خبر غريب نشرته مجلة «صباح الخير» فى عددها الصادر فى 18 مايو 1961، عنوان الخبر «المنتجون.. والأفلام الوطنية»، ويقول الخبر: «ظاهرة غريبة.. المنتجون يرفضون ويترددون فى إنتاج أى فيلم تتعرَّض قصته للعدوان الثلاثى، مثلًا.. رفض فريد الأطرش منذ شهر قصة أعجبته لأنها تتعرَّض للعدوان الثلاثى.. وللآن.. بركات يفكّر فى العدول عن إنتاج فيلم (الباب المفتوح) لنفس السبب!.. حجة الجميع فى ذلك.. أن الفيلم لن يوزّع فى البلاد التى يسيطر عليها الاستعمار الإنجليزى أو الفرنسى.. والجميع يقولون: تساعدنا المؤسسة أو الدولة أو أى هيئة.. واحنا ننتج أفلامًا». ينتهى الخبر، ويبدأ الاندهاش، وبالطبع لا ينتهى عند عتبات أى تبريرات، أو أعذار، حتى لو كانت فى عهد وتحت ظلال نظام وطنى أسسّت له ثورة وطنية اجتماعية، هى ثورة يوليو 1952، فالمنتجون يخافون عى رأسمالهم، تطبيقًا لمقولة «رأس المال جبان دائمًا»، حتى لو كان المنتج من أجل الوطن، فالوطن رخيص أمام أى خسارة، بالعكس فالمنتج يريد مزيدًا من الربح فى مثل هذه الأحوال، فيطالب بدعم الدولة أو الهيئات أو المؤسسات، ولكنه ينأى بأمواله بعيدًا عن أى توريطات من هذا النوع. وبعيدًا عن جبن رأس المال وتراجعه عن المشاركة فى الأحداث الوطنية، فإن الرواية المذكورة هنا، والتى كانت تقلق بركات، وهى رواية «الباب المفتوح»، كانت للكاتبة الدكتورة لطيفة الزيات، وجدير بالذكر أن الرواية تحوَّلت بالفعل إلى فيلم سينمائى، وأخرجه بركات، وقامت ببطولته الفنانة فاتن حمامة وصالح سليم ومحمود مرسى وحسن يوسف وشويكار، وتم عرضه للمرة الأولى عام 1964. ويعتبر النقاد أن رواية «الباب المفتوح»، هى الرواية الرائدة فى مجال الكتابة النسوية فى الأدب، ورغم أن الحركة النسوية المصرية بدأت منذ عقود سابقة عديدة، فإن التجليات الأدبية لم تكن عظيمة، وجاءت «الباب المفتوح» للطيفة الزيات عام 1960، لتضع أساسًا متينًا لأى كتابة تأتى بعدها. ومن الطبيعى أن تأتى هذه الرواية على يد لطيفة الزيات، هذه الكاتبة التى بدأت حياتها السياسية والأدبية منذ منتصف أربعينيات القرن الماضى، عندما كانت طالبة فى كلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية، وكانت خطيبة مفوّهة، وقائدة فى الحركة الوطنية العارمة، وكانت تخرج على رأس المظاهرات الطلابية، لتهتف بجلاء الإنجليز وسحق الرجعية وسقوط الحكم الملكى. وكانت لطيفة تخوض الانتخابات الطلابية أمام كل التيارات السياسية المتنوعة، وكانت تقهرهم بجدارة، وتم انتخابها فى اللجنة العليا للعمال والطلبة عام 1946، هذه اللجنة التى صاغت برنامج الحركة الوطنية الديمقراطية المصرية، هذا البرنامج الذى ظلَّت تناضل به قوى وطنية عديدة، والذى كان فاعلًا فى حركة الضباط الأحرار. وفى ظل هذا الوقت، كانت لطيفة الزيات تكتب بعضًا من القصص القصيرة، ونشرت أول قصة لها عنوانها «يد الله» فى مجلة «الفجر الجديد» اليسارية، عام 1946، وظلَّت تكتب قصصها القصيرة، وتنشر بعضها هنا وهناك، وربما تكون زيجتها الثانية من الدكتور رشاد رشدى، عطلتها كمبدعة، بعد انفصالها عن زوجها الأول أحمد شكرى سالم، زميلها فى الجامعة وفى الحركة الوطنية، وكانت قد انفصلت عنه وهو فى السجن، وتزوَّجت من أستاذها رشاد رشدى. وفى مذكراتها، تتحدَّث لطيفة عن هذين الارتباطين بوضوح وشفافية، وتتحدَّث عن أجمل البيوت التى سكنتها، وتذكر بيت طفولتها فى دمياط، هذا البيت الذى حمل أجمل الذكريات، وأجمل سنوات البراءة، وحكايات الغرام الأولى، وقصص الشقاوة المبكرة فى كنف الأسرة العامرة بالأب والأم والإخوة، وبعد بيت الطفولة تأتى البيوت التى هربت فيها جميعًا مع حبيبها وزوجها أحمد شكرى سالم، وهى لا تذكر اسمه، وتعترف بأن القلق الذى كان يصاحبها فى سنوات الهروب من البوليس السياسى فى هذه البيوت الفقيرة، أكثر طمأنة وأمانًا من كل البيوت الفخمة والضخمة والمكيفة، والتى سكنتها وتنقلت فيها بعدما تزوجت من أستاذها المرموق، والذى لا تذكر اسمه، وهو الدكتور رشاد رشدى، وبالمناسبة فهى أهدت رشاد رشدى روايتها «الباب المفتوح» فى طبعتها الأولى عام 1960، ولكنها بالطبع حذفت هذا الإهداء بعد الانفصال الذى تم فى عام 1965. لم تكن «الباب المفتوح» هى الدرة الوحيدة للطيفة الزيات، والتى صدرت عام 1960، ولكنها أصدرت عددًا من الروايات القصيرة، والقصص، وإن كانت المسافة الزمنية طويلة، فبعد ستة عشر عامًا، أى فى عام 1986، أصدرت مجموعتها القصصية «الشيخوخة»، ثم فى عام 1994 أصدرت روايتها «صاحب البيت»، ثم فى عام 1995 أصدرت روايتها «الرجل الذى عرف تهمته»، وكانت قد أصدرت مذكراتها الفاتنة والاستثنائية والجريئة «أوراق حملة تفتيش»، وفيها أفصحت بقوة عن كل ما تعتنقه من أفكار، وباحت بكل ما كان يجيش فى صدرها عبر أزمنة بعيدة، وأجابت عن أسئلة كانت مغلقة، فوجدت نفسها تتحدَّث بحرية شبه كاملة، وكتبت عن السجن أرق الذكريات مع رفيقاتها السجينات السياسيات، كما كتبت عن السجينات الجنائيات. كما أنها كتبت مسرحية وحيدة، وهى مسرحية «بيع وشراء»، بالإضافة إلى مجموعة كتابات نقدية مهمة، مثل كتابها عن نجيب محفوظ، أو كتابها عن صور المرأة فى الروايات والقصص العربية، وكتابها «أضواء نقدية»، وهناك كتابات نقدية عديدة كتبتها فى مجلة «المسرح» وجريدة «المساء»، ولم تجمع فى كتب حتى الآن. ولم تكتفِ لطيفة الزيات بكتاباتها فقط، بل إنها كانت مقررة للجنة الدفاع عن الثقافة القومية، هذه اللجنة التى تكونت وتأسست فى حزب التجمع الوطنى، وخاضت نضالات عديدة ضد التطبيع، وفى مواجهة أسرلة الحياة السياسية المصرية، ولها كتابات عديدة نشرتها فى مجلة «المواجهة» فى هذا الشأن. لطيفة الزيات إحدى العلامات المضيئة فى تاريخ الثقافة المصرية.