مدينة رأس البر تلك المدينة التى جمعت بين عراقة الماضى وحداثة المستقبل وقيمة التاريخ. إشتهرت رأس البر بكونها مدينة سياحية جذابة رائعة ، من يأتى إليها ياتى متلهفا للشمس والهواء واللسان والنيل ومياه البحر الصافية ، ولكن من يبحث فى تفاصيلها سيجد بها ما يحتاج إلى التأمل والدراسة والتفكير. ومدينة رأس البر لا تعرف ساكنا دائما لها ، فنظرا لكونها مدينة سياحية فقد إشتهرت بوجود العديد من المساكن للزوار المؤقتين ، إلا بعض قاطنى المدينة سواء من أعيان دمياط أو من أبناء المحافظات الأخرى ممن تملكوا الشقق بها وإختاروها لصفاء جوها وروعة الحياة فيها.
وفى عام 1883م جاء إلى رأس البر العالم الألماني "كوخ" الذي انتدبته الحكومة المصرية على اثر انتشار الكوليرا بمصر وزار رأس البر و كتب عنها في تقرير له " إن مصيف رأس البر قد يصبح يوما ملك المصايف و أشهرها " إذ يمتاز بموقعه المتميز و هوائه النقي الجاف و شواطئه الذهبية و بعده عن الضوضاء و هو اقل رطوبة من جو الشواطئ المصرية الأخرى و تكثر في هوائه كمية " اليود ".
وكان مصيف رأس البر مفضلا لدى الطبقة الارستقراطية ثم تدرج إلى مصيف الشعب كله.
وكان من نتائج قيام الحرب العالمية الأولى 1914 -1918 أن حرم الكثيرون من الارستقراطية المصرية من السفر إلى الخارج فاشتد الإقبال على رأس البر كما حدث بعد ذلك في الحرب العالمية الثانية و نجم عن ذلك إدخال الكثير من التحسينات بالمصيف كما زادت حالة المصيف الاقتصادية رواجا 0 ولكن هناك بعض السكان ممن وقعوا فى الجانب المظلم من الإهتمام برأس البر ألا وهم قاطنى العشش.
والذين بدأت حياتهم بالمدينة منذ أكثر من مائة عام حينما جاءوا للصيد وممارسة الرياضة بها ، وقام البعض منهم ببناء بعض العشش المؤقتة لهم من الأكياب و الحصير، و ما لبثوا أن اتخذوا المكان مصيفا لهم ، و تبعهم غيرهم و أخذ المصيف يتطور عاما بعد عام و يتدرج من عشش قليلة متفرقة إلى صفوف منظمة بين شاطئ النيل و البحر.
ولكن فى ظل هذا التطور الذى شهدته مدينة رأس البر إلا أنهم لازالوا يعيشون داخل هذه العشش التى بنوها من الغاب والحصير والقش.
ووسط هذه الحياة الملبدة بالغيوم نجدهم لا يملكون قوت يومهم ، ومنهم أميون ، ومنهم متعلمون ، ولكن القضية ليست فى كونهم أميون أو متعلمون ولكن فى كونهم عشوائيون.
فتحولت الفكرة من مجرد سكن مؤقت إلى حياة دائمة لهؤلاء القدامى وأجيال تتبعها أجيال يعيشوا بهذه المنطقة ، وأقل ما يوصفون به الآن أنهم من البؤساء الذين سقطوا من كافة حسابات السادة المسئولين ، والذين مازلوا فى عام 2012 يعشيشون كما هم ، بل ويقوم مجلس المدينة بحرق تلك العشش كل عام ليجبرهم على تركها وسكن الشوارع حتى يتسنى له بيع الأرض للأغنياء ليعيشوا حياة الترف والبزخ فى المدينة.
وأصبحت تلك المنطقة التى تقع بشارع 51 بالمدينة وبالتحديد فى عشش المناخ ومنطقة الصيادين مشهورة بعشوائيات رأس البر.
تقول أم محمد : أنا مولودة هنا من 52 سنة و حاولوا يطردونا من هنا و ما فيش مكان نقعد فيه ، و حصلت حريقه من 15 سنه مسحت المكان كله و إحنا عندنا عدادات نور، ويعملوا لنا ممارسة كهربائية وعايره سكن لأني خلاص العيشة هنا بقت مُرة ، وأنا أرملة و ده مكاني و مكان عيالي0 وواصلت زينب نصر محمود 17 سنه : أنا مولودة في عشش المناخ و يشتغل في فندق كعاملة نظافة وسط ، و طبعا إحساسي حزين جدا ، بشتغل في فندق و بشوف الناس و باجى أندفن فى التربة دي ، و نفسنا نبني هنا ، بس الحكومة تسمح لنا إحنا ولآد المكان ده ، و مهما كان اللى هيسكن فى الارض دى ، مش أحسن مننا 0 وقالت دينا محمود أحمد أنا متزوجة حديثا ، و ليس لدى سوى بنت صغيرة ، و الأولاد بيرو حوا المدرسة و حضانات ، و نفسي أمشى من هنا ، وأحافظ على أولادي و بيتي ، وجوزي بيسرح البحر على مراكب الصيد باليومية ، وهى عدت يوم كده و يوم كده و يوميته حسب السمك اللي بيطلعوه من البحر.
وذهبنا إلى أم صبرى أقدم ساكنة فى عشش المناخ والتى قالت أنا من مواليد الأرض دى و كان زمان بييجوا يقيسوا الأرض علشان يملكوها لنا و كان معانا ورق بالأرض دى ، وراح فى الحريقة من 15سنه و الأرض دى جابت لنا الأمراض ، أنا عندي أزمة و طبعا الشتاء لما بييجى الميه تخش لنا من كل حته ، مين يقدر يعيش هنا إلا اللى مش لاقى حاجة تلمُة غير المكان ده ، و أنا ساكنه هنا أنا وأولاد إبنى الصغير ، عنده ولد و بنت الولد 11سنه و البنت 9 سنين ، و صبرى إبنى الكبير معاه 5 بنات إزاى يعيش هنا وما نفسيش في أي شيء إلا حته أتاوى فيها بس و ربنا مع الجميع.
وأضافت سعاد عبد المجيد أحمد : إحنا معانا عقود من مجلس المدينة و المجلس يرفض أن نبني و العقد ب 60 مترا فقط ، و ال60 متر موزعه على عائلتين ، و عائلتي لوحدها 8 أفراد و زوجي غير متواجد و لو حاولنا نبنى يطردونا يعنى لاطايلين سما ولاطايلين أرض ، ومش عايزين غير إننا نعيش زى الناس إللى عايشه مستورة وبس ، وحيطة تدارينا ، وكلنا هنا راضيين إن الحكومة تبنى لنا بلوكين بس، وهما هيكفوا كل العائلات دى وياخدوا هما الأرض ، وأنا بناشد السيد المحافظ إنه يبصلنا بعين الرحمة ، وييجى مرة يشوفنا والدنيا بتشتى ويشوف عيالنا شكلهم إيه وعاملين إزاى ، ومش طالبة أنا وإللى هنا غير العدل بس والإنصاف ، لاتبنوا إنتم وتاخدوا الأرض أو تسيبونا نبنى أو حتى نعمل حاجة كويسة تسترنا وتستر عيالنا.
هذا كان جانبا من جوانب رأس البر ، ولكن هناك جانب آخر أصبحنا نراه شيئا عاديا وهم البائعون الجائلون على البلاج ، والذين جاءوا من كل حدب وصوب راغبون فى لقمة العيش فى موسم الصيف ، سواء البائعون الذين يبيعون كل شيء على الشاطئ ، بدءا من بائعى الجيلاتى والذرة المشوى وكرة الماء وعوامات الأطفال والشباشب ، وملابس النساء بكل أنواعها ، والمناشف وإنتهاء بالمصوراتى وبائعى المناديل وبائعى الترمس والأرز باللبن حتى والمتسولين . أو أصحاب الكازينوهات على البلاج.
يقول محمد أبو يوسف : الناس دى غلابة وإحنا برضة غلابة وعملنا المشروع ده وبكسب برضه بس مكسبنا الحقيقى أن إحنا حسينا بالناس ، والله لو كان المجلس بياخد إيجار خفيف شوية كانت كل الناس انبسطت في رأس البرجدا 0 ورأينا عفاف محمد يوسف والتى قالت : أنا معايا دبلوم تجارة وبساعد والدى ووالدتى فى الكازينو ده وإحنا مأجرين ببع المكان هنا ،إحنا عندنا الوجبة بتبدأ بجنيه زى طبق الكشري مثلا ، وآخر حاجة عندنا ب 3.5جنيه عبارة عن سمك وأرز وسلطات ، والناس زى ما أنت شايف بالصلاة على النبي بتا كل وما فيش مشكلة ، وإحنا على البلاج ، يعنى مافيش حاجة بالسعر ده خالص هنا ، ولا تمن علبة المناديل ، وفيه عائلات غلابة بييجوا يأكلوا عندنا كتير وربنا يبارك فى الرزق ، وكفاية رضا الناس ودعواتهم ، وإحنا برضة بتكسب كويس ، نبيع كثير وبنكسب كثير وربنا يديمها نعمة ، وفيه زينا كده إتنين كمان على البلاج ، وطبعا فيه منافسة بينا وبين بعض.
ويقول أحد السريحة من سوهاج : إحنا 25 واحد ساكنين فى عشة فى راس البر ب2000جنيه فى الشهر بنبيع كل حاجة طواقى ملابس حريمى كرات الماء كل حاجة ولازم ندور على أكل رخيص عشان نعيش ، بناكل هنا من سنتين وعارفين المكان ده كويس 0 وواصل حامد سراج أحد المصطافين من دمياط : أنا كل سنة باخد أسبوعين فى راس البر علشان أولادى يفرحوا وينبسطوا وبعانى من المواصلات الداخلية ، إستغلال جامد جدا ، والتوصيلة بنص جنيه فى الميكروباص ومسافة قليلة جدا لاتستدعى هذا السعر ، وطبعا أسعار العشش نار نار ومش عارف هتوصل لفين ، الاسبوع بألف جنيه وفى منطقة متوسطة , ولو جيت يوم من دمياط علشان الأولاد ينزلوا البحر أتكلف كتير جدا بالرغم من إنى بجيب أكلى معايا ، والمصاريف دى على المواصلات والشماشى إللى على البلاج ، ودورات المياه إللى بتاخد نصف جنيه على الفرد ، وإذا حبييت آخذ العيال السينما أو السيرك يبقى خراب بيوت ، المصيف ده مش بتاعنا ده بتاع الناس إللى تقدر عليه.
وعلى الجانب الثالث من جوانب المدينة العريقة نجد الأغنياء أصحاب الفيلات الفاخرة وقاطنى الشقق الرائعة.
فمعظم مدخرات واستثمارات التجار الدمايطة وأغنيائها في هذه الشقق والفيلات والتى لازالوا يطلقون عليها إسم العشش ، فثمن العشة يزيد مع الأيام وبالإضافة لتقضية المصيف فيها ، وأيضا يتم تأجير هذه العشش في الشتاء لعائلات او لعرسان بشكل مؤقت أقصى مدة 6أشهر.
تلك "العشش" الفاخرة فى رأس البر والتى تكلفت ملايين الجنيهات معظمها يقع فى المنطقة الأولى ، ومن بنائها ومظهرها تعرف من هم أصحاب هذه العشش أو الفيلات وتستغرب من عدد أجهزة التكييف التي داخلها ، بل وتشوه المنظر تماما من الخارج ، وتتساءل لماذا التكييف ؟ ويأتيك الرد سريعا ومباشرا ، وهو أن هذه العشش بنيت للتجارة أولا ، ولم يراع من بناها أنها في مصيف ويجب أن تُبنى بشكل مختلف عن أي مبنى في مدينة عادية ، ثم تجد نمط تقليد القصور الفخمة والقديمة بل تقليد القلاع ، فترى عامود على شكل برج فى واجهة العشة ، كذلك إستخدام الرخام بكثرة وعلى الواجهات لإظهار الفخامة ، ولكن فى تشعر أنك لم تنتقل إلى مصيف بل فى بيت قريب للبحر فقط ، ولا تشعر بالمصيف إلا إذا جلست فى الشرفة.
وهناك بعض العشش فى مناطق أخرى روعى فى بنائها أنها فى مصيف ، وهى لعائلات قديمة ومنتمية إلى الطبقة الوسطى ، وعندما ترى هذه العشش تعرف ساكنيها أيضا وتشعر بالراحة ، فهى تطوير للعشش القديمة والتى تم تطويرها فى بداية الستينات ، وروعى فيها وجود الهواء فى أى وقت ومن كل النواحى.
يقول هشام السعيد محمود سمسار : العشش هنا أنواع وكل شيء موجود وكل عشة ولها ثمنها وسعرها ، ويختلف سعر العشة حسب المنطقة والتوقيت ، كل شهر من أشهر المصيف بسعر ، وطبعا الأدوار كل دور بسعر وكل واجهة بسعر البحري شرقي غير البحري غربي ، والقبلي شرقي غير القبلي غربي ,كل حاجة هنا معروفة ومضبطة حتى السماسرة فيهم سماسرة للأغنياء وسماسرة بتوع الناس إللى على قدهم 0 ويقول شاكر عبد اللطيف : من المنصورة ومستأجر فى المنطقة الأولى كل سنة لابد وأن أصيف في رأس البر، السنة دى تطورت جدا جدا وأصبحت جميلة بجد ومافيهاش أى مشاكل ، المية موجودة ، الكهربا تمام , العيش جميل جدا وولادى تصدق بيقولولى هنروح رأس البر علشان ناكل عيش بيحبوه جدا الأولاد ، بس فيه مشكلة واحده ووحيدة لو إتحلت يبقى المصيف ده تمام ، وهى مشكلة الأولاد السريحة إللى على البلاج ، تبقى قاعد وفجأة يدخلوا عليك من غير مناسبة ، طبعا بيبيعوا حاجات شعبية مالهاش لازمة ، والغريب إنك تلاقى واحد بيبيع جيلاتى ومعاه ساوند كبير ومشغل أغاني تافهة ، وواحد بياع كاسيت طبعا معاه ساوند وحاطط أغانى الموسم الهابطة ، السنة إللى فاتت كانت العنب ، لسة السنة دى مش عارفين إيه مالهاش ملامح ، المصايف في بلاد بره غير كده خالص ، المصايف بتبقى هادية والناس رايحة تستمتع بجد ومافيش الكلام الفارغ ده.
ويقول أحد أصحاب العشش ورفض ذكر إسمه : أنا تاجر كل إللى بعمله أبنى العشة وأبيعها إرباع ، يعنى ربع بربع ، وأنا كنت الأول بعمل فنادق لقيتها تخسر دلوقتى ، لأن الفندق عليه ضرائب كتيرة ، وسعر المياه والكهرباء فيه مش زى سعر العشة ، ويشتغل 3شهور ويقفل باقي السنة ، لكن العشة أنا ببنيها وأبيعها وبخلص من همها ، وأبنى غيرها وهكذا ، ودلوقتى كل حاجة غليت فى البنا ، الحديد والأسمنت والطوب والرمل والخشب غالى جدا ، يعنى بصراحة مش عارفين نشتغل وإيدينا متربطة ، وكل إللى أشتروا منى بيدعولى ، لأن إللى أحذوه منى زاد دلوقتى أضعاف ، وده استثمار كويس ومضمون.
وللدكتور خالد السبع مشكلة أخرى حيث قال : رأس البر متنوعة وبها عدد لابأس به من الشواطئ ، كشاطئ النخيل ، وهو شاطئ هادئ ومناسب للأسرة تماما ، وشاطئ الجربى على النيل مباشرة وهو الآن أصبح أكثر هدوءا من ذي قبل ، بالإضافة إلى الشواطئ الأخرى الرئيسية , وأنت الآن بالسيارة تستطيع الوصول لأى شاطئ ، خاصة بعد شبكة الطرق الجديدة التي تم استحداثها هذا العام , بصراحة مشكلتي الآن تتلخص في الاختيار بين الأماكن ، أين أذهب؟ وفيه حاجه كمان بتعجبنى ، وهى مسابقات الرقص إللى على البلاج بالليل ، دى جميلة, بتحس بحرية الشباب وبترجعنى شباب تانى مع إن بعض الناس بترفضها ولكن دى مسألة مفيدة للشباب جدا ، على الأقل بتخرج الكبت إللى جواهم ، و رأس البر مصيف عالمي بجد ولكل طبقات المجتمع ، ولكن مع قليل من الاهتمام هيبقى مش ممكن ويجنن.
ولأصحاب كازينوهات شاطئ الجربى مشكلة تتلخص فى أن السرفيس أصبح لايصل إليه بسهولة ويسر كما فى السابق ، فبعد أن أنشأت التحويلة الجديدة على الطريق لخارج رأس البر وسد المنفذ القديم ، وإلغاء كل التقاطعات فى رأس البر ، يرفض أصحاب السرفيس الدخول إلى الجربى لأن المسافة أصبحت بعيدة جدا ، والنصف جنيه الأجرة المعمول بها ، لاتكفى لهذه المسافة ، والسرفيس كان الوسيلة الوحيدة التى تصل إلى الجربى بكل الغلابة الذين يرتادون هذا الشاطئ ، الآن أصبح مقصورا على أصحاب السيارات فقط من الأغنياء خاصة الدمايطة منهم وهؤلاء لهم معاملة مختلفة ونمط مختلف ، لاتكفى لإنعاش هذا الشاطئ.
ولكن كيف ستصبح المدينة فى المستقبل ؟؟؟ ننتظر ما سوف تظهره لنا الأيام القادمة.