فى البدء كانت البيروقراطية حسنة السمعة، وجاءت لتنظيم العمل، وضبط إجراءاته، وتوزيع المهام والمسئوليات والسلطات بشكل هرمى، ووضع تسلسل للموافقات بطريقة تصاعدية من القاعدة إلى القمة، وإحكام العملية الإدارية منعاً للخلل والإهمال، ومنعاً للفساد والتلاعب، وإبعاداً للجوانب الشخصية والذاتية من التدخل فى الإجراءات. وهذا النوع من البيروقراطية اعتبره عالم الاجتماع الألمانى ماكس فيبر Max Weber (1864 - 1920م)، النمط المثالى للإدارة، وبطبيعة الحال كان فى ذهنه وهو يصف البيروقراطية بهذا الوصف الممتاز، النظام الإدارى الألمانى، الذى يعمل وفق أعلى مستوى من الكفاءة والدقة، يقول: «إن المديرين يجب أن يؤسسوا الشركات على قواعد وأنظمة وعمليات قياسية واضحة لكى يتمكنوا من التحكم فى سلوك المنظمة». وتكونت نظرية ماكس فيبر عن البيروقراطية نتيجة تحليله للمؤسسات الصناعية الكبرى التى تقوم على العلاقات السلطوية، وعلى التخصص فى العمل وفق تسلسل هرمى محدد للسلطة من خلال قوانين ولوائح وإجراءات وقواعد ونظم مكتوبة، ولا مجال فيها للعلاقات الإنسانية أو المصالح الشخصية، وأيضاً نتيجة عمله بالجيش الألمانى الذى يسير طبقاً لمجموعة ضوابط مقننة جامدة وأوامر وتعليمات دقيقة صارمة وبشكل هرمى. يقول إيسوب: «حتى لو كان شكل الرأس جميلاً فهذا لا يضمن وجود العقل!». لذا فإن هذه البيروقراطية التى قام عليها الاقتصاد الألمانى الحديث، لا علاقة لها ببيروقراطية المجتمعات المتخلفة التى تحول الذهب إلى جير! فالمشكلة ليست فى البيروقراطية فى حد ذاتها بل فى «العقول» التى تطبقها وتحولها إلى معضلة إدارية. وهنا تصبح البيروقراطية أخطبوطاً يلتف حول مصالح العباد، وتزداد أيادى هذا الأخطبوط يوماً بعد يوم نتيجة القرارات التى تزيد تعقيد النظام، وأيضاً نتيجة منظومة التشريعات الهائلة التى تتوالد بفضل كهنة الإدارة والقانون حتى تحولت قوانين الإدارة إلى غابة متشابكة من القرارات واللوائح المنظمة. ومثل أى أمر يظهر فى بلادنا يكون فى البداية رائعاً، لكنه بقدرة قادر يتم تفريغه من مضمونه، ثم تحويله لأداة لتحقيق الأغراض الشخصية، أو تطويعه ليخدم عمليات الفساد، أو لتحويل الوسائل إلى غايات، وتقديس الإجراء الإدارى حتى لو أثبتت التجارب أنه فاشل ويؤدى إلى نتائج سلبية معاكسة للأهداف التى وُضع من أجلها. فنحن أساتذة فى الجمود البيروقراطى Bureaucratic inertia! والكارثة الحقيقية هى ظهور السيد «الباش كاتب» فى قلب النظام الإدارى البيروقراطى، ومعه تحولت البيروقراطية إلى «روتين قاتل». و«الباش كاتب» شخص يسير على قاعدة «الأصل فى الأشياء التحريم»، و«الأصل فى الإدارة تعطيل مصالح الناس المشروعة»، وهو يدعى العلم بكل شىء، وينتفخ ثم ينتفخ، ثم يصعر خده للناس، ثم يصبح من سدنة معبد التعقيد والتعطيل وإيقاف سير أى عملية إدارية. ويا سلام لو كان محدث نعمة.. خذ عندك «الغرور» و«الروتين» و«التكبر» وإذلال الموظفين الذين يعملون تحت إمرته، وإذلال خلق الله الذين رماهم القدر أمام مكتبه! إنه حَرْفى جداً؛ فلا يُعمل عقله فى نصوص اللوائح ولا يفهم «روح القانون». وإن تجرأ وأعمل هذا العقل فلصالح الرفض وتأخير المعاملات وفرض سياسة «الكعب الدائر» على المواطنين. إن البيروقراطية الشرق أوسطية تحولت إلى وحش مخيف يعيق حركة نمو الاقتصاد والاستثمار، ويهدر الوقت، ويستهلك طاقة المواطنين، ويجعل مصالحهم فى يد موظف ناقم على المجتمع، أو كسلان، أو حتى غبى أو مريض! وهى تحصر القرار بشكل مركزى، ومن ثم تضع عبئاً كبيراً على القيادات العليا فى مفردات كثيرة متنوعة تستهلك طاقتها. وفى تصورى أن القيادات العليا يجب أن تأخذ مساحة للتفكير الاستراتيجى لتطوير العمل، والمبادرات الإبداعية، ومتابعة الخطط، ووضع الحلول للمشكلات الإدارية، وإدارة الأزمات. أما استهلاك طاقتها فى جزئيات، فهذا إهدار لها وإهدار لموارد بشرية رفيعة فى أمور يمكن أن تتم بشكل لا مركزى. ومن هنا فأنا أشفق على الوزراء ونوابهم أو وكلائهم، كما أعذرهم لأن مقتضيات البيروقراطية تحاصر عقولهم ووقتهم. والإشفاق الأكبر على رؤساء الوزارة فى العالم الثالث فهم مكبلون بحشد من الأوراق والمذكرات اليومية والقرارات التى يجب أن تعرض عليهم ويوقعوا عليها، فضلاً عن الجولات اليومية والزيارات والاستقبالات. وإذا كانوا يفعلون ذلك، فمتى يفكرون ومتى يبدعون ومتى يمكنهم التحليل ورؤية المشكلات الكبرى ودراستها وحلها؟! والجماهير نفسها تساعد على هذا الحصار وهذا الإنهاك للقيادات، وهى معذورة لأنها تعودت أن الحل يأتى من أعلى، ولأن الإدارات الفرعية تصدّر دائماً المشكلات للإدارات العليا. وزد على هذا أن البيروقراطية تزداد كل يوم تعقيداً بسبب الفساد، فكلما زاد الفساد، يقوم المشرع بتشريع قوانين ولوائح جديدة ويقوم بزيادة المركزية فى القرار أملاً فى إعاقة الفساد. ثمة خلل واضح إذن!! لكن ما الحل؟ إنه فى الحوكمة أو الإدارة الرشيدة التى يمكن بها القضاء على ذلك النوع المقيت من البيروقراطية فى بلادنا المحروسة؟ هذا موضوعنا المقبل بإذن الله.