فى محاولة لتحسين مناخ الاستثمار فى مصر، أصدر الرئيس قبل ساعات قليلة من بدء المؤتمر الاقتصادى قرارا بإصدار قانون جديد للخدمة المدنية. وقد سبق أن تناولنا فى مقال سابق عدة مآخذ على فلسفة وتفاصيل القانون الجديد، ومنها شموليته جميع موظفى الدولة سواء على المستوى المركزى أو الوحدات المحلية أو الهيئات العامة، ومركزيته الشديدة فى التعيين، وتجاهله ملف المتدربين الشباب... إلخ. لكن على الرغم من تلك الملاحظات، فإن القانون الجديد يظل خطوة جيدة نسبيا، حيث إنه مما لا يدع مجالا للشك أفضل من سابقيه من القوانين، التى أسهمت إسهاما مباشرا فى ترهل جهاز الدولة الإدارى. وإصلاح الجهاز الإدارى تنبع أهميته الاقتصادية ليس فقط بسبب إزاحة العراقيل البيروقراطية أمام المستثمر، والحد من الفساد وتسريع الإجراءات، لكن أيضا بسبب أن الجهاز بوضعه الحالى يسبب أكبر نسبة إهدار للمصروفات العامة فى موازنة الدولة، بحيث تبلغ نسبة الأجور نحو 25% من المصروفات. ورغم أن إصدار قانون جديد للخدمة المدنية كان مطلبا أساسيا للتنمية الإدارية، لكنه ليس كافيا لتحقيق تغيير ملموس، لأن استراتيجية تطوير وتنمية البيروقراطية تحتاج إلى العمل على ثمة محاور أخرى متشابكة، حتى لا يكون الإصلاح مجرد نحت على الماء. ومن ضمن المحاور التى يجب أن يتم العمل عليها بالتوازى ما يلى: المحور الأول هو إعادة هيكلة الجهاز الحكومى للدولة، وتقليل عدد الوزارات المركزية، حتى لا تتضارب الاختصاصات. فلا يمكن أن يكون ملف مثل التعليم تتولى مسؤوليته ثلاث وزارات، وهى التربية والتعليم والتعليم العالى والتعليم الفنى. كما أنه لا يوجد مبرر لوجود وزارتين مفصليتين ل الآثار و الثقافة . وهناك أيضا وزارة مثل التعاون الدولى من الممكن توزيع اختصاصاتها بين وزارة الخارجية ووزارة التخطيط. فوجود هذا الكم الهائل من الوزارات يمثل عبئا ماديا وإداريا على الدولة. المحور الثانى هو تحسين بيئة العمل خارج الوظيفة الحكومية. فهناك نحو سبعة ملايين موظف عموميين يكلفون الدولة 211 مليار جنيه سنويا بعد تطبيق الحد الأدنى للأجور. ويتطلب خلق وظيفة جاذبة خارج الحكومة تشجيع القطاع الخاص وليس منافسته. كما يتطلب إجراء تعديلات على قوانين العمل والتأمينات الاجتماعية والتأمين الصحى، حيث إن ارتباط المواطن بالعمل الحكومى سببه الأساسى مزايا التأمينات. المحور الثالث خاص بإجراء تدريبات تحويلية للموظفين الحكوميين لتهيئتهم للعمل خارج القطاع الحكومى. ومن الممكن أيضا تنفيذ برنامج للمعاش المبكر يرتبط بصرف تلك المبالغ فى مشاريع خاصة صغيرة ومتوسطة، من خلال برنامج خارج الصندوق الاجتماعى للتنمية، الذى أثبت فشله فى السنوات الماضية. المحور الرابع هو البدء فى التحول نحو اللا مركزية الإدارية والمالية، كما نص الدستور، وهى ركن أساسى من أركان الإدارة الحديثة والرشيدة. فاللا مركزية تسهم فى التغلب على البيروقراطية، وتساعد على تقديم خدمة أفضل للمواطنين، وتفرض رقابة جيدة على الموظفين العموميين، تحد من ممارسات الفساد المنتشر فى المحليات. تلك بعض الخطوط العريضة لاستراتيجية تطوير وتنمية الجهاز الإدارى للدولة، لكن تفعيلها يحتاج إلى إرادة سياسية جادة حتى لا نترك قانون الخدمة المدنية الجديد واقفا وحيدا فى الطلق أمام عواصف التعقيدات البيروقراطية المصرية.