«إلى الدم العربى/ خيطا ممتدا من النزيف/ قربانا لغد قادم». يتواصل خيط الدم، وينهمر النزيف، لكن هل جاء الغد الذى انتظره أحمد عنتر مصطفى؟ كنت أفتش عن قصيدته «الخبيئة» التى أشهر فيها أوجاع «أم الشهيد» وسط مبالغات الاحتفال بانتصار أكتوبر، لكننى لم أجد سوى الدم مرهونا ببشارة لا يتبعها الخلاص، فالحرب هى الحرب، والذى كان قد كان، لكن القلب لا يعرف أى جحيم تفجره الخطوة القادمة. ليست لدىّ مناسبة لتذكر أحمد المنسى بين فراشتين.. «كيف سَكَنْتَنا عشرين عاما واختفيتَ/ وظَلَّ وجهُكَ غامضا مثل الظهيرة؟». اختفى أحمد، لكن السنوات الطويلة لم تجفف ماء شعره من الذاكرة، ولم تبهت صورته فى مرايا الزمن المعتم، انسحبت قصيدة «أم الشهيد» ولا أعرف أين تختبئ، لكننى سأعثر عليها، وأضمها إلى أبجدية الموت والثورة، وحتى يتحقق ذلك الحضور نستعيد صوت الشاعر الذى لا يموت أبدا، «فابتعدوا قليلا عنه كى يتلو وصيَّتَهُ/ على الموتى إذا ماتوا/ وكى يرمى ملامحَهُ/ على الأحياء إن عاشوا». *** لا يزعمُ الماءُ/ حين تسودُ عليه الطحالبُ / أنَّ الركودَ فضيلتهُ المزدهاةُ/ يحقّ عليها الحسدْ كنت أقسمُ، دوما، بهذا البلدْ/ رغم كلِّ الكَبَدْ رغم نبعِ الشقاءِ/ الذى يتوضّأُ آباؤنا منهُ/ طىَّ الأبدْ بالعطاء الذى يتفجّر فيهِ/ بطاقاته اللهبيّةِ/ بالحزن فى أعين الصامتينَ/ وبالغزل المتواثبِ بين العيونِ/ برجفةِ ريفيّةٍ *** كنتُ أقسمُ، دوما، بهذا البلدْ بالذين مع الفجرِ/ ينحدرون إلى النهر/ ينكسرون مع الظهر/ ينسحبون مع القهر/ خلف جدارِ المساء، ويحترفون/ الجَلَدْ بالفرحِ الذابلِ الصوتِ أقسمتُ/ بالدمع بين العيونِ الشواحبْ/ بالبنادق ساهرة تشرئبّ/ وتحنو عليها زنودُ المحاربْ/ حيث نام الخطيبُ/ الإمام على منبر الوطن المستكينِ/ المُسَجَّى الجسدْ *** كنت أقسم، دوما، بهذا البلدْ بالريح، أن سوف تأتى/ وبالعدل، أن سيضمّ جناحيهِ/ يحمى الحقيقةَ من لفحةِ الباطلِ المتوهّجِ تُغشى العيونَ، وبالكلمات/ الحراب ستنقضُ فى الروحِ ما نسجتْه العناكبْ بالطفولة أقسمتُ/ بالغد.. بالبسماتِ/ وبالزرع منتشيا.. كنت أهمسُ: «يمكث فى الأرض ما ينفعُ الناسَ»/ حين رأيتُ الزَّبَدْ/ أبنية فى المدينة تعلو، وتسمقُ/ أرصدة فى البنوكِ/ حُليّا تصلُّ بأذرعة العاهراتِ/ وفى الكتفين فراءَ ثعالبْ/ ربما كان من عرقٍ يتصبّبُ فى أوجهٍ/ ران فيها الكَمَدْ *** كنتُ أقسمُ، دوما، بهذا البلدْ والبناياتُ تهوى/ وأقسم أن سوف تنهضُ/ حتى رأيتُ المطاراتِ غصّتْ بمن يهربونَ رأيتُ المناجلَ لا تحصد الزرعَ/ والضرعَ جفَّ رأيتُ السيوفَ تثلّمَ فيها الإباءُ/ رأيتُ الخيولَ على ضفّة النهرِ تضوى وتهزلُ/ تسقطُ ضامرة فوق أعلافها/ ومقهورة/ حين تبصرُ نجمةَ داوودَ فى أفقها تَتّقدْ! والذئابَ يروغون بين الثعالبْ قلتُ: لا شىءَ يُجدى/ سوى الشعب يُنشب فى رئة الجائرين المخالِبْ ************** البراكينُ لا تستقرُّ عليها الوسائد/ هم ينقشون على الماءِ أحلامهم/ يبتنون من الوهْمِ أيامهم/ يحرثون البحار.../ وحين تثورُ الزلازل/ لا شىء يبقى/ سوى قبضة الشعب حول الرقاب