عندما تنطلق الرصاصة من فوهة البندقية، لا أحد يستطيع إعادتها، أو إيقافها، فإما تطيش وتسقط فى رمال النسيان، وإما تصيب هدفها فتغير مصائر وتصنع واقعًا جديدًا بكل ما فيه من مكاسب وخسائر. هكذا رأيت طلعة الطيران الحربى الذى استهدف قصف مواقع للإرهاب فى ليبيا، إنها ليست ضربة فردية للانتقام، ولا تلويحة ردع لإخافة أعداء الدولة فى الداخل والخارج، لكنها فاتحة عمل كبير، وبداية مهمة طويلة ومعقدة. لم يكن الأمر مفاجئًا، فقد كتبت عن الحرب المحتملة عدة مرات، وما زلت أنتظر جولات أعنف وأوسع فى هذه الحرب الضرورية لترتيب كثير من الأوضاع فى المرحلة المقبلة. لقد أخطأنا عندما صدقنا أن أكتوبر هى آخر الحروب.. تاريخ الإنسانية يؤكد أن السلام هو الاستثناء، والصراع هو الأساس، ويبدو أن الأوان قد آن لندفع ثمن تخاذلنا الطويل فى الداخل والخارج، لقد فرطنا فى أمننا القومى، أهملنا الحدود، وتغافلنا عن التماسك الاجتماعى، حتى صارت أرض الوطن مثل قطعة الجبن الهشة. لكن مصر لا تقبل الهوان طويلًا، وعندما تنتفض تستيقظ المعجزات معها، فقد خاضت كثيرًا من المعارك الفاصلة وهى فى أسوأ حال، لكنها كانت تخرج أقوى وأفضل مما دخلت، فلم تكن موازين القوة فى صالح أحمس وهو يواجه الحيثيين، ولا فى جانب صلاح الدين وهو يواجه الصليبيين، بعد أن فشل فى حماية قوافل الحجاج، ولا فى صالح المماليك المتنازعين على السلطة بعد موت آخر سلاطين الأيوبيين وهم يواجهون المغول، ولا فى صالح بورسعيد 56، والسويس 73، وطبعًا ليست فى صالحنا الآن، فنحن نعانى من العشوائية والضعف والتفكك والتشرذم فى كل المجالات، فالفساد أَكَل الانتماء، والخلاف فى الرأى الْتَهَم الود والتوافق، وانهيار الثقة دمر إمكانية التكاتف والانقياد تحت إمرة قائد أو زعيم، وهذه هى المشكلة الأصعب التى تواجه السيسى، فالواقع الحالى لا يسمح بنجاح الأفكار الشمولية القديمة، إذ يستطيع الحاكم حشد أنصاره بالإعلام الموحد، والتنظيم السياسى المسيطر، ويستخدم أساليب التأميم والاعتقال والمصادرات والإسكات بطرق شتى، لكن هذا لم يعد ممكنًا فى هذا الزمان، بعد أن تعددت وسائل الاتصال، وانفرط الإعلام، وتضخم إحساس الفرد فى مواجهة هيمنة الدولة، وازدهرت مؤسسات مراقبة وحماية الحريات بدعم من المجتمع الدولى. هذا كله خير لا نتمنى زواله، لكن الأمطار التى لا تجد مجرى لا تصنع نهرًا، تتحول إلى بقع متناثرة حتى تجف، أو تصبح مستنقعات ضارة. كيف إذن يمكن للسيسى أن يجمع بين كل هذه الروافد المتباعدة ليصنع منها نهرًا؟ كيف يمهد الطريق للمستقبل حسب الخريطة التى أعلنها فى 3 يوليو؟ كيف يحيد المخالفين ويقلل من قدرتهم على تعطيل المسيرة، ويحشد المؤيدين ويحثهم على العطاء؟ فكرت كثيرًا فى ضرورة إعلان الأحكام العرفية، وكنت أتردد لارتباط المصطلح بالانقلابات العسكرية والحروب، حتى صار كلمة سيئة السمعة، كما خشيت من وضع مهمة بناء وتطوير الدولة فى موقف متعارض مع المكتسبات الديمقراطية والحريات الفردية، ولكن مع تصاعد مخاطر الإرهاب بهذا الشكل المخيف فى الداخل والخارج، ووجود أرض سانحة له بين أعداد كبيرة من السكان نتيجة تجريف الوعى وتدنى حالة الانتماء إلى الوطن، عادت الفكرة، خصوصًا أن المادة الأولى فى قانون الأحكام العرفية المصرى تنص على تفعيل هذا القانون إذا تعرض الأمن والنظام العام فى الدولة أو فى جهة منها للخطر، أو بسبب وقوع عدوان مسلح عليها أو خشية وقوعه وشيكًا، أو بسبب وقوع اضطرابات داخلية، كما يجوز إعلان الأحكام العرفية لتأمين سلامة القوات المسلحة وضمان تموينها وحماية طرق مواصلاتها وغير ذلك مما يتعلق بتحركاتها وأعمالها العسكرية خارج الأراضى ، وهذا النص ينطبق تمامًا على ما نحن فيه وأكثر. أعْلِنْها يا ريِّس، لأنها تطبق دون إعلان منذ يناير 2011، وللأسف تطبق بتشوهات قانونية وإعلامية فتتحمل الدولة سلبياتها ولا تجنى الفائدة المرجوة منها، أعلنها يا ريس لنتخلص من المهاترات والتعطيل، ونركز فى الهدف المركزى للمرحلة، أعلنها يا ريس مع التعهد باستكمال الاستحقاقات الديمقراطية، أعلنها بالتنسيق مع الأعضاء الموقعين على اتفاقية الدفاع العربى المشترك، أعلنها لترتيب مواجهة عسكرية إقليمية شاملة ضد الإرهاب تحت مظلة جامعة الدول العربية. وللحديث بقية..