قد يكون أكبر تشابه بين ظروف الرئيسين مبارك والسيسى هو فى الوضعية المشترَكة إلى حد كبير، التى أتاحت لكل منهما صلاحيات هائلة، وهذا ما يجعل الرئيس السيسى، أيضاً، مسؤولاً عن تبعات أخطاء هذه المرحلة بمثل ما يُنسَب له كل الإنجازات، لأنه فى الحالتين يقبض على معظم السلطات، بما فيها كل السلطة التنفيذية، إضافة إلى السلطة التشريعية فى غياب البرلمان، وهو ما ينفى أى حجة عن مناوئة جهة ما أو عرقلتها لتنفيذ الأفكار والخطط والبرامج. بل إن الرئيس السيسى يتمتع بما لم يكن متاحاً للرئيس مبارك قط، من الجو النفسى العام المؤيد الذى يوفر له العمل فى طمأنينة من يحوز على الرضا الشعبى، نظراً للدور التاريخى الذى قام به تلبية لإرادة الشعب فى التخلص من حكم الإخوان! ولعل من أكبر الأخطاء الحالية تغافل جوهر بعض النصوص التشريعية المُلزِمة، والتمسك عوضاً عنها بصحة الإجراءات، وأحياناً الاكتفاء بها، للتدليل على الالتزام بالعهود! وهذا أبعد ما يكون عن روح الثورات التى هى فى مضمونها وأهدافها تدمير لتشريعات، دستور وقوانين وإجراءات، بهدف وضع تشريعاتها الخاصة التى تحقق ما لا يمكن تحقيقه بالقديم من الدستور والقوانين والإجراءات. خُذْ عندك انتخابات البرلمان التى كان مقرراً لها أن تجرى قبل انتخابات الرئاسة، وفق خارطة الطريق المعلَن عنها فى 3 يوليو بعد الإطاحة بحكم الإخوان، ثم أُجرِى تعديلٌ على الخارطة لتحل الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية، وكانت العبارة صيغت فى الدستور الجديد وكأن هناك نية مسبقة للتسويف فى الانتخابات التى تأتى فى المرحلة الثانية، ولاحظ أنه كانت قد تبينت نية الرأى العام آنذاك، أثناء صياغة الدستور، فى أن تكون هى الانتخابات البرلمانية، وانظر إلى نص المادة 230 التى قرّرت أن «تبدأ» هذه الانتخابات خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ العمل بالدستور! ولاحظ أنها حددت متى تبدأ الانتخابات ولم تضع سقفاً زمنياً لانتهائها! وهذا ما أتاح لمن يريد التسويف أن يلتزم بالشكل الإجرائى بالبدء بأول خطوة بالإعلان عن الانتخابات البرلمانية وفق موعدها الدستورى، ثم يظل الأمر معلقاً فيما يخصّ متى نخوض فى المسائل العملية، إلى أن أعلن الرئيس السيسى مؤخراً أنها ستكون فى مارس القادم، أى بعد نحو 14 شهراً من حسم الدستور! ولكن يبقى السؤال: متى تنتهى؟ لأن كلاماً يتناثر عن أنها سوف تأخذ عدة أشهر، وقيل إن هذا بسبب احتياطات الأمن المطلوبة! وهو ما قدره البعض بألا يقلّ عن ثلاثة أشهر تُضاف إلى ال 14 شهراَ! من أحد نتائج هذا التأخير أن تظل سلطة التشريع فى يد الرئاسة والحكومة، وإنْ كان هذا يتيح لهما التخفف من عراقيل قد يضعها البرلمان أمام العمل اليومى الذى تقرره السلطة التنفيذية، فإنه فى ذات الوقت يلقى على كاهل الرئاسة والبرلمان المسؤولية عن أى أخطاء قد تعتور التشريعات التى تصدر فى هذه المرحلة، خاصة ما قد يتعارض منها مع شعارات ومطالب الثورة، وعلى الأخص منها ما يمسّ الحريات العامة والخاصة التى هى أهم ما سعت الثورة إلى تحقيقه. هذا التسويف أضعف موقف من مارسوا المرونة فى موقفهم الرافض للتشريعات التى صدرت والتى يستنكرون بعضها ويتحفظون على بعضها، وكان رأيهم أنه لا داعى لخوض معركة قد تستنزف الطاقة، لأنهم كانوا يتوقعون أن هنالك مجلساً جديداً، وأنه آتٍ فى وقت قريب، وأن من أول واجباته أن يَبتّ فى أمر القوانين التى صدرت فى غيابه، بأن يجيز منها ما يراه مناسباً وأن يصحح ما يراه مختلاً وأن يرفض ما يراه متعارضاً! ولكن طال انتظار انعقاد البرلمان! إصلاح ما وصلنا إليه فى هذه المرحلة يُوجِب أمرين عاجلين بأقصى ما تكون العجلة: أولهما، أن تعمل السلطة التنفيذية بإصلاح التشريعات التى أثارت شقاقاً، والتى ما عاد قبول استمرارها ممكناً، والأمر الثانى بالانتهاء من انتخابات مجلس النواب مع الحرص على ألا يشوبها ما يفتح مجالاً لأى طعن جاد، وإلا فسوف يُصاب الرأى العام بإحباط خطير، بعد أن ثار على آخر برلمانات مبارك التى تضاعفت فيها الأخطاء المعهودة فى كل برلمانته! الطعن الجاد فى البرلمان الجديد يعنى أن الثورة فشلت فى أهم مهامها، سواء اعتمد الطاعن فى طعنه على قانون انتخابات معيب، أو ألاعيب فى ترسيم الدوائر، أو انحياز من الأجهزة الرسمية، أو استخدام إعلام الدولة فى الترويج للبعض أو فى النيل من البعض، أو أخطاء فى قوائم الناخبين، أو تعويق لعمليات التصويت، أو فرض مناخ مقيد للحريات..إلخ، وهو ما سوف يتحمل تبعاته الرئيس والحكومة، لأن كل هذا فى صميم مسؤلياتهم كما أنهم يملكون كل ما من شأنه أن يسهل لهم مهامهم. بدون هذه السرعة والدقة فى الإنجاز لن يكون هنالك إمكانية للكلام عن مهام أخرى شديدة الأهمية، وللغرابة لا يبدو أن هناك إدراكاً لخطورتها، مثل انتخابات المجالس المحلية، وانتخابات الإدارة المحلية، بدءاً من المحافظ وحتى القاعدة فى مجالس إدرات المدن والقرى. وكل هذا لن يتحقق إلا عندما تتجلى العقلية السياسية التى يهمها الإنجاز وفق روح الثورة، وتحلّ محل البيروقراطية التى تكتفى باستيفاء الشكل الإجرائى، حتى إذا كان هذا على حساب الجوهر. العقلية السياسية تدرك الأهمية القصوى لعامل الزمن، وتعى أن تأخير اتخاذ خطوة صحيحة، فى واقع دائب الحركة وسريع التغير، قد تبدد فرصة الإنجاز والرضا، وكان هذا خطأ مبارك المتكرر منذ 25 يناير، فقد كان يوافق على المطلب بعد أن يكون الواقع تغير بما يدفع فى إمكانية التصعيد، وظل هو يستجيب بعد فوات الوقت حتى أصبح خلعه مسألة مطلوبة وممكنة ومتسقة مع التطورات.