لأنه السيد البدوى، ولأنها ديمقراطية بالمهلبية، فقد انتحر ميكافيللى خجلًا من صبيانه! إذا كان لدينا بعض الاحترام وقليل من الذاكرة، فقد آن ل«الوفد» أن يبكى على تاريخه. وبمناسبة الذاكرة والتاريخ، وفى مواجهة الأكاذيب السياسية، والبطولات الوهمية، أعيد نشر هذا المقال لعل التكرار يعلِّم الزمّار. مصر فى لحظة حرجة، ليس بسبب الأزمة الاقتصادية، وصعوبة المعيشة، ولا حتى بسبب تحديات الإرهاب ومخططات تقسيم المنطقة، ولكن بسبب انهيار المنظومات، كل المنظومات، فالعشوائية التى فرضت نفسها كواقع قبيح على الأرض، مجرد صورة محسنة للعشوائية التى تحتل الأدمغة. تشوهت الأفكار، وسقطت اللغة، وسيطرت الغرائز والانفعالات على العقل، لا فرق فى ذلك بين بائع جوال وبين أستاذ جامعى، وهناك أدلة وأمثلة كثيرة على هذا الانهيار، لكننى أتوقف اليوم أمام اللغة التى تحدث بها رئيس حزب الوفد الدكتور السيد البدوى، فى حوار صحفى يثير الأسى، ويكشف عن صراعات الكواليس البغيضة التى تحكم مظهر العمل السياسى المتهافت فى بلد الثورتين. يقول البدوى إن المرشحين للبرلمان عرضوا أنفسهم فى «مزاد علنى» لمن يدفع أكثر من الأحزاب السياسية، ووصف المشهد بأنه «سوق للنخاسة السياسية فى مصر بعد ثورتين»، وتحدث عن وجود مزادات لشراء المرشحين، ودفع «خلوّ رجل»، مؤكدًا أن البرلمان المقبل لن يكون معبرًا بأى حال من الأحوال، لا عن ثورة 25 يناير ولا عن ثورة 30 يونيو. ثم هاجم البدوى حزب «المصريين الأحرار» بالاسم، واتهمه بشراء المرشحين، ثم اتهم أحمد عز دون أن يذكر اسمه، واعترف بأنه يملك قدرة تنظيمية عالية جدا، ويسعى لتزعم كتلة برلمانية لن تقل بأى حال عن 80 نائبًا. وعندما سأله المحاور: تقصد أحمد عز؟ قال: نعم، وطالب بمحاكمات سياسية مبنية على قانون ثورى لعز ونظام مبارك! وشن هجومًا على الجنزورى ثم أسهب فى الحديث عن الصراعات فى أثناء تشكيل القوائم الانتخابية، وفى إطار نقده لدعم قائمة «فى حب مصر» من جانب جهات فى الدولة، كشف البدوى دون أن يقصد عن مهازل الحياة الحزبية والسياسية فى مصر، واعترف بنوع من التنسيق والترتيب مع جهات أمنية وإدارية، واتخاذ مواقف وقرارات لا تنبع من القناعة الشخصية، ولا تعبر عن برنامج الحزب، ولكن نظرًا إلى الظروف الصعبة التى تمر بها البلاد، فهو يقول بالنص: «دخلت قائمة فى حب مصر لمصلحة البلد فقط، وليس عن اقتناع بالقائمة، ولكن فى النهاية بقرار الهيئة العليا»، ثم برر تهديداته بالانسحاب من الحياة السياسية بأنها مجرد تعبير عن الغضب، لأنه شعر، حسب قوله، أن نظرة عدد من مؤسسات الدولة إلى «الوفد» ليست كما يجب أن تكون، ولا تناسب مواقف الحزب فى الثورتين! لم يقل البدوى ماذا يطلب من هذه المؤسسات، وما علاقته بالحزب، ولم يقل لنا هل هناك ثمن يجب أن تدفعه هذه المؤسسات مقابل المشاركة فى 25/30؟ كل هذا «التخبيط» الذى طال أشخاصًا بالاسم مثل الدكتور عماد جاد، والبدوى يعتبر أنه دبلوماسى، يلمح ولا يصرح ويقول فى حواره: لو اتكلمت بصراحة هاكربس الدنيا، أنا راجل مافيش على راسى بطحة، أنا لم أتاجر مع الدولة، ولم أشترِ مترَ أرض واحدًا منها، ولم أبع لها شيئًا». الدكتور البدوى ليس على رأسه بطحة، ويقول لمن يتهمه بأى شىء «اخبط دماغك فى الحيطة». هذا الرجل الذى يستخدم توصيفات النخاسة وشراء المرشحين، ويهاجم أحزابًا وأشخاصًا وتكوينات سياسية بالاسم لمجرد اختلافه معها، هو رئيس أعرق حزب ليبرالى فى البلاد، بمعنى أنه يمثل أفضل نموذج للخطاب السياسى واحترام الرأى الآخر، والحكمة فى إدارة الخلافات! هذا الرجل الذى تحالف مع الجميع واختلف مع الجميع، ولم يعرف له أحد موقفًا ثابتًا، والذى شاع عنه التنسيق مع أجهزة مبارك، وبرر ومرر لأحمد عز الانتخابات البرلمانية فى 2010، وكسر اتجاه المقاطعة، وأثار اللغط أينما وُجد، هو الآن الذى ينتقد.. هو الآن الذى يعظ. مسكينة يا مصر، ومسكينة أيتها الديمقراطية، كم من المهازل تُرتكب باسمك.