رئيس مجلس النواب: ذكرى أكتوبر ملحمة خالدة وروحها تتجدد في معركة البناء والتنمية    تجديد اتفاق التعاون الفني والمالي بين مصر وفرنسا بقيمة 4 مليارات يورو    استقرار أسعار الحديد والأسمنت في الإسكندرية اليوم الخميس 2 أكتوبر 2025    التمويل غير المصرفي في مصر يسجل 773 مليار جنيه خلال 7 أشهر    نقابة الصحفيين المصريين: الاعتداء على أسطول الصمود عمل إرهابي.. وفرض مبادرات إذعان دولية على المنطقة استمرار لنهج الانحياز للعدوان الصهيوني    الصحة بغزة: الوصول إلى مجمع الشفاء الطبي أصبح خطيرا جدًا    بلجيكا تطلب تعهدًا من قادة أوروبا بتقاسم المخاطر    تعرف على تداعيات الإغلاق الحكومي الأمريكي على الأسواق.. فيديو    مصادر طبية في غزة: 20 قتيلا في قصف إسرائيلي على عدة مناطق في القطاع منذ فجر اليوم    الأهلي يكثف من تحضيراته استعدادًا لمواجهة كهرباء الإسماعيلية    الأزمات تتوالى.. لاعبي الزمالك تهدد بالتصعيد وعدم خوض المران    ياسين منصور نائبًا.. محمود الخطيب يعلن قائمته النهائية    موعد مباراة الزمالك والشارقة الإماراتي في كأس العالم لكرة اليد للأندية 2025    «ابقوا اطمنوا عليه لأنه في حالة صعبة».. شوبير يكشف تفاصيل حالة عمرو زكي    انقلاب سيارة نقل وإصابة السائق ورفيقه بمنطقة الواحات    عرض سيدتين فى واقعة فيديو التهديد بأعمال دجل بالشرقية على النيابة العامة    اختراق صفحة مجمع اللغة العربية على «فيسبوك» ونشر محتوى خادش للحياء يثير استياء المتابعين    القومي للسينما يعلن عن مسابقة سيناريو ضمن مشروع "جيل واعي – وطن أقوى"    لو بتدوري على راجل صادق.. «5 أبراج مايعرفوش الكذب»    مجلس إدارة الرعاية الصحية يوافق على إنشاء وحدتين لزراعة النخاع بمجمع الأقصر الدولي ومجمع السويس الطبي    مديرية تعليم الجيزة تكشف موعد فتح فصل حالات الإصابة بفيروس HFMD    لترشيد استهلاك الكهرباء.. تحرير 112 مخالفة لمحال غير ملتزمة بمواعيد الإغلاق    رابط التقييمات الأسبوعية لوزارة التربية والتعليم 2025-2026 وخطة الاختبارات الشهرية    مجلس الشيوخ يوافق على استقالة 14 عضوا لعزمهم الترشح فى انتخابات النواب    رئيس مجلس الشيوخ: الرئيس السيسى يقوم بجهود عظيمة فى بناء الإنسان المصرى    مبابي يقود قائمة يويفا.. وصراع شرس مع هالاند وهويلوند على لاعب الأسبوع    في أول عرضه.. ماجد الكدواني يتصدر إيرادات السينما بفيلم فيها إيه يعني    احتفالات قصور الثقافة بنصر أكتوبر.. 500 فعالية بالمحافظات تعكس دور الثقافة في ترسيخ الهوية المصرية    مبابي ينصف جبهة حكيمي بعد تألقه اللافت أمام برشلونة    محافظ أسيوط: مراكز ومحطات البحوث شريك استراتيجي في تطوير الزراعة وتحقيق الأمن الغذائي    رئيس الوزراء: الصحة والتعليم و"حياة كريمة" فى صدارة أولويات عمل الحكومة    ضربات أمنية متواصلة لضبط جرائم الاتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي    الداخلية تضبط 100 حالة تعاطٍ للمخدرات وقرابة 100 ألف مخالفة مرورية في 24 ساعة    الرقابة المالية تصدر ضوابط إنشاء المنصات الرقمية لوثائق صناديق الملكية الخاصة    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية والتعاون الدولي السوداني    قبل فتح باب الترشح السبت.. الشروط والمستندات المطلوبة لعضوية مجلس النواب    أرتيتا: جيوكيريس يتحسن باستمرار حتى وإن لم يسجل    جامعة سوهاج توقع مذكرة تفاهم مع "Woosong" الكورية للتعاون الأكاديمي والبحثي    مفهوم "الانتماء والأمن القومي" في مناقشات ملتقى شباب المحافظات الحدودية بالفيوم    من الهند إلى المدينة.. رحلة شيخ القراء في المسجد النبوي الشيخ بشير أحمد صديق    حقيقة فتح مفيض توشكى والواحات لتصريف مياه سد النهضة.. توضيح من خبير جيولوجي    سويلم يشهد فعاليات ختام سلسلة محاضرات "الترابط بين المياه والغذاء WEFE Nexus"    الداخلية تكتب فصلًا جديدًا فى معركة حماية الوطن سقوط إمبراطوريات السموم بالقاهرة والجيزة والبحيرة والإسكندرية    الجريدة الرسمية تنشر قرارًا جديدًا للرئيس السيسي (التفاصيل)    جامعة بنها تطلق قافلة طبية لرعاية كبار السن بشبرا الخيمة    مد فترة استقبال الأعمال المشاركة في مسابقة «النصوص الدرامية القصيرة جدًا» حتى 7 أكتوبر    سبب تعرض كبار السن للنسيان والاكتئاب.. طبيبة توضح    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 2 أكتوبر 2025 فى المنيا    هل الممارسة الممنوعة شرعا مع الزوجة تبطل عقد الزواج.. دار الإفتاء تجيب    جنة أم نار.. هالاند يتحدث بصراحة عن خوفه من الموت    مصرع وإصابة 11 شخصا إثر حريق هائل يلتهم عقارًا في فيصل    بقرار جمهوري، مجلس الشيوخ يفتتح اليوم دور الانعقاد الأخير من الفصل التشريعي    «الداخلية»: القبض على مدرس بتهمة التعدي بالضرب على أحد الطلبة خلال العام الماضي    ترامب يقرر اعتبار أي هجوم على قطر هجومًا على أمريكا    الدكتور محمود سعيد: معهد ناصر قلعة الطب في مصر وحصن أمان للمصريين    دعاء صلاة الفجر ركن روحي هام في حياة المسلم    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الأصول إلي الفروع
ماء الماء » شهادة الأنهار 2«
نشر في أخبار اليوم يوم 27 - 04 - 2012

مساء من أغسطس عام ثمانية وتسعين، وقفت علي شاطئ جزيرة صغيرة في عرض النيل أمام مدينة سوهاج، النهر مرتفع، فيضان العام غزير، والخوف علي جدار السد العالي قائم، المختصون يتفقدون أحواله كل عدة ساعات، البوابات كلها مفتوحة، والمفيض المخصص يستوعب الزيادة بدأ يستقبل الماء. يتدفق الموج، مسرعاً، متلاحقاً، له دمدمة، يحتوي أضواء النجوم، وانعكاسات المدن والقري، يستوعب الأماكن التي عبرها منذ نزول القطر من السماء، يقولون إن قطرة الماء تقطع المسافة من هضاب الحبشة إلي المصب عند دمياط أو رشيد في أحد عشر يوماً، تري.. كيف تكون ذاكرة الماء؟
هل تعي تحولاتها؟ من قطرة عذبة أو مالحة إلي بخار إلي قطرة مرة أخري، وربما يندمج بعضاً منها في الكون اللانهائي، لا تمكث الموجة إلا مقدار مرورها الخاطف بالمكان.
دائماً أحاور اللحظة الماثلة، أتجاوزها بالمخيلة إلي الأمام، أو إلي الوراء، أتساءل، بأي تصور كان الأجداد يتطلعون إلي الماء المتدفق من الجنوب؟ كم من السنوات استغرقها الجهد المبذول للسيطرة علي ماء النهر، للتوصل إلي دورات الزراعة، ومعها التصور الإنساني للوجود والعدم، للحياة الدنيا والحياة الآخرة، تلح عليّ صورة الإله أوزير: ممدداً في كفنه الأبيض، مدفوناً تحت سطح الأرض، ومن جسده ينبت العشب، والنماء، ومن دموع زوجته المخلصة ايزيس يتدفق الفيضان، وحدة أزلية بين الإنسان والطبيعة، كم قرناً استغرقه الإنسان ليرصد حركة النجوم، علاقتها بالفيضان، حتي توصل إلي التقويم المصري الدقيق، الذي مازال الفلاح المصري يعتمده حتي الآن في الزراعة، ويعرف الآن بالتقويم القبطي، كان اكتشاف تلك الصلات منطلقاً لمحاولة فهم الوجود والحياة والموت، اللاوجود، والعبور من حد إلي حد.
العالم يحيطه الماء الأزلي، وإليه أيضاً يمضي الوجود بعد انتهائه، نهر النيل مصدر للحياة، مقدس، عبر العالم الآخر يمثل الإنسان أمام قضائه وقبل أن يوزن قلبه لابد أن يقسم وأن يقر أمام أربعين قاضياً قبل المثول أمام قاضي المحكمة الأكبر، أوزير، أهم قسم يتلوه:
»أقسم أنني لم ألوث ماء النيل..«
في الجنوب، كل أبواب البيوت تتجه إلي النهر، تفتح علي النهر، ويغمس النوبيون أطفالهم المولودين حديثاً في النهر، للنهر احترامه، وهذا احترام قديم، لكن مع تقدم السيطرة عليه وهنت العلاقة بين المصريين ونهرهم، في القاهرة حوصر المجري بناطحات السحاب الجديدة التي يقطنها الأثرياء الجدد، أصبح المجري المهيب مثل النفق المائي، وأُبعد معظم المصريين عنه بما أنشئ عليه من نواد خاصة، ومنشآت شتي، أما السفن العائمة فتلقي فضلاتها في المجري، وكذلك بعض المصانع، انتظام وصول المياه إلي القوم جعلهم يفتقدون إلي الوعي المائي، لا ينتبهون إلي حقائق تتعلق بثبات حصة مصر من ماء النيل »حوالي خمسة وخمسين مليون متر مكعب« وزيادة السكان المتوالية.
أتأمل الأمواج المتدفقة تلك الليلة، تتداخل الأسئلة بالخواطر.
ما علاقة هذه الأمواج بالأمواج التي تدفقت في النهر نفسه منذ آلاف السنين، هل يتناسل الماء؟ أم أنه يتوالد؟ أم انه يتحول من شكل إلي شكل، من قطر إلي بحر إلي قطر، من بحر إلي غيم، من مالح إلي عذب، إلي أمطار، إلي أنهار، إلي أشجار وثمار وأنفاس تتوالي ثم تمضي، هكذا بدا لي موج البحر تلك الليلة.

لابد للنهر من جريان مستمر، وإلا ما اعتبر نهراً، إنه مرحلة في دورة تقطعها القطرة، النهر يستعصي علي الإمساك، وإذ يجري النهر ينفصل عن الإنسان، لابد أن يبذل الإنسان جهداً لينال حظه منه، بعض وليس كل، مستحيل علي الإنسان أن يحتوي النهر، أو أن يمتلكه، النهر جسر بين مرحلتين، اكتمال القطر وسقوطه مطراً، ثم رحيله بخراً عبر البحر.
ما من قوة مثل الماء.
سأل أحدهم حكيماً يوماً؟
هل هناك ما هو أقول من النار؟
قال نعم: الرياح
هل هناك ما هو أقوي من الرياح؟
قال نعم: الماء
هل هناك ما هو أقوي من الماء؟
قال نعم: الماء أقوي من الماء
أتيح لي يوماً أن أري ذوبان الثلوج فوق كردستان، دائماً أستعيد مشهد هذه الخيوط الرفيعة، تنحدر، تتلاقي، تكون مجاري الأنهار الصغيرة إلي أن تصب في النهر الأكبر، دجلة، وعندما أبحرت فيه رأيت النهر وقد قص صخور جبال حمدين قصاً.
لا شيء يمكن أن يقف في مواجهة الماء.
شرط اكتمال النهر الجريان، وما يجري لابد أن يطوي، وكل ما أنجزه الإنسان مؤقت مهما طال أمره، أتأمل السدود وأسأل نفسي: إلي متي؟
أتأمل أحوال النهر الذي أوجد الحياة في خضم الجدب، في العمق الشجي مازال ماثلاً، ولكن المدن الكبيرة التهمت الصلة، مازال قومي في الريف يجلون الماء، وتقديمه إلي الضيف علامة أمان، والاحتفاظ به في المنازل عند النوم باعث للطمأنينة، ومازال وقف الماء أعز ما يمكن تقديمه لروح الميت الغالي، هكذا توضع القلل الفخارية في الطريق لتضفي الخير والرحمة من أجل الراحل.
للجنة أنهار وليس بحار، فالنهر للحياة، والبحار كالصحراء للأبدية، هنا يقترن البر والبحر في الدلالة والإشارة.
هنا أستعيد المشهد التاسع من »مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية« لمولانا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي:
أشهدني الحق بالأنهار، وقال لي: تأمل وقوعهاه
فرأيتها تقع في أربعة أبحر، النهر الواحد يرمي في بحر
الأرواح، والنهر الثاني يرمي في بحر الخطاب والنهر
الثالث يرمي في بحر المزمار والسكر، والنهر الرابع
يرمي في بحر الحب، ويتفرع من هذه الأنهار جداول تسقي
زراعات الزارعين.
ثم رميت بصري في الأبحر فرأيتها تنتهي إلي بحر واحد محيط بجميعها ترمي فيه هذه الأبحر ورأيت الأنهار الأربعة تتفجر من ذلك البحر المحيط ثم ترجع إليه بعد الامتزاج بهذه الأبحر الأربعة.
طبقاً للتصور المصري القديم، كان الإنسان يمثل أمام محكمة قضاة الأبدية بعد انتقاله من الحياة إلي العالم الآخر، حيث الإله أوزير، إله الموت، المقدس، كان الإنسان يمر أمام أربعين قاضياً، ويقر بما فعله وما لم يفعله من أمور شريرة في الحياة الدنيا.
يقول مثلاً:
أنا لم أسرق
أنا لم أزن
أنا لم أؤذي رجلاً كهلاً..
غير أن أهم ما كان يجب أن ينطق به، ذلك الإقرار: أنا لم ألوث ماء النيل.
النيل، النهر الذي يتخلل الصحراء، مقدس، معبود، كان يرمز إليه بالإله حابي، ما ترتب علي وجوده من مظاهر أدي إلي إمعان الفكر، حول الأسئلة الكبري المتعلقة بالحياة، من أين بدأت؟ إلي أين تمضي؟ ما أصلها؟
كل عام، في توقيت معلوم تختفي أرض مصر المزروعة في لجة من المياه، ثم لا تلبث أن تنحسر عنها رويداً، رويداً، هكذا تصور المصري القديم أن الأرض ظهرت من الماء، اليابسة وجودها مترتب علي الماء، الماء إذن أصل، منه ظهر التل الأزلي القديم أول ما ظهر، موقع مرتفع اسمه »نون«، منه بدأ العالم، إنه التل الموغل في القدم. التل المزدهر الذي ظهر في أول العصور، وحددوا مكانه في مواقع مختلفة من أرض مصر. فوقه ظهرت المعالم الأولي للحياة، استقرت فيه الضفادع والثعابين، وهي من الكائنات التي تتفق مع ما يغمر المكان من ظلام ورطوبة، ثمانية مخلوقات، وماتزال في مصر مدينة تسمي »أشمون« بصعيد مصر، أي الثمانية، فوق التل استقرت أيضاً بيضة طائر مائي، خرجت منها أوزة استحال بخروجها الظلام الدامس إلي نهار، إنها الشمس التي طارت مطلقة صيحة، لذلك سميت: الصيحة الأولي الكبيرة، سطعت فوق الماء، فكان ذلك بمثابة الضوء الأول والصوت الأول الذي أضاء الظلام الدامس، في نفس الوقت بدأ الصمت الأزلي، الصمت الممتد فوق سطح بحار وأنهار وعيون وآبار العالم.

إنه الماء، الماء المتدفق زمن الفيضان، التوقيت الذي نسج وشائج مصر بالكون، فمجيء الماء في زمن معين ارتبط بظهور نجم الشعري اليمانية، وقاد ذلك إلي النظر في النجوم، إلي دورات الفلك، إلي نسج كل أساطير مصر القديمة التي لم تكن وقتئذ أساطير، بل كانت تفاصيل رؤية متكاملة للكون، للوجود.
الأرض قبل بدء وصول مياه الفيضان تكون متشققة، متشوقة إلي لقاح الماء، وإذ يبدأ، يغمر الشقوق، وتلين الأرض، تتخصب فينبت الزرع، إنها نظرة كونية عميقة، لن أنسي وقوفي مذهولاً، مأخوذاً، أمام رسم جداري في إحدي مقابر الأقصر، تمثل الإله أوزيريس متمدداً تحت مستوي سطح الأرض ومن جسده تنبت زهور اللوتس وسنابل القمح وشتي الأشجار، إنها عناصر الكون المتصلة، فليست الذرات الكونية لأجسادنا، أو النبات الذي نراه، أو الأرض، أو قطرات المياه، إلا نفس الذرات المكونة لأقصي نجوم المجرات بعداً عن كوكبنا، أدرك المصريون القدماء هذه الحقيقة الأولية، والشعراء العظام.
هذه اللوحة الجدارية لأوزيريس الذي لا نراه إلا ملفوفاً في الكفن الموميائي الأبيض، مرصعاً بشارات القداسة، إنما تعبر عن تلك الرؤية الإنسانية العميقة لعناصر الوجود جميعها، والماء عنصر البداية دائماً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.