شهد العالم، منذ نهاية الحرب الباردة، انخفاضا مستمرا فى عدد الصراعات المسلحة، وبلغ عدد الإجمالى للحروب فى مطلع العقد الحالى أقل من نصف ما كان عليه فى عام 1990. ويشير مشروع أوبسالا لبيانات الصراع «Uppsala Data Conflict Project»، وهو إحدى قواعد البيانات الأكثر شهرة وأهمية فيما يتعلق برصد الحروب، إلى أن عدد النزاعات المسلحة الكبرى بلغ 37 نزاعا فى عام 1990، مقابل 15 نزاعا فى عام 2010. وينبع هذا التطور فى الأساس من تراجع سريع فى عدد الحروب الأهلية أو الصراعات الداخلية، وهو نمط الصراعات الذى تصاعد بشكل جوهرى بعد نهاية الحرب الثانية عام 1945 وحتى عام 1990، إلا أن عدد الصراعات الدولية (سواء أكانت بين الدول، أم حروب بين دول وفاعلين آخرين خارجها من غير الدول، وهو ما بات ملحوظا فى العديد من حالات التدخل الدولية)، تراجع بدوره. وخلال العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، مثلت الصراعات بين الدول أقل من 7% من العدد الإجمالى للصراعات المسلحة (صراعان من أصل 29 صراعا امكن رصدها). ومثَّل عام 2010 العام السابع من سبعة أعوام متوالية، لم تشهد نشوب حروب مباشرة بين الدول. وفى الواقع، فإن النظام الدولى يشهد مؤشرات اتجاه عام إلى اختفاء الحرب التقليدية بين الدول. ويلاحظ، فى هذا السياق، أنه لم تندلع أى حرب بين القوى الكبرى فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهذه ظاهرة فريدة من نوعها فى التاريخ الحديث. ويلاحظ البروفيسور ستيفن بينكر فى كتابه The Better Angels of Our Nature ، أننا نحيا فى المرحلة الأخيرة من عملية تطور بطيئة بدأت منذ أربعة قرون، تراجعت فيها تدريجيا، ولكن بشكل جوهرى فى نهاية المطاف، الحروب بين القوى الكبرى. تراجع بالمثل عدد ضحايا الحروب، على الرغم من التطور الملحوظ فى منظومات الأسلحة، وازدياد قدرتها التدميرية. ويمكن إجمال أبرز العوامل المفسرة لهذا الاتجاه فيما يلي: - تعقد بنية النظام الدولى، من حيث فاعليه وقضاياه، وأدوات ممارسة السياسة الخارجية فى إطاره، وبروز ظاهرة الاعتماد المتبادل، وما ترتب عليها من فتح مجالات للتعاون، وتشابك المنافع التى عززت من أهمية الحفاظ على حالة السلم. - ازدياد تأثير سيسات الردع، وضبط التسلح، بين القوى الكبرى فى ظل المخاطر الناجمة عن تطوير السلاح النووى وقدرته التدميرية الشاملة. - ازدياد درجة مؤسسية هيكل النظام الدولى، وما كان لهذه المؤسسية، وبخاصة فى مجال القانون الدولى وحقوق الإنسان، من دور فى تنظيم العلاقات بين الدول، وتوفير قنوات وأدوات مختلفة لإدارة نزاعاتها وتسويتها. - أخيرا، انتشار نموذج الديمقراطية الليبرالية بما يتضمنه من تأكيد مفاهيم المؤسسية، والرشد فى صنع القرارات، والإدارة السلمية للاختلافات، واحترام حقوق الإنسان، وجميع هذه العوامل تصب فى اتجاه الحد من النزعة لخوض صراعات عنيفة. بالرغم من هذا التجاه العالمى، يبدو أن النظام الشرق أوسطى مصمم على أن ييميز ويتميز سلبيا، حيث يُعد من أكثر الأنظمة الإقليمية الفرعية فى عالمنا المعاصر التى شهدت انتشارا لأنماط الحروب المختلفة، بمعدلات تفوق معدل اندلاع الحروب على الصعيد الدولى. ويرتبط ذلك بما يمكن أن نلحظه بوضوح من انخفاض درجة تحقق كل عوامل تراجع ظاهرة الحرب المشار إليها آنفا، فى المنطقة. وفى داخل النظام الشرق الأوسطى، نلمح كذلك تباينا بين أنظمته الإقليمية الفرعية فى مدى قابليتها لنشوب الحروب. حيث عكس كل من النظام الإقليمى الخليجى، والنظام الوظيفى المرتبط بالصراع العربي-الإسرائيلى، درجة أعلى فى قابلية نشوب الحروب. وافترضت العديد من النظريات، التى عُنيت بتفسير السياسات فى منطقة الشرق الأوسط، أن التحول نحو الديمقراطية من شأنه أن يؤدى إلى تعزيز فرص السلام فى هذا الإقليم المضطرب تقليديا. وفى بدايات ظاهرة الربيع العربي ، تصاعد التفاؤل بإمكانية تعزز فرص السلام وتراجع حدة الصراعات العنيفة. إلا أن الواقع الذى تكشفت عنه تطورات العامين الماضيين عكس اتجاها مخالفا لهذا التفاؤل المبدئى. إذ ازدادت، خلال العامين الماضيين، حدة الصراعات العنيفة والحروب الداخلية فى أكثر من دولة من دول الربيع العربي ، فيما تصاعدت مخاطر تفجر الصراعات العنيفة فى البقية الباقية من دول الإقليم بأسره. وبدا، خلال الأعوام القليلة الماضية، أن تجذر عوامل الخلاف والصراع فى منطقة الشرق الأوسط أكثر غلبة من القدرة على إتمام تحول ديمقراطى سلمى وسليم فى بلدان الربيع العربى، وعبر الإقليم عامة. يرجح بالتالى أن يخالف الشرق الأوسط الاتجاه العالمى نحو تراجع ظاهرة الحرب عامة، خاصة فى ظل حقيقة أن تلك المنطقة باتت على ما يبدو هى الفضاء المفضل لدى القوى الدولية الكبرى لإدارة صراعاتها، مثلما يبدو بجلاء فى الحالة السورية التى تشهد صراعا بين الامبراطورية الأمريكية وحلفائها، والقوى الدولية الصاعدة والساعية لتحدى الهيمنة الأمريكية. يطرح ذلك تحديا رئيسيا امام دول المنطقة جميعها، والتى لا يبدو أى منها محصنا بشكل تام تجاه مخاطر الحروب، فى إمكانية التوافق حول نظام للأمن الجماعى يحد ليس فقط من العوامل التقليدية للحروب، مثل سباقات التسلح بين الدول، ولكن يتضمن قواعد عامة لمواجهة الإرهاب وتنظيماته وأفكاره، ضمانا لتأمين مستقبل المنطقة جميعها، فيما وراء أى مصالح آنية ضيقة لتلك الدولة أو تلك. لكن لا يبدو أن المنطقة قادرة حتى اللحظة أن ترى فى مستقبلها ما يتجاوز الصراع على السلطة أو النفوذ.