أعتز جدا بتجربتى بالعمل فى إحدى الوزارات المصرية مع بداية حياتى المهنية، وقد خرجت منها بثلاثة دروس مهمة، أولها أنه لا بديل عن التغيير إذا أردنا لهذه البلد خيرا، وثانيها أن التغيير عملية شاقة، ولا توجد خاصية التحول الأوتوماتيكى، وثالثها أن تطوير البيروقراطية المصرية فى قلب عملية الإصلاح. أتذكر فى أول يوم عمل فى تلك الوزارة وأنا تملؤنى الحماسة لإحداث تغيير وتطبيق ما تعلمته لتطوير البلد، أنه قد جاءتنى مذكرة من وزارة الخارجية المصرية ملحقة بها مذكرة أخرى من السفارة المصرية فى إحدى الدول الآسيوية بشأن وزير يقدم تهنئة إلى وزيرنا المصرى بمناسبة العيد فى مصر، فكان مطلوبا منى أن أرفق المذكرتين مع مذكرة أخرى جديدة أكتبها للوزير لإبلاغه بتهنئة الوزير الآسيوى، وأقترح عليه إرسال شكر إليه، فيقوم الوزير بالتأشير بالموافقة، فأكتب مذكرة مرفقا بها كل المذكرات السابقة بأنه بناء على توجيهات سيادتكم أرفق خطاب شكر «للتكرم» بإمضائه. يمضى الوزير ولا تنتهى الدورة البيروقراطية، فأكتب مذكرة أخرى لوزارة الخارجية، بها جميع المرفقات السابقة ومرفق بها الخطاب لإرسالها إلى الجانب الآسيوى. دورة إرسال شكر على تهنئة استنزفت وقت الموظفين وموارد الوزارة من أوراق ومراسلات، لكنها حازت على إعجاب وامتنان إدارة المتابعة التى لا ترحم موظفا يتخطى تلك الدورة الورقية المملة، ولا تنظر إلى أدائه أو مخرجات وظيفته بشكل حقيقى. فللأسف المركزية الشديدة فى اتخاذ القرار ودورة العمل المعقدة تستنزف الموظفين الجدد وتقتل الإبداع. هناك إدارة كاملة فى أغلب الهيئات الحكومية لمتابعة أداء الموظفين، لكنها للأسف أيضا تزيد إلى تعقيدات الإجراءات فتحول الموظف إلى كائن ورقى إجرائى. *** الحكومة الحالية تعترف بأهمية إحداث نقلة إدارية فى جهاز الدولة لما له من أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية تؤثر على حياة المواطن كل يوم. وقد بدأت بتغيير قانون العاملين بالدولة، وأصدرت قانونا جديدا للخدمة المدنية، وهو خطوة جريئة ترددت كل الحكومات السابقة فى اتخاذها. ورغم أن أى قانون سيكون أفضل نسبيا من القانون السابق فإننا أمام قانون جديد اسما، لكنه قديم فعلا فى أكثر من موضع. فعلى سبيل المثال التعيين فى الحكومة طبقا للمادة «13» يكون بعد إعلان «مركزى»، ويشارك وبموجب قرار يصدر بمن يفوضه رئيس الجمهورية، ويكون التعيين بعد امتحان ينفذه الجهاز «المركزى للتنظيم» والإدارة. فالمركزية الشديدة فى التعيين تلغى بدورها أهم محور من محاور الإدارة الحديثة، ألا وهو العمل الجماعى، فتحد من دور المدير أن يكون له رأى فى اختيار فريق عمله، وبالتالى يقتل إكلينيكيا أى مبادرة للإبداع أو التفكير خارج القوالب الحديدية. لا يمكن أن نتحدث عن تطوير مؤسسات فى ظل وجود مثل هذه المادة المعيبة التى تعطى لجهاز مركزى هيمنة فوق الهيئات الحكومية الأخرى. والجدير بالذكر أن هذا القانون سوف ينطبق على الإدارات والهيئات المحلية فى جميع أنحاء الجمهورية، رغم ما نص عليه الدستور فى التحول نحو اللا مركزية. أتفهم جيدا الدافع وراء هذا التعقيد، وهو الحد من الواسطة، لكن النتيجة هى اختيار الكفاءة التى سوف تقضى الباقى من عمرها فى صياغة مذكرة للسيد الوزير حول «أى شىء» إلا التغيير والتنمية.