قرر الإمام علِى بن أبى طالب، كرّم الله وجهه، الرحيل بجيشه من الكوفة، بعد وساطة الصلح التى نجح فيها موفده الفارس القعقاع بن عمرو، إلى السيدة عائشة والصحابيين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام (رضوان الله عليهم)، وفى خطبة الرحيل اشترط علِى أن لا يرتحل معه كل من شارك بأى شكل فى قتل عثمان بن عفان. ولم يعجب هذا الأمر رؤوس التطرف والفتنة، وعلى رأسهم مالك الأشتر النخعى، وشريح بن أوفى، وسالم بن ثعلبة، و غلاب بن الهيثم (ذكره الطبرى باسم علباء بن الهيثم)، وذكر الطبرى ضمن المتآمرين لإفساد الصلح اسم عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، الذى ثارت حوله شبهات كثيرة بأنه شخصية مختلقة، وذكر البعض أنه مجرد قناع يمثّل رأى ورؤية الصحابى عمار بن ياسر، وهو أمر لا نستطيع ببساطة أن ننكره أو نقرّه لأن ظاهرة اختلاق الشخصيات أوسع مما نتوقع، حتى إن المحقق التاريخى مرتضى العسكرى (شيعى) سعى فى كتابه عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى إلى إثبات أن القعقاع بن عمرو نفسه ليس إلا شخصية خيالية اختلقها المؤرخ سيف بن عمر، ضمن اختلاقات كثيرة ناقشها العسكرى فى كتابه خمسون ومئة صحابى مختلق ، الذى قال فيه إن ابن عمر نسب بطولات فذّة إلى رجال من قبيلته تميم ، ثم اخترع لهذه الأساطير رواة، فأخذ منه الطبرى، وتوالت الأكذوبة فى كتب التاريخ. ويبدو كلام العسكرى محيّرًا، لأن القعقاع من الفرسان الذين يفخر بهم الشيعة، ولا يستقيم أن ينكر وجوده علامة شيعى، فهو فارس مغوار له تاريخ مجيد فى الفتوحات منذ عصر الرسول وحتى موقعة صفين مع الإمام علِى، مرورًا بأبى بكر الصديق الذى نسبت إليه مقولة لا يُهزم جيش فيهم مثل هذا الفارس ، وقد قالها بعد أن طلب خالد بن الوليد مددًا، فأرسل له أبو بكر القعقاع وحده، ولما سُئل عن ذلك قال: صوت القعقاع فى الجيش خير من ألف رجل ، والأمر نفسه بالنسبة إلى مالك الأشتر الذى كان بمثابة وزير الدفاع المخلص فى جيش الإمام علِى، وأحد أشد القادة ولاءً له. على كل حال، تبقى هذه القضية مفتوحة لتؤكِّد حاجتنا إلى إعادة النظر فى تاريخنا وتنقيته من الدس والأكاذيب والروايات المغلوطة، ما يعنينا الآن هو التعامل بحذر مع الروايات التى فسّرت إفساد الصلح بأنه محض مؤامرة نسجها يهودى غامض تخفّى فى ثياب الإسلام، وذلك دون أن نحلل طبيعة العقلية العربية حينذاك، وظروف القبلية، ومؤثرات أفكار التطرف، والعنجهية الحربية، وحسابات الأهواء والمصالح، وكلها عوامل أسهمت فى استمرار نيران الفتنة موقدة. اللافت أن الطبرى الذى بالغ فى تعظيم دور ابن سبأ فى المؤامرة، قال إن الفلول الخارجين على رأى الإمام علِىّ كانوا 2500 رجل، وحمد الله أنه ليس بينهم صحابى واحد، وهذا يعنى أنه ينفى ضمنًا أن يكون ابن سبأ هو الصحابى عمار بن ياسر. وذكر الطبرى أن خيوط المؤامرة بدأت فور انتهاء علِى من إعلان بشارة الصلح، وقرب انطفاء نار الفتنة، حيث قال ابن سبأ: لقد سمعتم ما قاله، وغدًا يجمع عليكم الناس للقصاص منكم ، فقال الأشتر: كنا قد عرفنا رأى طلحة والزبير فينا، أما رأى علِى فلم نعرفه إلا اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، وبما أن الأمر هكذا فلنلحق عليًّا بعثمان ، رد ابن السوداء: لو قتلناه قتلونا، فهم أكثر منا، ولا طاقة لنا بهم ، فقال ابن الهيثم: نتركهم ونحتمى ببعض البلاد ، فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، لأن الناس فى هذه البلاد ستتخطفكم، ولذلك لا حل لنا إلا أن تنشب الحرب، فلنتركهم حتى إذا اقتربوا فنبدأ الحرب والقتال بين الناس، ولا ندعهم يجتمعون، وهكذا سيحارب كل واحد مع الفريق الذى كان معه بالأمس . لكن هل هذه الخطة حقيقية؟ وهل تم تنفيذها بالفعل؟ غدًا نعرف.