مساء اليوم يأتى ختام مهرجان الموسيقى العربية مع صوت آمال ماهر التى استطاعت أن تحقق فى السنوات الخمس الأخيرة درجة من الاقتراب الجماهيرى مع وميض النجومية التى حققتها فى اللحظة التى حطمت فيها الشرنقة الكلثومية. تابعت المهرجان عبر محطة الأغانى المصرية، حيث كنت أعيش الماضى والحاضر الغنائى، وفى حفل المساء سوف يتجسد أمامنا هذا العناق فى وصلة آمال ماهر التى بقدر ما أخلصت للغناء القديم تحديدًا لزعيمة الغناء العربى، بقدر ما تحررت وانطلقت إلى أفاق بعيدة، فى هذا المهرجان تستمتع دائمًا إلى مطربين يعيشون فى جلباب كبار المطربين، هذا عبد الحليم وذاك عبد الوهاب وتلك فيروز. مطربو هذه الفرق التراثية مخلصون عادة لما يقدمونه من أغنيات قديمة لها مكانة فى وجداننا، هم يحاولون التسلل إلى مشاعرنا من خلالها. هل نحن نحتفظ فقط بالأغنية كصوت وننسى ملامح المطرب الأصلى؟ أم أن الماضى له حضوره الطاغى صوتًا وصورة؟ عدد من المطربين نكتشف أن الأغنية كانت جزءًا من ملامحهم ليس فقط الصوتية، ولكن أيضًا الوجدانية، لو غنى مطرب جديد «قارئة الفنجان» تستدعى على الفور زمن عبد الحليم، ولو استمعت إلى «إن راح منك يا عين» ستجد أمامك شادية، ولو غنوا «طير الوروار» ستحضر فيروز. الفرق الغنائية عادة ما تستعين بمطربين تتلبسهم هذه الأصوات لتُصبح جزءًا من تكوينهم النفسى لا الصوتى فقط، أظنها تنعكس على حياتهم الشخصية ويحدث مع الزمن قدر من التوحد، الممثل يؤدى فى كل عمل درامى دورًا مختلفًا من الممكن أن يتخلص منه بعد قليل، لو تصورنا أن لدينا ممثلًا على مدى عقود من الزمان يؤدى فقط دور «هاملت» لوليام شكسبير، فلا شك أنه مع الزمن سيصبح هاملت وتنتقل إليه آفة التردد التى صاحبته على خشبة المسرح. تجب التفرقة بين مطرب يغنى مرة أو حتى مرات لمطرب كبير مثلما تفعل مثلا أنغام، فلها أغانيها لكل من أم كلثوم وعبد الوهاب ونجاة، ولا ننسى أن فيروز غنت لسيد درويش «الحلوة دى» ولمحمد عبد الوهاب «خايف أقول اللى فى قلبى» ووديع الصافى غنى لأم كلثوم «الأطلال» ونانسى غنت لسعاد «يا واد يا تقيل»، كلها تقع فى إطار الاستثناء، ولكن أتحدث عن المطرب الذى يعيش فقط فى عباءة مطرب آخر ولا يمكنه الخروج من هذا السجن الأبدى. الناس تطوق إلى أن يأتى المطرب بمشاعره وأفكاره وأحاسيسه ليعيش نبض الزمن الحاضر، مهما أثنوا على الماضى الجميل، فهم يريدون أن يستمعوا لمن يغنى للحظة التى يعيشونها بحلوها ومرها. لديك مثلًا صفوان بهلوان المطرب السورى الكبير الذى صار متقمصًا لروح عبد الوهاب، منذ 30 عامًا أتابعه فى حالته الوهابية التى تتلبسه حتى خارج المسرح، فهو يتحدث بطريقة عبد الوهاب، ومع الزمن تتغير حتى ملامح وجهه، لو عُدت إلى صور عبد الوهاب فى الستين من عمره ستكتشف صفوان الذى يعيش فى نفس تلك المرحلة العمرية صار صورة طبق الأصل من عبد الوهاب، ليس فقط فى ملامح النبرة، بل أيضا فى النظرة. ويبقى فى المعادلة المطرب صاحب الأغنية الأصلية، لأنه فى العادة لا يرحب بمن يُقدم أغنيته، فلم يرتح محمد قنديل إلى مدحت صالح وهو يردد «تلات سلامات»، ولم تكن سعاد محمد سعيدة بغناء خالد عجاج لأغنيتها «وحشتنى»، وشريفة فاضل انتقدت أداء محمد منير لأغنيتها الشعبية «حارة السقايين»، وربما الوحيد الذى خرج عن الخط هو الموسيقار محمد عبد الوهاب صاحب الرصيد الأكبر فى هذا الشأن قال معقبًا لو المطرب غنى أحسن منى فربما أدى ذلك إلى أن يتذكر الجمهور الأغنية بصوتى، بينما لو أداها أقل منى فسوف يمنحنى الجمهور شهادة بالتفوق، فأنا الفائز فى الحالتين! كنت حريصًا مساء اليوم على أن أتابع آمال ماهر فى دار الأوبرا وهى تمنح المهرجان أجمل وأرق قفلة غنائية، لولا أننى ينبغى أن أحضر افتتاح مهرجان القاهرة السينمائى بمحكى القلعة فهو عُرس سينمائى يستحق أن نتابعه.. وغدًا نكمل.