د. جهاد عودة برزت المسألة الشرقية فى العلاقات الدولية لأول مرة فى بداية القرن التاسع عشر حتى نهاية الدولة العثمانية مارس 1924 لتعبر عن عجز الإمبراطورية العثمانية فى السيطرة على أجزائها خصوصا العربية منها، فيما وصف فى الأدبيات التاريخية بظاهرة «الرجل المريض». وأسست هذه المسألة سياق الصراع والتسوية بين الدول الأوروبيبة والإمبراطولية العثمانية. وانتظمت علاقات الصراع فى اربع قواعد كبرى: أولا: حصول الأقاليم العربية على استقلالها الذاتى بإعلانات أوروبية، ثانيا، تأسيس المنطق الغربى للحدود العربية. ثالثا، انتشار الحركات اليمينية والقومية المحلية المضادة للعثمانية، كالوهابية والسلفية والقومية العربية والقومية السورية. رابعا، بروز التنسيق الأوروبى، خصوصا البريطانى - الفرنسى فى اقتسام أملاك الإمبراطورية العثمانية. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين أخذت المسألة الشرقية منحى مختلفا ومنطقا جديدا، وهو فشل القوى السياسية والاجتماعية التقليدية والمدنية الحديثة فى تأسيس الدولة المستقلة فى العالم العربى ولم ينج من هذا المصير إلا تونس التى استطاعت نخبتها الحديثة فى التدرج إلى الاستقلال. وظهرت المسألة الشرقية فى أربع قواعد جديدة وهى: أولا، انتشار الانقلابات العسكرية افتتاحا بالعراقوسوريا ومصر وغيرها، ثانيا، التغير إلى نظام القطبية الثنائية الدولية وسيادة منطق الحرب الباردة . ثالثا، نشأة إسرائيل والصراع العربى - الإسرائيلى، وفشل العرب فى الحفاظ على فلسطين عربية. رابعا، محاولة الرئيس عبد الناصر فى تأسيس هيمنة عربية وخلق مركز عربى مستقل للحركة الدولية فى ظل نظام القطبية الثنائية. ومع الستينيات من القرن الماضى حتى غزو العراق للكويت فى 1990 تعمقت المسألة الشرقية لتفصح عن دول عربية عاجزة عن التنمية وعاجزة عن الديمقراطية وعاجزة عن التفاعل الإيجابى مع المخططات العسكرية الإستراتيجية الغربية والإسرائيلية، ولكن الانتصار العسكرى المصرى فى أكتوبر 1973 ، واسترجاع سيناء الأرض المصرية الغالية، وانتهاج السادات منهج التفاوض وأن السادات قادم من المستقبل وليس من هذه اللحظة، كانت هى النقطة الرائعة والمضيئة الوحيدة خلال هذه الفترة. واتصفت هذه الفترة بأربع قواعد جديدة وهى: أولا: فشل مؤسسات العمل العربى المشترك وتعمق الحروب الباردة والساخنة، ثانيا: الانخفاض المتتالى لسقف شرعية الدول العربية وتوقعات المواطنين منها، ثالثا: تجذر الدولة الإسرائيلية على الساحة الدولية وبدء عملية السلام والتطبيع العربية. رابعا: وقوف الدول العربية عاجزة أمام تحولات النظام الدولى وفشل كل المحاولات الغربية فى إشراك العرب فى حوار جماعى مشترك. وبدأت المرحلة الحالية بتحرير الكويت مرورا بكارثة 11 سبتمبر 2001، وبدء الحرب الدولية ضد الإرهاب إلى قمة إسطنبول للناتو وقمة أطلنطا للدول الصناعية، وكلتاهما فى 2004، حيث تم صياغة مفهوم الشرق الأوسط الواسع وهما اللتان شرعتا جماعية التدخل الدولى فى شئون الدول العربية وتغيير النظم السياسية. وهذه المرحلة مازالت دائرة، ويبدو أنها تتسم بأربع خصائص وهى: أولا: التوجه نحو إخضاع الدول العربية للتحقيق الدولى والمحاسبة الدولية والغزو الدولى إذا تطلب الأمر كذلك. ثانيا: التوجه نحو محاولة إعادة صياغة معادلة الشرعية الداخلية بشكل يسمح بالمشاركة فى شئون الوطن بأسلوب سلمى وقائم على المساواة. ثالثا، التوجه نحو تفكيك مركزية الدول العربية الحديثة. رابعا: التوجه نحو إنهاء جميع الصراعات والطموحات الإقليمية ودمج الدول العربية كإقليم ثقافى منتظم فى النظام الدولى الجديد. وهذه الخصائص الأربع تطرح أمام صانع القرار العربى معضلة جديدة للأمن القومى. حيث إن مفهوم معضلة الأمن فى الأصل ينصرف إلى أن البيئة الدولية تعتبر بيئة منقسة إلى دول، وأن كل دولة لا تشعر بالأمن الحقيقى إلا فى حالة القضاء على الخصوم الذين لديهم قدرة على تهديد هذا الأمن، ولكن الدول فى النظام الدولى مقيدة فى طموحاتها الأمنية والإستراتجية بتوزيع القدرات بين بعضها البعض. وتنشأ معضلة الأمن، ومن التناقض بين هذين الحدين، حيث تحاول كل دولة أن تسيطر على إقليمها الجيوبولوتيكى. وربما أحسن مثال على هذه المعضلة هو الصراع العربى - الإسرائيلى. حيث ظلت الدول العربية والكثير من القوى السياسية العربية من ناحية، وإسرائيل والقوى الصهيونية من جانب آخر تريد القضاء على بعضها بعضاً. وتتالت الحروب بين الفريقين، وكذلك محاولات التسوية والسلام. ومازل الصراع دائرا، وكان هذا الصراع يستمد قوته الدافعة من انقسام العالم إلى قطبين كبيرين، هما الاتحاد السوفيتى والولاياتالمتحدةالأمريكية. ولكن مع نشوء النظام الدولى الجديد، وبالتالى تغير نمط توزيع القوة بين الدول يصبح السؤال المهم للمنطقة ولمصر كيف سيغير هذا من طبيعة معضلة الأمن؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من معرفة ما المعالم الكبرى للنظام الدولى الجديد؟ أولا: بروز الولاياتالمتحدةالأمريكية كالقوة الأعظم فى العالم. ثانيا: تعاظم أهمية آلية التوافق الإستراتيجى الدولى بين أوروبا وأمريكا فى تسوية الصراعات الدولية. ثالثا: اعتبار مفهومى القيم والاحتياجات الأمنية كعناصر أولية فى مفهوم معضلة الأمن إلى جانب القوة العسكرية وتوزع القوات بين مهاجمة ومدافعة. عشية انتفاضات الربيع العربى كان لدينا معضلة جديدة للأمن تمثلت فى المقولات التالية: 1- اعتبار القوة المسلحة أداة مهمة فى الصراع الدولى, ولكن ليست حاسمة فى بعض الأحيان، 2- اعتبار التنسيق الدولى آلية مهمة من آليات توزيع القوة الدولية، 3- اعتبار الائتلاف الدولى شكلا من الأشكال المهمة فى تعبئة القوة الدولية، 4- اعتبار أن التوسع الإقليمى أو الدولى قد لا يكون ماديا، بل يكون رمزيا ذا مغزى قيمى كأن يتعلق بقيم الحرية أو توازن الشرعية السياسية داخل البلدان، 5- اعتبار أن الاحتياج للحماية والدفاع قد يكون أكثر ثقلا فى ميزان القرار السياسى الإستراتيجى الدولى من الرغبة فى التوسع الإقليمى، وأخيرا 6- اعتبار أن الديناميكية الأساسية للمعضلة ليست متمثلة فى القيود الدولية ولكن فى القدرة على التكيف مع اعتبارات التنسيق الدولى الحاكم إقليميا أو دوليا. بعد ثلاث سنوات ونيف من الربيع العربى والذى انفجر كمؤشر حاسم على عدم قدرة النخب القديمة على التكيف الدولى، صار لدينا صياغة جديدة للمسألة الشرقية, وتمثلت فى المحاور التالية: 1- اكتشاف الولاياتالمتحدة حدود قوتها فى الإدارة والتأثير على التناقضات الداخلية بين دول وقوى الشرق الأوسط، 2 – استمرار سرعة تفكك دول الشرق الأوسط بما فيها إسرائيل وإن كانت بدرجة أقل، 3- بزوغ القوة الروسية كعامل متداخل فى صياغة التسويات فى الشرق الأدنى، وبدرجة أقل القوة الصينية، 4- هبوط قوة تصاعد المشروع الإسلامى السنى الأصولى، هذا مع استمرار قوة دولية ما لتنظيم الإخوان الدولية، 5- بزوغ ملامح لنفوذ مؤسسى للقاعدة فى أرض الشام والعراق، 6- بروز قضايا لاجئين فى سوريا وليبيا وغزة وتركيا والسودان ، 7- تجدد الأزمة المالية العالمية، 8- سرعة انتشار الجماعات والموارد غير القانونية العابرة للحدود، 9- استمرار التمردات الشعبية من تركيا إلى ليبيا وتونس . المسألة الشرقية نشأت فى بيئة دولية تتميز بالانقسام الدولى، ولكن مع ظهور النظام الدولى الجديد تغيرت المسألة الشرقية من التكالب والصراع الدولى على تقسيم الأرض والموارد إلى نمط جديد من السيولة الإقليمية الثقيلة تسمح ببزوغ دول جديدة، ولكن وفق مفاهيم جديدة لإدارة الدولة والمجتمع.