواخا من حصر البردي.. التي كانت نواة "العشش" واشتهرت بها المدينة في زمانها الجميل. العشش وبدأ تأسيس العشش في عام 1865م حيث أصبحت رأس البر مصطافا رسميا لدى البعض وأخذ شكلها يتدرج من عشش قليلة متفرقة مصنوعة من حصر البردي إلى صفوف منظمة بين شاطئ النيل والبحر ثم إلى عشش تقام على أرضيات من الخشب والبناء. ولم تسحر رأس البر الصوفيين والتجار الأوائل فحسب، لكنها أيضا أبهرت العالم الألماني روبرت كوخ مكتشف ميكروب السل، والذي قال عنها في عام 1883 - كما صرح دكتور مصطفى راشد - إن مصيف رأس البر قد يصبح يوما ملك المصايف وأشهرها إذ يتميز بموقعه الجميل وهوائه النقي الجاف وشواطئه الذهبية، وبعده عن الضوضاء وهو أقل رطوبة من جو الشواطئ المصرية الأخرى وتكثر في هوائه كمية اليود. وهذا التصريح كان الدافع الأكبر للعديد من الأثرياء الأجانب للتوافد على المنطقة واستغلالها، ففي عام 1891 أنشأ رجل فرنسي اسمه "بكلان" فندق أصلان، وأنشأت سيدة فرنسية كذلك تدعى "كورتيل" مطعما وبارا قرب طابية الشيخ يوسف، كما أنشئ أول فندق راق أمام الفنار الجندول وسط المصيف جذب رجال المصطافين ودفع آخرين لبناء عدد آخر من الفنادق. وبعد توافد الأجانب على رأس البر، اهتمت الحكومة المصرية في عام 1902 إلى المدينة فوضعت للمصيف أول خريطة هندسية بسيطة موضحا بها مواقع العشش وأرقامها والأسواق وغيرها، كما قررت تأجير أرضه، وإضاءة طرقه بالفوانيس وتسيير مراكب نيلية لنقل المصطافين والبريد من دمياط إلى رأس البر والعكس. وكان اللانش هو الوسيلة الأشهر لنقل المصطافين من دمياط إلى رأس البر والعكس، واستمر كوسيلة مواصلات حتى منتصف الستينيات، حيث كان القطار يصل بالمصطافين إلى محطة دمياط ليجدوا اللانش في انتظارهم وينطلق بهم إلى رأس البر، إذ يقف عمال الفنادق على شط النيل بملابسهم المكتوب عليها اسم الفندق يروجون لفنادقهم ويغرون القادمين بالذهاب معهم. راحة المشاهير مع بداية الحرب العالمية الثانية "1939 - 1945" وبسبب الغارات الجوية الألمانية على القاهرة والإسكندرية؛ ذاعت شهرة مصيف رأس البر كمصيف ومكان آمن بعيدا عن الغارات فتحولت المدينة الصغيرة إلى مصيف للعائلة المالكة وعلية القوم من المصريين والجاليات الأجنبية، فكانت المصيف المفضل لأحفاد الخديوي إسماعيل، وأم المصريين صفية زغلول، وكذلك للعديد من الفنانين على رأسهم أم كلثوم وأسمهان وسليمان نجيب ويوسف وهبي وفريد شوقي ومحمد الموجي والشيخ محمد متولي الشعرواي والكاتب محمد التابعي والكاتب مصطفى أمين، الذين حرصوا جميعا على تسجيل لحظاتهم في رأس البر بالصور. ولأنها كانت مركز لتجمع المشاهير كان لابد أن تتحول رأس البر إلى مركز فني اجتماعي حافل بالأنشطة التي تسليهم، فتميزت المدينة في تلك الفترة بإقامة العديد من الحفلات الغنائية والعروض المسرحية والأفلام. ولم تنته شهرة رأس البر مع تلاشي نار الحرب بل أصبحت مصيفا محببا للكثير من المصريين والأجانب نظرا لطبعها الفريد والبعيد نسبيا عن حياة المدينة الصاخبة. يحكي الدكتور مصطفى راشد عن تلك الفترة فيقول: عندما كنت فى الرابعة عشرة من عمري أذكر أنني شاهدت يوسف بك وهبي أمام محل أجفا بعد أن اشترى والدي كاميرا صغيرة لي ووقفت مبهوا به وهو يسير فى اتجاة سنيما ومسرح رويال "البيومى" وكان العرض فى هذا الوقت مسرحية راسبوتين والعرض الآخر "كرسى الاعتراف"، مضيفا: كم ندمت لعدم طلبى أخذ صورة معه. وتابع راشد قائلا: في عام 1958 وعلى مسرح سينما فاتن، كان حفل أضواء المدينة الذي أحياه العديد من مشاهير تلك الفترة، أذكر منهم عبد الحليم حافظ وصباح ولبلبة وشكوكو، وبعد أن ذهبت في النعاس ظهر المطرب الشعبى محمد عبد المطلب، مشيرا إلى أن البنات والبنين كانوا يتجمهرون عند باب الممثلين في مسرح البيومي الذي يطل على شارع 51 ليصافحوا النجوم. كما كانت تقام فى فندق الفويية في شارع 47 وفي كازينو الجندول مسابقات للرقص بين اليهود وكذلك مسابقة ملكة جمال رأس البر من بين المصطافين حيث يقام احتفال كبير وقد يختار أجمل طفل وطفلة. وأكمل: كانت تقام مسابقات سباحة عديدة أشهرها السباحة بالشماسي وخصوصا في احتفالات المدينة بذكرى ثورة يوليو المجيدة من كل عام إلى جانب مسابقات الصيد وخصوصا صيد طيور السمان التي كانت المدينة تشتهر بها. الأناقة بمنديل بأوية ولفت الأستاذ الجامعي إلى أنه في تلك الفترة تمتعت المدينة بنظام مبهر ونظافة شديدة على الرغم من بساطة الحياة فيها، فكان صبي المكوجي شخصية أساسية في المدينة الصغيرة، يطوف على العشش لأخذ الملابس وإعادتها مكوية، كما كان جامع القمامة والسقا وغيرهم من العمال يعرفون واجباتهم جيدا ويحرصون على القيام بها على أكمل وجه. واسترسل: الأمن في المدينة كذلك كان مبهرا، فقد كان عساكر الشرطة يجوبون الشواطئ أولًا بأول لحماية المصطافين، وقبلهم عساكر الهجانة عندما كان للسيدات ميعاد محدد لنزول البحر، يمنع فيه تواجد الرجال على الشاطئ أو بالقرب منه وإلا سوف يناله كرباج سوداني من الهجانة حتى ولو كان صبيا صغيرا. وذكر ابن رأس البر أنه لا يستطيع نسيان بعض المشاهد، منها بائع الجيلاتي الذي كان يأتي بالتروسكل الخاص به ليبيع أيس كريم جروبي فى أوائل الخمسينيات والأيس كريم كان يرد من القاهرة في الأبنوبوس والبائعون يقفون في انتظاره فى محطة الأتوبيس في عبوات من الثلج الجاف "ثانى أكسيد الكربون المجمد" وكان عبارة عن "أستيك فانيليا مغطى بالشيكولاتة" على معلقة خشبية بسعر ثلاثة قروش قائلا: كان أغلى أيس كريم فى المصيف. كما تذكر بائعة المناديل بأوية التي كانت تجوب الشاطئ بين المصطافات لبيع بضاعتها من الحرير والتي كان يتم صناعتها في المنازل الدمياطية التي اشتهرت بها في تلك الفترة.