تمثل واقعة النصب الأخيرة بدعوى توظيف الأموال التى تكشفت مؤخرا وتعرض لها بضعة مئات من المواطنين المصريين، ينتمى أغلبهم إلى محافظات الصعيد المهمشة مجرد حلقة ضمن ظاهرة بحث متواصل من قبل قطاع مهم من المجتمع المصرى عن فرص تنموية خارج النطاق الرسمى المنظم والمقنن. وذهبت أغلب التحليلات لمغزى تلك الواقعة وعوامل تكرارها إلى أحد تفسيرين: أولهما عامل يتعلق بعدم كفاية الأدوات الاستثمارية المصرفية لجذب مدخرات المصريين، فضلا عن تراجع جاذبية تلك الأدوات فى ظل الانخفاض النسبى لمعدلات الفائدة على الودائع التى بلغ متوسطها نحو 8 فى المائة حاليا، مقابل معدلات التضخم التى تتراوح حول 13 فى المائة سنويا. أما العامل الثانى فيتعلق بسمة مستحدثة بدأت تطغى على توجهات المصريين تجاه قيمتى العمل والإنتاج ألا وهى الرغبة فى الكسب السريع وعدم الميل للمثابرة وبذل الجهد. ومع صدقية كلا العاملين بقدر كبير فيما يتعلق بالنمط العام لسلوك المصريين الاقتصادى، فإن كلاهما يعكس فى الواقع تشوها تنمويا أكثر عمقا وتعقيدا وأكثر خطورة، ألا وهو عدم عدالة توزيع فرص التنمية المنتجة القادرة على استيعاب طاقات اقتصادية ومادية لدى طبقات واسعة من المصريين، ما يؤدى إلى أن تسلك تلك الطاقات سبلا عشوائية شديدة الخطورة، سواء أكانت غير منظمة مقننة أو منظمة مثل ظاهرة توظيف الأموال، أو حتى سبلا غير شرعية مثل تجارة السلاح غير الشرعية والمخدرات وأشكال مختلفة من تجارة البشر والبناء غير القانونى أو المنظم للعقارات، حتى وصل الحد بالبعض إلى بروز دعوات متهافتة تطالب بشرعنة وتقنين بعض أشكال تلك التجارة، على غرار المطالبة أخيرا بشرعنة تداول الحشيش. ولا يبدو أن أى تغيير فى العوامل المباشرة التى أشارت إليها اتجاهات النقاش بشأن واقعة توظيف الأموال تلك قادر بذاته، على إصلاح هذا التشوه التنموى أو معالجة تراجع قيم العمل والإنتاج. فمحاولة رفع أسعار الفائدة، فضلا عن عدم ملائمته الاقتصادية لمرحلة تحاول فيها الدولة زيادة معدلات الاستثمار، لن تفضى إلى تغيير هذا التوظيف المشوه للطاقات المادية والبشرية الكامنة والمهمشة فى المجتمع المصرى. حيث يرتبط هذا التشوه بتآكل موارد التنمية المتاحة فى فى المناطق الأكثر كثافة سكانيا فى الصعيد والدلتا، وفى المناطق المهمشة مثل المناطق الصحراوية على حدود مصر الغربية وسيناء. ويكشف تتبع بسيط لخريطة انتشار أنماط الجريمة المنظمة والإرهاب عن تطابق تلك الخريطة مع تلك المناطق المهمشة تنمويا. ما يتعين القيام به بالتالى يتجاوز بأى حال نطاق السياسات المالية والإجراءات القضائية والقانونية، حيث يلزم إعادة رسم خريطة تنموية لمختلف مناطق الجمهورية دون استثناء. ولعل فى توجه الدولة نحو فتح المجال أمام الاستثمارات الخارجية لتنفيذ مشروعات كبرى فى أكثر من منطقة فى مصر، يُعد شرطا ضروريا لاستغلال جزء مهم من موارد مصر التنموية المهملة، خاصة تلك الموارد التى جادت بها الطبيعة والجغرافيا على مصر. إلا أن تلك المشاريع الضخمة والكبرى، قد لا تنجح فى إصلاح هذا التشوه التنموى إذا لم يكن أحد أهدافها وأدواتها، فى آن واحد، هو استغلال تلك الطاقات المادية والبشرية التى تم تهميشها طوال ما يزيد على خمسة عقود منذ بدأ التحول نحو اقتصاد الدولة المنتجة والمحتكرة فى الخمسينيات، أوعند التحول عنه فى منتصف السبعينيات. بعبارة أخرى، إذا لم تكن تلك الطاقات المهمشة جزءا من أى طفرة تنموية قد تشهدها مصر فى المرحلة المقبلة، فإن خطرها سيستمر قائما سواء فيما يتعلق بسلوك سبل التجارة والنشاط الاقتصادى غير الشرعيين، بكل ما تحمله من مخاطر أمنية واجتماعية وقيمية ليس أقلها هدر قيم الإنتاج والعمل، حيث تتجاوز ذلك إلى تدمير البناء الاجتماعى للعائلة الممتدة فى مصر التى بات قوامها الأكثر قوة ماديا وليس الأكثر علما وحكمة. وللأسف فإنه لا يبدو فى الأفق رؤية واضحة لتوظيف تلك الطاقات المهمشة واستثمارها بشكل منظم وإيجابى بما يواكب المشاريع التنموية الكبرى، ويتكامل معها. وبالنظر إلى أن أغلب تلك الطاقات المهمشة تعد صغيرة الحجم أو متوسطته فى أفضل الأحوال، فإن عدم إيجاد سبل آمنة ومحمية لأى عملية توظيف منظمة لتلك الطاقات يهدد بتكرار فشل تجارب تنظيمها السابقة خاصة حين يتم تركها منفردة فى مواجهة تحديات الهيمنة الاحتكارية على تعلب على الاقتصاد المصرى حاليا. وفى هذا السياق، نظن أن الدولة ينبغى أن تتبنى مشروعا قوميا يستند على ثلاثة محاور لاستغلال تلك الطاقات المهمشة: إنشاء إطار تعاونى للمشاريع المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغير زراعية كانت أو صناعية أو حتى معرفية يما يضمن توفير حماية لتلك المشاريع ويعزز قدرتها على المنافسة. إعداد خريطة واضحة لتكامل تلك المشاريع مع المشروعات القومية الكبرى، من خلال سلسلة تشريعات وحوافز تعزز طلب الاستثمارات الخارجية على المكون المصرى فى أى من تلك المشروعات الكبرى. المحور الثالث ونظنه الأهم، هو أن يكون للقدرة الرأسمالية المصرية المتوسطة والصغيرة دورا مباشرا فى تلك المشروعات الكبرى، من خلال طرح اكتتابات عامة، برعاية الدولة ورقابتها وإشرافها، لإنشاء شركات كبرى تتولى إطلاق التنمية وإدراها فى أقاليم مصر المختلفة بحيث يتم منح سكان كل إقليم الأولوية فى الاكتتاب ثم فى العمل، حال توافر الكفاءة، فى الشمروعات التى تقوم شركات التنمية الوطنية تلك بتنفيذها. وفى الخلاصة، فإن المشروعات الكبرى، والاستثمارات الخارجية يعدان شرطين مهمين لإطلاق التنمية فى مصر، لكنهما وحدهما لا يمكنهما تحقيق تلك التنمية ما لم تكن طاقات مصر المهمشة شريكا أساسيا فى تلك التنمية.