توقفنا الأسبوع الماضى عند التباين بين التصورات العربية والأمريكية فى ما يتعلَّق بحدود القوة الأمريكية وعند سياسات أوباما تجاه الربيع العربى، ونواصل الحديث.. تصورات الرئيس أوباما عن حدود القوة الأمريكية هى رد فعل محمود لسياسات سلفه الذى تصوَّر فى أثناء فترة رئاسته الأولى أن واشنطن تستطيع إعادة تشكيل المنطقة، ولكنها تبالغ فى التطرُّف المضاد، ونلاحظ أيضًا أن خطاب أوباما ينظر إلى المنطقة على أنها كل، وأن هذا الكل أهم من مكوناته، وإن لم أكن مخطئًا، فإن معنى هذا أنه لا ينظر إلى كل دولة على حدة إلا فى ما يتعلق بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأحسب أن تلك المقاربة أعطت ميزة نسبية لتنظيم الإخوان المسلمين المتمدد إقليميًّا، ومن ناحية أخرى يمكننا القول إنه لا ينظر إلى خصائص كل دولة من دول المنطقة إلا فى إطار مقارن، وهذا فى صالحنا أحيانًا، حيث تفتقر المنطقة إلى مؤسسات عسكرية تتمتع بمصداقية. وهناك قضية أخرى، وهى موقف الولاياتالمتحدة من الطائفية السائدة فى المنطقة، يجب أن لا نخدع أنفسنا، الولاياتالمتحدة لم تخلقها، هذا الداء صناعة محلية، الطائفية والقبلية من سمات تلك المنطقة، وأصبحت سلاحًا فى أيدى حكام مستبدين راغبين فى تفتيت المجتمعات التى يحكمونها وفى أيدى قوى إقليمية ودولية طامعة فى ثروات المنطقة ومعتمدة على الطائفية لإضعاف الجبهة الداخلية لخصومهم. هذا الكلام معروف، ولكننى أكرره لسبب رئيسى، نحن فى مصر ننظر إلى الدولة ومؤسساتها على أنها بانية وموحدة للأمة، مزيلة للاحتقان الطائفى والطبقى، مكون أصيل من الشخصية الوطنية، ونقدسها لتلك الأسباب، ويبدو لى أننا لا ننتبه كثيرًا إلى الفارق الشاسع بيننا وبين بعض الدول الأخرى فى الإقليم، التى قسّمت وفتّتت مجتمعها للتحكُّم فيه ونهبه. نعود إلى سياسات الرئيس الأمريكى، بداية لا نلومه إن كان تقييمه للأنظمة ولأجهزة دول المنطقة سلبيًّا للغاية، لا سيما إن تذكّرنا أن الأيديولوجيات السائدة حاليًّا فى النخب الغربية تتوجَّس من مفهوم الدولة وتميل إلى اعتبار الدولة عائقًا يعطّل التحوُّل الديمقراطى ويمنع إقامة اقتصاد السوق، ولكننا ننتقده لأنه لم ينتبه إلى الفروق بين الدولة المصرية وغيرها، ثانيًا، من الواضح أن إدارته (وغيرها) ترى تارة فى الطائفية سمة أصيلة ورئيسية من سمات مجتمعات المنطقة لا تستطيع أى قوة ناعمة كانت أم غاشمة أن تتجاهلها، وترى فيها تارة أخرى نتاج سياسات حقيرة لأنظمة حقيرة، وتميل إلى الاعتقاد أن الاحتقان الطائفى سيزول إن اختفت أسبابه، أى الأنظمة التى أججته. وفى كل الأحوال لم ينتبه أوباما وغيره من الحكام الغربيين والمحليين إلى ضرورة توخّى الحرص فى ما يتعلق بالبُعد الطائفى، تجاهله مستحيل، استئصاله السريع غير ممكن، ولكن الاعتراف بوجوده يكرّسه ويدعمه، محاولة تجسيده وتمثيله سياسيًّا له تبعات مذمومة ومثيرة للفتن، ناهيك بمخاطر السياسات القصيرة النظر المعتمدة على استغلاله وعلى الإثارة المتعمدة للفتن التى تحرق يد مَن يطلقها إن آجلًا أو عاجلًا، حل تلك المعضلة يقتضى المضى فى طريق وعر ومحفوف بالمخاطر، طريق بناء الدولة الحديثة القوية (ولا يجوز الخلط بين القوة والاستبداد)، فالدولة هى الدواء. حتى فى البلاد التى كانت فيها الدولة الداء وأصل البلاء. ورفض أوباما خوض تلك المغامرة فى العراق بحجة حدود القوة الأمريكية، ونعذره ونلومه فى آنٍ واحد، نعذره لأن جمهور مَن يلومونه يميلون إلى إعفاء سكان وحكام المنطقة من المسؤولية عن الأوضاع الكارثية وإلى انتقاد أى فعل أمريكى، نلومه لأن الولاياتالمتحدة دمَّرت العراق (وكانت لأوباما مواقف مشرفة ضد حرب 2003)، وكان عليها تحمُّل مسؤولية إعادة بنائه.. وللحديث بقية.