رءوس الفتنة يدبرون ويخططون بعد أن أوشك الطرفان أن يصلا إلى موقف موحد بعد حديث القعقاع مع السيدة عائشة وطلحة والزبير وبعد أن ذهب علي رضي الله عنه بمن معه من القوم إلى السيدة عائشة، ومن معها، وجاء الليل، وبات الفريقان خير ليلة مرت على المسلمين منذ أمدٍ بعيد، ونام أهل الفتنة في شر ليلة يفكرون كيف سيتخلّصون من هذا الصلح الذي سيكون ثمنه هو رقابهم جميعًا، وخططوا من جديد لإحداث الفتنة. في هذا الوقت أشار بعض الناس على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوّام رضي الله عنهما أن الفرصة سانحة لقتل قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك لأن عليًا رضي الله عنه عندما توجه للصلح مع القوم قال: لا يصحبنا أحدًا شارك، أو أعان على قتل عثمان بن عفان. فانسلخ من قتل، ومن شارك، وتقدم بقية الجيش للبصرة، فأصبح أهل الفتنة بعزلة عن جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فرفض طلحة والزبير رضي الله عنهما، وقالا: إن عليًا أمر بالتسكين. فمن الواضح أن لديهم قناعة تامة بالصلح والأخذ برأي علي رضي الله عنه. واجتمع قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتشاوروا في الأمر، فقال بعضهم: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم، فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا عليا بعثمان. فهم يريدون هنا قتل علي رضي الله عنه أيضًا، وهذا مما يدل بشكل قاطع أن عليًا رضي الله عنه لم يكن له أي تعاون مع هؤلاء القتلة، فها هم يريدون قتله، حتى تظل الفتنة دائرة. فقام عبد الله بن سبأ وقال: لو قتلتموه لاجتمعوا عليكم فقتلوكم. وهذه الفئة كما نرى إنما هم أهل فتنة، ويطلبون الحياة الدنيا، أما جنود علي رضي الله عنه، ومن مع السيدة عائشة رضي الله عنه، إنما يريدون الآخرة، وإرضاء الله تعالى، والجنة، ويظنون أنهم على الحق، ويجاهدون في سبيل الله، ويحتسبون أنفسهم شهداء في سبيل الله إن قتلوا في ميدان الحرب. فقال أحد الناس: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها. أي يرجع كلٌ إلى قبيلته، ويحتمي بها، فرفض عبد الله بن سبأ هذا الرأي أيضًا وقال: لو تمكّن علي بن أبي طالب من الأمور لجمعكم بعد ذلك من كل الأمصار وقتلكم. وكان عبد الله بن سبأ معهم كالشيطان يرتّب لهم الأمور حتى يتم اختيار الرأي الصائب من وجهة نظرهم. فأشار على مَنْ معه مِنْ أهل الفتنة في تلك الليلة التي كان المسلمون سيعقدون الصلح في صبيحتها أن تتوجه فئة منهم إلى جيش الكوفة، وفئة أخرى إلى جيش البصرة، وتبدأ كل فئة منهما في القتل في الناس، وهم نيام، ثم يصيح من ذهبوا إلى جيش الكوفة ويقولون: هجم علينا جيش البصرة. ويصيح من ذهب إلى جيش البصرة ويقولون: هجم علينا جيش الكوفة. وقبيل الفجر انقسم أهل الفتنة بالفعل إلى فريقين، ونفذوا ما تم الاتفاق عليه، وقتلوا مجموعة كبيرة من الفريقين، وصاحوا، وصرخوا أن كل من الفريقين البصرة، والكوفة قد هجم على الآخر، وفزع الناس من نومهم إلى سيوفهم وليس لديهم شك أن الفريق الآخر قد غدر بهم، ونقض ما اتفق عليه من وجوب الصلح، ولم يكن هناك أي فرصة للتثبت من الأمر في ظلام الليل وقد عملت السيوف فيهم، وكثر القتل، والجراح، فكان هَمّ كل فريق هو الدفاع عن نفسه {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]. وكان أبو سلام الدالاني قد قام إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تلك الليلة، وقبل أن يحدث القتال، وسأله: هل لهؤلاء القوم- يعني السيدة عائشة، وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعًا- حجة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله في ذلك؟ قال: نعم. قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك؟ قال: نعم. قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟ أي بالقتال بيننا وبينهم. قال: إني لأرجو أن لا يُقتل منا ومنهم أحد نقّي قلبه لله، إلا أدخله الله الجنة. وهذا لأن كل واحد منهما كان متأولًا أنه على الحق، واجتهد في ذلك، فمنهم من أصاب، فله أجران، ومنهم من أخطأ، فله أجر واحد، ولا ينطبق عليهم الحديث: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بَسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. بداية القتال بدأت الحرب يوم الأربعاء 15 جمادى الثاني سنة 36 ه، 7 من ديسمبر سنة 656 م، واستيقظ علي بن أبي طالب رضي الله عنه من نومه على صوت السيوف، والصراخ، والصياح، ولا يعلم من أين بدأ القتال، وكيف نشب بين الفريقين، وكذلك الحال في معسكر السيدة عائشة رضي الله عنها ومن معها طلحة، والزبير، وابنه عبد الله، وسائر الجيش، وصرخ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الناس أن كُفّوا، لكنه لم يستطع لشدة المعركة، فلما نظر رضي الله عنه إلى المسلمين تتطاير رءوسهم بأيدي بعضهم البعض فقال: يا ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة. ونادى في الناس: كفوا عباد الله، كفوا عباد الله، ثم احتضن ابنه الحسن، وقال: ليت أباك مات منذ عشرين سنة. فقال له: يا أبي قد كنت أنهاك عن هذا. قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا. فلم يكن يتوقع أحد أن تتفاقم الأمور إلى هذه الدرجة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ذلك: إنا لله وإنا إليه راجعون. وظل رضي الله عنه في محاولة كف الناس عن القتال، لكنه لم يستطع، وقد عمّت الفتنة، واشتد القتال. وكان ممن التقى بسيفه مع الآخر في هذه المعركة الزبير بن العوّام، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما. كم من المرات قاتلا جنبًا إلى جنب تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر، وما بعدها، وكان عُمْر عمار بن ياسر حينها تسعين سنة، وعمر الزبير بن العوام خمسة وسبعين سنة، ومع قدرة الزبير على قتل عمار رضي الله عنهما، إلا أنه لا يستطيع فقد تحملا معًا الكثير في سبيل بناء الدولة الإسلامية التي يُهدم اليوم من دعائمها الكثير، وقد تربيا معًا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُذّبا كثيرًا في سبيل الله، ولكنها الفتنة، وما كان لهما أن يتقاتلا، وهما في هذا العمر دفاعًا عن باطل، أو رغبةً في الدنيا. فيقول الزبير رضي الله عنه لعمار بن ياسر رضي الله عنه: أتقتلني يا أبا اليقظان؟ ويضربه عمار بن ياسر رضي الله عنه بالرمح دون أن يدخله في صدره ويقول له: لا يا أبا عبد الله. ويخشى الزبير بن العوّام أن يكون ممن وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالفئة الباغية حين قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه: "وَيْحَكَ ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ". فيخشى الزبير رضي الله عنه أن يكون من هذه الفئة الباغية، ويريد أن يكفّ عنه، وهذا ما حدث، ولم يقتل أحدهما الآخر. ويبحث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الزبير بن العوّام رضي الله عنه، ويلتقيان، فيقول علي رضي الله عنه للزبير رضي الله عنه: أما تذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم، فنظر إليّ وضحك، وضحكتُ إليه، فقلتَ: لا يدع ابن أبي طالب زهوه. فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَرِّدٍ لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ؟" فقال الزبير: اللهم نعم! ولو ذكرتُ ما سرتُ مسيري هذا، ووالله لا أقاتلك. وبعدها أخذ الزبير بن العوّام رضي الله عنه خيله، وبدأ في الرجوع عن القتال، ولم يأخذه الكبر والعزة، وهو أحد رءوس الجيش الذي يبلغ تعداده ثلاثون ألفًا، وذلك لما ذُكّر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينما هو ينسحب من ساحة القتال، ويعود، يقول له ابنه عبد الله بن الزبير: جمعت الجموع، ثم تعود. فيقول الزبير رضي الله عنه: والله لا أقاتل عليًا. ويخرج الزبير رضي الله عنه من ساحة القتال متجهًا إلى مكة، وفي منطقة تًسمّى وادي السباع، وعلى بعد أميال قليلة من البصرة يتبعه عمرو بن جرموز، وهو ممن كان في جيش علي رضي الله عنه، ومع الزبير رضي الله عنه غلامه، فيقول ابن جرموز لهما: إلى أين المسير؟ فيقولان: إلى مكة. فيقول: أصحبكما. وفي رواية أن الزبير رضي الله عنه كان يقول: إني أرى في عين هذا الموت. ويأتي وقت الصلاة، فيؤمّهما الزبير رضي الله عنه، وبعد أن يكبر تكبيرة الإحرام يهجم عليه ابن جرموز، ويقتله، وهو يصلي، ثم يأتي بسيف الزبير رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه فرحًا مسرورًا، ظانًا بذلك أنه يدخل السرور على قلب علي رضي الله عنه، ويصل الخبر إلى علي رضي الله عنه، فيبكي بكاءً شديدًا، ويرتفع نحيبه، ويمسك سيف الزبير رضي الله عنه ويقول: طالما كشف هذا السيف الكُرَب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورفض علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يدخل عليه عمرو بن جرموز وقال: بَشّر قاتل ابن صفية بالنار، فلما أُخبر بهذا ابنُ جرموز قتل نفسه فباء بالنار، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولا زال القتال مستمرًا بين الفريقين، وكان طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقاتل بيده اليسرى، بينما كانت يده اليمنى شلّاء من يوم أُحد، حين صد بها الرمح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينما هو يقاتل، وكان عمره أربعًا وستين سنة، أتاه سهم طائش لا أحد يعرف مصدره، ويقول من يكرهون الدولة الأموية: إن الذي رماه بالسهم هو مروان بن الحكم. ولم تثبت أي رواية هذا الأمر، وقتل هو الآخر رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان هو والزبير رضي الله عنهما من أوائل من أسلم من الصحابة، وظلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي حياتهم كلها مجاهدين في سبيل الله، ويتزعم الجيش في هذا الوقت عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وعن أبيه وأرضاهما. ويشتد القتال بين الفريقين وتتطاير الرءوس، والأيدي، والأرجل، ويذكر الرواة أن هذه الموقعة كانت أكثر المواقع قطعًا للأيدي والأرجل.