من الواضح كما أسلفنا أن الولاياتالمتحدة -وتحديدا الرئيس جونسون- عدلت من سياساتها بعد 25 أو 27 مايو، بعد أن قدرت أن كل الأطراف الإقليمية تريد المواجهة، وأن الرئيس الأمريكى قرر مناصرة إسرائيل واشترك فى خداع عبد الناصر، سواء عن قصد أم لا (أعتقد شخصيا أن الفرض الأول أقرب إلى الصواب)، فنسقت إدارته مع مائير أميت مدير الموساد، واتصل هو بناصر لمنع مصر من شن الحرب، وكلف بعض أصدقاء إسرائيل فى الولاياتالمتحدة بإبلاغ رسالة إلى تل أبيب، مفادها أن الولاياتالمتحدة لا تعترض على هجوم إسرائيلى، وأرسل مبعوثا دبلوماسيا إلى المنطقة نجح فى انتزاع تنازلات معتبرة من ناصر (وفقا لرواية الصحفى الفرنسى الكبير إيريك رولو الذى كان موجودا آنذاك فى القاهرة وتحدث طويلا مع هذا المبعوث ساعات قليلة بعد اجتماع الأخير مع ناصر) الذى وافق على سبيل المثال على عدم منع السفن المتجهة إلى إسرائيل من المرور فى خليج العقبة، إلى حين التوصل إلى حل دبلوماسى أو الفشل فى ذلك، شريطة عدم الإعلان عن مثل هذا التنازل، ووافق جونسون على استضافة زكريا محيى الدين فى واشنطن للسعى فى إيجاد حل للأزمة. خلاصة القول، إن اندلاع الأزمة فى 14 مايو لم يكن نتيجة مؤامرة أمريكية أو سوفييتية، لكن هناك نقطة أو نقطتين ما زالتا فى حاجة إلى تفسير. من الثابت أن سبب اندلاع الأزمة هو تصريحات رابين، الذى تحدث عن غزو دمشق ورسالة الاتحاد السوفييتى، الذى حذر ناصر من حشود صهيونية على الحدود السورية، واتضح بعد ذلك أن تلك الحشود لم يكن لها وجود، والخطأ السوفييتى فادح، ولم يفسر إلى الآن فى حدود علمى (مع اعترافى بعدم المتابعة اليومية لهذا الملف)، الأمر الوحيد الواضح أن موسكو لم تكن تريد نصب فخ من أى نوع لناصر، حليفها الرئيسى فى العالم الثالث. لكننا لا نعلم إن كانت المخابرات السوفييتية أخطأت فى تقديرها دون مساعدة أحد، هذا جائز، لكنه غريب، لأن عملها كان يتسم بالدقة، ويبقى احتمالان، أن تكون المخابرات السوفييتية وقعت فى فخ نصبه الإسرائيليون، أو أنها حصلت على معلومات بخصوص قرار إسرائيلى بالقضاء على النظام السورى، وقررت تحذير ناصر دون الكشف عن محتوى ومصادر معلوماتها. الرأى الغالب حاليا يرجح الاحتمال الثانى ويفسر السلوك السوفييتى بخطأ فادح، لكنه مفهوم فى التقدير من جانب القيادة السوفييتية، التى تصورت بالحق أو بالباطل أن إسرائيل تنوى غزو سوريا، وأن الجيش الصهيونى ضعيف نسبيا، ولا يقدر على مواجهة جيشين عربيين فى آن واحد (لاحظ الغياب الكامل للتنسيق بين مصر وسوريا)، وأن تسخين الجبهة المصرية من شأنه ردع إسرائيل وفرض حل دبلوماسى. وأيدت موسكو قرار سحب القوات الدولية، لكنها فوجئت بقرار إغلاق خليج العقبة، وسعت بعد ذلك لتهدئة كل الأطراف، ولم تنجح. لاحظ أن موسكو كانت تتصور أن الميزان العسكرى كان فى صالح العرب من حيث الكم والكيف، لكون السلاح السوفييتى فى تقديرها أحدث وأقوى من السلاح الفرنسى، ولم تلتفت إلى ضعف الدفاع الجوى وإلى تأثير حرب اليمن البالغ السلبية. من الواضح أن وقع الهزيمة كان كارثيا على كل من عاصرها، وأنها أثرت بشدة على تصورات الرئيسين السادات ومبارك، وغيرهما، واستنتجا منها مقولات عدة، صريحة أو مسكوتا عنها، بنى عليها أركان سياستهما الخارجية، منها عدم جدوى الاعتماد على الاتحاد السوفييتى، ضرورة الانفتاح على الولاياتالمتحدة، ليس حبا فيها، لكن اتقاء لشرها، الشك شبه المطلق فى نيات وسلوك وفهم بل ووطنية القيادات السورية والفلسطينية، التركيز على عدم إتاحة الفرصة لدمشق ولغيرها لتوريط مصر فى مواجهات مع إسرائيل، الشك الكبير فى القدرة الذاتية على إدارة حرفية للأزمة، التركيز المفرط على تجنب أى مواجهة غير ضرورية، إلخ. يتبع.