ليلة ساحرة فى المنصورة، المدينة التى أحب، دفقة من ذكريات الصبا والشباب تغمر جسدى فأغدو طالبا صغيرا على مدرجات كلياتها، أسير فى شوارعها المزدحمة، وأبحث عن ضفاف نيلها التى اختفت خلف طبقات المبانى، لمحة من مشاعر العشق الأول، مشاعر تجمعت بداخلى وأنا أتابع افتتاح الحفل الأول الذى عقدته مؤسسة «دوم» على مسرح الجامعة فى مهرجان «قراءة». احتشد الحفل بجمهور ضخم جذبتهم فكرة المهرجان الجادة، قراءة الأعمال الأدبية المهمة بأصوات باقة من الفنانين المصريين الذين آمنوا بالفكرة وقرروا أن يتركوا أعمالهم فى القاهرة لمدة ثلاثة أيام حتى يواجهوا هذا الجمهور المتعطش. 13 فنانا و7 من الكتاب قاموا بالمشاركة فى هذا المهرجان. عندما عرض على الصديق خالد الخميسى فكرته فى إنشاء مؤسسة تنشر الثقافة فى ربوع مصر بعيدًا عن القاهرة والإسكندرية، اعتقدت أنه مجرد دون كيشوت حالم، كان كاتبا ومخرجا وفنانا، حقق نفسه فى كل عمل مارسه، أصدر روايتين هما تاكسى و سفينة نوح نالتا نجاحا غامرا، بالإضافة إلى مقالاته فى الصحف المصرية والغربية، وقام بإخراج الأفلام التسجيلية، وما زال فى إمكانه أن يفعل المزيد من أجل تحقيق ذاته، ولكنه تخلى عن هذه الذات المفردة وقرر أن يدمجها فى العمل الثقافى العام، كان يحلم بمؤسسة ثقافية متكاملة تقدم كل أنواع الفنون، وتنشر أنشطتها فى كل أنحاء مصر، وتشيع التنمية والاستنارة من خلال الثقافة، فى الوقت الذى كانت فيه العديد من مؤسسات العمل المدنى تغلق أبوابها وتستعد للانسحاب من الميدان حتى لا تصطدم بالقوانين الجديدة التى أُعدت لتحد من حركتها، اكتشفت بعدها أنه لم يكن الحالم الوحيد، كان معه آخرون أشهرهم سحر الموجى، أستاذة الأدب الإنجليزى وصاحبة رواية نون وعدد من مجموعات القصة القصيرة، هى أيضا أصابها مس من هذا الحلم، وحولت خبرتها فى الكتابة إلى دروس تعليمية تهبها للآخرين، عقدت عددًا من ورش العمل التى تلقن فيه الشباب دروسًا فى فنون الكتابة المختلفة، آخر ورشة كانت فى بلدة دهشور بالقرب من الجيزة، ولا أدرى كم أديبا يمكن أن يولد من خلال هذه التجربة، ولكنها بالتأكيد سوف تشحذ هذه الأذهان الصغيرة التى تبحث طويلًا دون أن تجد من يرشدها، تخلت الروائية الموهوبة عن فرديتها وتحولت إلى آبلة الناظرة ، كانت هى أيضا تقدم تضحياتها الخاصة من أجل دوم . وهى بالمناسبة تلك الثمرة المصرية الشديدة الجفاف المسكرة الطعم. لم أتصور أن يتجسد حلم دون كيشوت الخميسى على مسرح المنصورة، حتى وأنا أسمع عن نشاطاته المختلفة، معارض ومؤتمرات، مهرجان للحكى فى قنا، وإصداره الأول من سلسلة النشر التى ابتدعها، كتاب 2011 نقطة من أول السطر ، كتاب غير مألوف فى قطعه وإخراجه، امتزجت فيه الكلمات بالرسوم وهو يستعرض وقائع العام الذى شهد الثورة المصرية وسط تشابكات العالم السياسية والاقتصادية، وبدت فيه قدرته على تقديم رؤية مبسطة وواضحة للأحداث الجسام فى هذا العام، ولكن الاختبار الحقيقى كان عند محاولته تنظيم هذا المهرجان الكبير وسط عشوائية الحياة المصرية، خصوصا أن عليه التعامل مع أفراد ونجوم من مختلف الميول والأهواء، ومع أجهزة حكومية بيروقراطية لا مبالية لا تريد أن تغامر فى غير المألوف، ولكنه استطاع أن يتغلب على عقبات كثيرة، وأن يقود جمعًا من الفنانين والكتاب فى حافلتين فى طريقهما إلى المنصورة، منهم أشرف عبد الغفور ومحمود الحدينى وسميرة عبد العزيز ومحمد وفيق ولقاء الخميسى وحنان مطاوع ومنال سلامة وعثمان محمد على وغيرهم. ومن الكتاب عزت القمحاوى ومكاوى سعيد ومحمد ربيع والأديب الأسوانى الجميل أحمد أبو خنيجر. وتوجد خلف الخميسى كتيبة نسائية نشيطة، منهن سحر الموجى بشعرها المتكسر ومساعدته المهندسة نيفين التى لا تكاد تهدأ، والمساعدة الأخرى الأصغر سنا والأكثر سحرًا هديل هويدى، يقمن بتنسيق حفل الافتتاح وعقد الندوات فى أماكن مختلفة فى المنصورة وخارجها، وعندما بدأ الحفل بدا عزت القمحاوى مدهوشا من زحام الناس وتشوقهم، قال: عندما تحدث مثل هذه الأنشطة فى القاهرة لا يأتى أحد، فمن أين أتى كل هؤلاء الناس؟ . كان يوم الحفل يتوافق مع عيد ميلاد أستاذنا نجيب محفوظ، لذا وقع الاختيار على كتاب أحلام فترة النقاهة ، الفترة التى كان يتعافى فيها نجيب محفوظ بعد محاولة اغتياله الآثمة فى عام 1995، وكتب هذه المجموعة من القصص شديدة الكثافة، يختلط فيها الواقع بهذيان الأحلام، ووضع فيها خلاصة تجربته وخبرته الحياتية، وتوالى الفنانون، كل واحد منهم يقرأ حلمًا شاردًا يلونه بصوته وانفعالاته، دبت الحياة فجأة فى الكلمات الجامدة، وأصبح أسلوب نجيب العذب أشبه بقصيدة ممتدة، وظل الجمهور الغفير جالسًا فى مكانه مدهوشا، أصاب الجميع مس من سحر الكلمات.. اكتسب الكتاب القديم عبقا وجدة، واستعاد محفوظ نفحة من البعث، تكرر هذا الأمر، فى كل مكان ذهب إليه أديب وفنان، مهما استطالت صفحات الكتاب يظل الجميع مسحورين بصوت الفنان وهو يقرأ، حدث لى هذا مع الفنان أشرف عبد الغفور وهو يقرأ صفحات من رواية قمر على سمرقند وسمعتها كأننى لم أكتبها، جديدة وطازجة، أدركت فجأة أن الخميسى لم يعد دون كيشوت ولكنه أصبح رائدًا لمؤسسة ثقافية تسعى إلى هدف نبيل، بعث الروح فى النص الأدبى وإيصال الجمال للناس البسطاء.