لا شك عندى فى أن المعركة المجيدة التى يحاربها إسلام بحيرى، ويحاربها معه إبراهيم عيسى، كل بطريقته الخاصة، لتخليص العقل المصرى مما عشش فيه من خرافات وأفكار تتنافى مع أبسط متطلبات المنطق والعقل، معركة تستحق أن يقف فيها إلى جانبهما كل كاتب ومفكر مصرى وعربى حر، بل كل إنسان يروم لوطنه الخير والتقدم فى عصر العقل والعلم، فهى معركة العقل والعصر معا، وهى معركة خان مؤسسة الأزهر التوفيق فى شنها ضد إسلام بحيرى الذى كان عليها أن تشكره، لأنه حرّك المياه الراكدة من حوله، والتى عاث فيها أصحاب الفكر الوهابى المتخلف فسادا وتعكيرا، فقد كان الكثيرون يلوذون بمؤسسة الأزهر، يستمدون منها العون على تأكيد وسطية الإسلام وسماحته وعقلانيته، ولا يتصور محب لتلك المؤسسة العريقة ومقدر لدورها الكبير أن يصدر عنها كلام مثل ذلك التى احتواه بيانها الإعلامى الغريب، والذى صاغه عقل أمنى مريب، لا يريد لمؤسسة الأزهر أى خير، بل يسعى لتوريطها فى معركة أعداء الأزهر الألداء من أصحاب الفكر المتطرف الذى يسعى لتشويه سماحة الإسلام وعقلانيته المضيئة. يقول البيان إن «الأزهر الشريف هو المرجع الوحيد فى الشؤون الإسلامية وفقا للدستور، وهو الهيئة العلمية الإسلامية التى تقومُ على حِفظ التراث الإسلامى ودراسته وتجليته للناس كافَّة، وتحمُّل أمانة توصيل الرسالة الإسلامية إلى كل شُعوب المعمورة، وتعمل على إظهار حقيقة الإسلام السَّمحة». ومع خطأ البيان فى الاقتباس من الدستور الذى لا يقول إن الأزهر هو «المرجع الوحيد» كأنه يحتكر وحده الحقيقة، فإن تلك الديباجة المهمة تؤكد أهمية دور الأزهر فى العمل على إظهار حقيقة الإسلام السمحة، وتجليتها للناس كافة، وهى الحقيقة التى تستلزم منه الوقوف مع إسلام بحيرى فى حملته على كل الفكر الذى جلب إلى «حقيقة الإسلام السمحة» تلك التشدد والتعصب والخرافة، وليس تقديم بلاغ أمنى ضده، يطالب بمحاكمته وإغلاق المحطة التى يقدم برنامجه المهم «مع إسلام» منها. ويمضى هذا البيان الغريب فيقول إن الأزهر الشريف «تقدم بشكوى إلى المنطقة الحرة الإعلامية بالهيئة العامة للاستثمار ضد البرنامج المذكور، لما يمثله من خطورة فى تعمده تشكيك الناس فى ما هو معلومُ من الدين بالضرورة، بالإضافة إلى تعمُّقه فى منُاقضة السّلم المجتمعى، ومُناهضة الأمن الفكرى والإنسانى، مما يجعل البرنامج يمثل تحريضا ظاهرا على إثارة الفتنة وتشويه للدين ومساس بثوابت الأمَّة والأوطان وتعريض فكر شباب الأمة للتضليل والانحراف». وهى قائمة من الاتهامات الأمنية (حول «مناقضة السلم المجتمعى»، ومناهضة شىء غريب اسمه «الأمن الفكرى والإنسانى»، وتحريض على الفتنة و«مساس بثوابت الأمة والأوطان») لا تليق بمؤسسة فكرية شامخة مثل مؤسسة الأزهر، كان عليها أن تنأى بنفسها أن تكون طرفا فى معركة تروم فى جوهرها، الكشف عن «حقيقة الإسلام السمحة»، وقد أصبح الإسلام فى الغرب خاصة وفى بقية العالم من ورائه، عنوانا على التشدد والتخلف والإرهاب، خصوصا أن الأزهر نفسه لم يحرك ساكنا طوال سنوات سيطرة الإخوان والإسلام المتشدد على عدد لا بأس به من الفضائيات تنشر الخرافات وفكر التكفير، ولم يرفع فى الماضى القريب أو حتى فى الحاضر الراهن أى شكوى ضد الفضائيات التى تنشر الخرافة والإرهاب باسم الدين. وها هو بعد أن سكت دهرا، ينطق بهذا البلاغ ضد برنامج واحد يريد أن يحكِّم العقل والمنطق فى ما تم تلقينه لنا عبر قرون، وكأنه «المعلوم من الدين بالضرورة»، وهو كما برهن إسلام بحيرى، وعن حق، وطوال عدد كبير من الحلقات، ليس أبدا من الدين بالضرورة. ولم يجانب التوفيق مؤسسة الأزهر وحدها فى هذا الأمر، بل جانب أيضا يوسف زيدان حينما انضم إلى جوقة من يهاجمون إسلام بحيرى، وهو الذى اكتوى من موقف مماثل حينما اقترب من فكر الأروقة الخلفية للتدين المؤسسى المرتبك فى روايته «عزازيل». وكأنه لا يدرك أنه يتناقض فى هجومه على إسلام بحيرى، مع أهم ما تنطوى عليه روايته تلك من مواقف عقلانية وإنسانية، لأن وقوفه عند المظهر الذى يتمثل فى استخدام إسلام لبعض الأوصاف الحادة فى وصف البخارى وابن تيمية وغيرهم ممن تواضع الكثيرون على إحاطتهم بهالات زائفة من القداسة، وتجاهله للجوهر وهو تحكيم العقل والنص القرآنى المقدس، يتناقض جوهريا مع الموقف الفكرى المضمر فى روايته الشهيرة. ناهيك بأنه لا يدرك أن عملية نزع هالات القداسة الزائفة كثيرا ما تتطلب مثل تلك اللغة الصادمة التى يعيبها الكثيرون على إسلام بحيرى فى وصفه لهؤلاء البشر العاديين من أمثال البخارى وابن تيمية الذين يحولونهم إلى قديسين، مع أن هذا الأمر ليس من الإسلام فى شىء، لذلك كان على يوسف زيدان اتساقا مع الفكر الذى صاغه فى روايته الشهيرة، وفى غيرها من كتاباته، أن يقف مع إسلام بحيرى، ومع إبراهيم عيسى، ومع كل من يحاولون إعادة تأسيس العقل فى التفكير فى الإسلام، وليس مع تلك الهجمة الشرسة من أنصار تعطيل العقل ضده. لأن المعركة التى شنها إسلام بحيرى على هذا الفكر المتعصب والغريب بحق عن «حقيقة الإسلام السمحة» هى معركة مصر المستقبل قبل أى شىء آخر، وهى معركة طال تأجيلها منذ أن بدأ الفكر الوهابى المنغلق والمتشدد فى الزحف بخرافاته على العقل المصرى منذ سبعينيات القرن الماضى، واستخدام السادات لهذا الفكر وتشجيعه له كى يتخلص مما كان يواجهه من نقد عقلى ووطنى من التيارات العلمانية واليسارية لسياساته التى جرّت مصر إلى حضيض الهوان والتبعية، ولأن هذا الفكر المتشدد، كما اكتشفنا فى سنة حكم الإخوان التعيسة فكرا معاديا للوطنية والعقل معا، فإنه استخدم السادات بأبشع من استخدام السادات له، فسعى إلى تحقيق هيمنته على مصر، وأسدل الحجاب على رؤوس النساء وعلى عقول الرجال معا. وليس غريبا أن يكون الرجل الذى قاد حملة إسدال الحجاب على رؤوس النساء وعقول الرجال وقتها، وهو محمد متولى الشعراوى، هو نفسه من صلى لله شكرا حينما هزمت مصر عام 1967 باعترافه الصريح نفسه، وهو عمل يؤكد أنه شخص لا وطنية له، ولا يحب مصر ويصلى لله شماتة فى هزيمتها. وها هى أصوات كثيرة تريد تحويل هذا الشعراوى المعادى لمصر إلى إيقونة مقدسة أخرى، كالبخارى وابن تيمية، لا يُسمح بنقدها، ناهيك بمهاجمتها. وسنواصل متابعة القضية فى الأسبوع القادم.