إن المدقق فى تاريخ الحضارات البشرية، يدرك حقيقية مؤكدة وهى أن لهذه الحضارات أسسًا ودعائم قامت عليها، ومنها أن نهضة الأمم لا تتحقق إلا عن طريق العلم، وأن الحضارات لا تُبنى إلا على قواعد علمية قوية، ولا يكاد يختلف اثنان على أن العلم هو الطريق الوحيد الذى تستطيع الأمم من خلاله تحقيق التقدم والرخاء. ولما كانت الجامعة هى المصنع المنوط به تشكيل عقول أبنائنا ووجدانهم، وإعدادهم لحمل رسالة التقدم فى الحياة، وإنتاج المعرفة، ونقلها وتطبيقها وتحويلها إلى منتجات صناعية وتكنولوجية ملموسة، على غرار ما حدث فى بعض الدول التى استطاعت تحقيق تلك النهضة، عن طريق العلم مثل ماليزيا وتركيا، إذ استطاعت تحقيق نقلة نوعية رفعت من مستوى معيشة مواطنيها أضعاف ما كانوا عليه منذ عشر سنوات وتحقيق الرخاء للمجتمع والناس. إن علاج المشكلات -بديهيًا- يتطلب تحديد مواطن الخلل وتشخيصها بدقة، والوقوف على أسبابها ووضع الحلول المناسبة لها، ومشكلة التعليم والبحث العلمى فى مصر ليست استثناء من هذه القاعدة.. ويمكننا الإشارة إلى أهم مواطن الخلل فى قضية التعليم الجامعى والبحث العلمى فى مصر على النحو التالى: أولا: البيروقراطية وأزمة الإدارة هذه البيروقراطية تتمثل فى ذلك العوار الذى يعترى اللوائح والقوانين التى تحكم وتنظم عمل هذه الجامعات والتى تتحول فى أحيان كثيرة إلى "لوغاريتمات" لا يفهمها الكثيرون، وقد يتولى أحد الموظفين الإداريين تفسيرها بحسب ما تراه الأهواء، وتطبيق حسب وجة المسئولين. إن هذه اللوائح والقوانين كانت وما زالت أحد أهم الأسباب فى تأخر مسيرة الجامعات وتردى البحث العلمى، والذين يعملون فى الجامعات المصرية، يعانون من البيروقراطية التى تكبلهم معظم الوقت عن القيام بواجباتهم العلمية والبحثية، بل لا أكون مبالغًا إذا قلت إن هذه اللوائح قد تحولت لدى البعض إلى أقفال قد ختمت على عقولهم، فلم يستطيعوا أن يتحرروا ويبدعوا فى أبحاثهم العلمية. ومن هنا فإن الحاجة ماسة إلى تعديل تلك اللوائح والقوانين، بما يخدم أولاً التمكين للبحث العلمى الذى يخدم المصالح العليا للبلاد، وبما يلبى حاجات الباحثين، وذلك من خلال الاستفادة من الدراسات العلمية، ووضع رؤى الباحثين والعاملين فى الحقل الجامعى فى عين الاعتبار، والأخذ من التجارب الدولية الناجحة ما يتوافق مع بيئتنا وثقافتنا وقيمنا، مع مراعاة المتغيرات التى تشهدها الساحة المصرية فى الوقت الراهن. إن قيادة حملة قومية كبرى فى إطار الجامعات، للنهوض بتلك القضية من الأهمية بمكان للخروج من المأزق البيروقراطى الراهن، والذى تسبب فى تكبيل عمل الجامعات خلال العقود الماضية، ولا أكون مبالغًا إذا قلت إن مصرنا اليوم تعانى من أزمة قانون يضبط عملها بشكل عام وآخر ينظم عمل الجامعات بشكل خاص. ثانيًا: مشكلات البحث العلمى إن الأبحاث العلمية المتراكمة التى امتلأت بها الرفوف والأدراج ولا تخرج إلى النور إما لأنها لا تستحق أن ترى النور؛ لأنها لا تحوى شيئًا ذات قيمة، أو أن البيروقراطية التى فرضتها اللوائح والقوانين قد منعتها من ذلك بحجة منع السرقات العلمية، أكبر مثال على تردى البحث العلمى فى مصر، فكثير من الأبحاث فى عدد من الكليات العلمية – على سبيل المثال - قد تتناول موضوعات قد تمت دراستها منذ الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضى، والعجيب أنك حينما تقرأ خاتمة هذه الأبحاث والنتائج التى توصلت إليها تجد أنها تختلف اختلافًا كليًا وجذريًا عن مثيلاتها التى كتبت فى الجامعات الغربية وتناولت الموضوعات ذاتها، وعندما تراجع هذا الأمر مع من قاموا بهذه الأبحاث يرجعون السبب فى اختلاف النتائج إلى العينات والمواد الخام التى يتم استيرادها من الخارج، والتى لم تُعدَّ أصلاً لإجراء أبحاث فى بلادنا. ولسنا بهذا نقلل من الإمكانات العقلية لعلمائنا، وإنما نود أن نؤكد على أن نقص الإمكانات وغياب المناخ المحفز على الإبداع، والإغراق فى التعقيدات الإدارية والبيروقراطية قد يخلق مشكلات علمية خطيرة ويكبل عمل الباحثين، ومن الإنصاف أن نذكر أن هناك كثيرًا من علمائنا، ورغم قلة الإمكانات المتاحة لهم يكتبون أبحاثًا علمية تستحق التقدير ولكنهم كمن ينحت فى الصخر..!! ولا ينبغى أن يُفهم من هذا أننى أدعو إلى تقليد الغرب تقليدًا أعمى، ولكننى أدعو علماءنا إلى عدم الاندفاع وراء الغرب فى كل شىء، وعليهم أن يؤسسوا لمنهجيات ومعايير علمية تتفق وثقافة مجتمعاتنا وظروفها الاجتماعية، وأن يصب البحث العلمى مباشرة لحل المشكلات التى تعانى منها مجتمعاتنا. وفى هذا الصدد، أقترح أن يتم تشكيل بنك أفكار أو مجمع علمى يضم مجموعة من اللجان المتخصصة من كبار العلماء وشباب الباحثين؛ لإعداد دليل بالمشكلات العامة التى يعانى منها مجتمعنا ومنها على سبيل المثال: (مشكلة المرور- مشكلة الأمن – مشكلة الصحة – مشكلة الغذاء – مشكلة العنوسة – مشكلات التربية – مشكلات القيم- مشكلات التشريعات – مشكلات الفساد الإدارى – مشكلات التكنولوجيا – مشكلات الطاقة... إلخ)، وما يتفرع عنها من مشكلات فرعية، وإعداد دليل شامل ليوزع على الجامعات ومراكز البحوث، بحيث يكون هذا الدليل هو المرجع الرئيسى فى اختيار الموضوعات البحثية التى يضطلع بها الباحثون، على أن يتم تحديث هذا الدليل كل عامين بصورة دورية، بحيث توجه نتائج هذه الأبحاث من الجامعات إلى المجمع العلمى المقترح، والذى يقوم بدوره بتوجيهها للمسئولين التنفيذيين، للأخذ بها فى علاج المشكلات كل فى موقعه. إن فكرة إنشاء مجمع علمى لمشكلات المجتمع، أو ما يطلق عليه فى الغرب Think tank مخزن الأفكار، كفيلة بأن تحمى البحث العلمى والقائمين عليه من الخروج عن السياق أو إهدار جهود الباحثين. كلية اللغات والترجمة – جامعة الأزهر [email protected]