اندلعت صرختي الأولي في الغرفة الأمامية من بيت خالي، بربع حسام الدين، قرية جهينة الغربية، بإقليم سوهاج، الصعيد، الجنوب، عالمي الأول الذي تشكلت فيه الصور الأولي لذاكرتي، من مكونات هذا الواقع صيغت عناصرها وأركانها. النخيل، النخيل، الأشجار، قنوات المياه، تدفق في مجاريها، لم أسأل نفسي إلا بعد سنوات من تقدمي في العمر، من أين يجيء هذا الماء؟ وإلي أين؟ الماكينة التي تدفع بالمياه عبر الحوض إلي القنوات، مياه مؤطرة، محددة بمسارات عتيقة وضعها الإنسان الذي جاء إلي ضفتي النيل منذ حقب سحيقة، لا نعرف مقدارها. غير أن ما يطالعني ذلك المشهد الذي اختفي الآن، عندما بدأنا نزور جهينة كل صيف، نجيء من القاهرة إلي مدينة طهطا بالقطار، ثم ننتقل بالسيارة عبر طريق مترب صوب الغرب، وندخل الربع من ناحية الصحراء، حيث المقابر، والأبدية، فهناك تغيب الشمس، ذلك المشهد المهيب الذي بث الحنثية في نفوس الأجداد ثم ألهمهم الرؤيا، وأحوال النشوء والخلق. تلك السنة جاءت »الدميرة« عالية، »الدميرة« الاسم القديم لفيضان النهر المقدس في الزمن القديم والذي جري ترويضه إلي حد ما من خلال قناطر وسدود وترع وجسور وقنوات وفروع عبر القرون المتوالية، ثم جري ترويضه النهائي مع السد العالي الذي انتهي تشييده عام تسعة وستين، وإن كان للنهر حالات يطل عبرها الخطر القديم، كما حدث في العام 9991 والذي شهد فيضاناً مرتفعاً أقلق وأنذر، وإن كان قومي ضعف عندهم الحس بالفيضان، لا يهتم إلا المتخصصون. »الدميرة« ربما كلمة مصرية قديمة تعني الفيضان، في تلك السنة من نهاية الأربعينيات تجاوزت المياه الجسور المشيدة، وتدفقت لتغرق الأراضي المزروعة، وبيوت قائمة، أما ربع حسام الدين فقد ظل بمنأي، ذلك أنه مقام علي مرتفع من الأرض، تصعد اليابسة شيئاً فشيئاً، البيوت علي الجانبين، إلي اليمين الرحبة التي تطل عليها أبواب البيوت، في هذه السنة كان لابد أن نصل بالقوارب إلي الرحبة، لن يندثر أبداً هذا المشهد من مخيلتي. انبساط الماء، سطحه المستوي اللئلاء، الممتد، ومن خلاله تنبثق المرتفعات الصغيرة التي لم يطلها بعد، هكذا تظهر أجزاء أخري من الأرض بعد انحسار المياه، لكنها تظل جزراً، الأصل هو الماء، والاستثناء تلك اليابسة. إلي الجنوب من جهينة، حوالي أربعين كيلو متراً تقع العرابة المدفونة حيث أقدس الأماكن في مصر الغابرة، مركز عبادة أوزير، أحد ثلاثة معابد مصرية مقدسة وصلت إلينا سليمة، أبيدوس الذي شرع في بنائه سيتي الأول وأتمه رمسيس الثاني، إلي الغرب من المعبد المهيب الذي صمم كمواز للكون المرئي أو المتخيل، يقع معبد صغير ملحق، يسمونه اليوم الأوزريون. المعابد الكبري دائماً عند الحافة، أما حافة الأراضي المزروعة وحافة الصحراء، في مصر يتجاور اللونان، الأخضر والأصفر، تجاورا ممتدا، واضحا جليا، يمكن للإنسان أن يقف بقدم هنا وأخري هنا، وما يحدد ذلك سريان الماء. في هذا المعبد الخلفي، في قلب الصحراء يسري الماء من نبع خفي، مياه جوفية؟ ربما.. مياه تسربت من النيل؟ ربما.. إنها قديمة، أزلية، موجودة حتي الآن، دائماً أتطلع إليها في مسارها الموجع، المحيط بصخرة قاتمة صلدة، جزيرة صغيرة، لكنها رمز لتصور الأجداد القدماء لبدء الوجود، للخلق، فالماء قديم، ومنه نبعت الحياة، هنا نتلو الآية القرآنية الكريمة: »وجعلنا من الماء كل شيء حي..«. عين الحياة أينما ولينا الوجه فثمة ماء. مستو، ممتد، به يكون القياس، إنه الموجود الوحيد علي مستوي واحد، في البحار والأنهار، وشتي الامتدادات، تضطرم البحار وتتدفق ويتعاقب الموج، لكنه المستوي الواحد، لكنه لا يقتصر علي ذلك، إذ نجده في الأعالي، قطراته التي تكون السحاب، المنخفض والمرتفع، ومنه يجيء الغيث إذا الغيث همي، والعجيب، الغريب، أن هذا المطر العذب، الذي تخضر به الأرض، ويروي ظمأ النفوس الحية، وتمتد معه الحياة أينما سري، وفاضت به الأنهار، العجيب أنه قادم من ماء مالح تفيض به المحيطات والبحار، لكنه إذ يعلق في الفراغ متحولاً عبر الفراغ إلي الأعالي، يتغير أمره من مالح إلي عذب، ومن مساحات شاسعة لا تروي ظمأ ولا تسقي نبات علي البر إلي أنهار وعيون، بها تكون النشأة، ومنها يكون الحضور. في جوف الأرض، علي مسافات متفاوتة، في الصخور، في الرمال التي لا يخطر لذهن بشري أنها تعرفه أو تقترن به، يسدد علماء الكون وخبراء الفلك مناظيرهم إلي أعماق بعيدة تقاس بملايين السنين الضوئية ويؤكدون وجود الماء بين المجرات، وفي المجرات، وإذا استدلوا عليه فوق كوكب من خلال شكله كثلوج أو بقاياه في الأخاديد الدالة علي جريانه يوماً. فتلك علامة حياة، وإشارة إلي احتمال وجود كينونة، إنه منبث موزع في أرجاء الكون الفسيح. أشكاله بلا حصر. صلب فهو ثلج، سائل وهذا ما نعرفه. لا يُري، حيث لا قوام ولا ملمس، فهو بخار. له كل الأشكال ولا شكل له، إذ يتشكل بما يحويه، لون الماء لون انائه. فوقي، تحتي، يخرج بارداً من جوف الأرض الملتهب، وأحياناً يخرج دافئاً أو ساخناً، في صحراء مصر الغربية تتوزع الواحات العتيقة، في الواحات الداخلة قصية البعد، عيون ماء وفيرة، وقفت يوماً عند عين ماء تجاورها أخري، الأولي يتدفق منها ماء بارد لذة للشاربين، العين الثانية علي بعد أمتار قليلة، يتدفق منها ماء دافئ، يروي بعض الأهالي هنا واقعة جرت يوماً، عندما جاء عامل صعيدي من جنوب مصر، أحد أولئك العمال الفقراء الذين يرحلون إلي حيث توجد فرصة عمل عابرة، نزل في الصباح الباكر إلي الحوض الذي تتجمع فيه المياه الدافئة، أدركه خدر، تحللت متاعبه، وتواري إرهاقه، نعس، وطواه الماء، رحل به إلي الأبد. الماء سبب الحياة القوي، يُجهز عليها أيضاً إذا جرت الأمور في غير مواضعها، في الأساطير القديمة يرحل جلجامش بحثاً عن ماء الحياة، الماء الذي يحقق شربه الخلود ويجنب الإنسان الفناء، ولكن يقع الخطأ غير المقصود فيشرب الثعبان وتفوت الإنسان الفرصة، تقول الأساطير أيضاً ان الاسكندر الأكبر أخطأ الطريق إلي عين الحياة ولم يشرب الماء الذي يحقق له الخلود، إنسان واحد فقط هو الذي عرف مكان العين وشرب منها، لذلك تخطي الحدود بين الأزمنة، إنه سيدنا الخضر الذي نقرأ عنه في قصص الصوفية وأخبارهم وكراماتهم، اللقاء به كرامة، ويجمع المفسرون علي أنه هو المعني في سورة الكهف، الذي التقي به سيدنا موسي. » فوجد عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدُنا علماً«. أين عين الحياة؟ لا أحد يدري، قد يمر الإنسان إلي جوارها ويفوته تلك الأيام. الضعيف عندهم كالبئر الموشكة علي الانهيار، والبخيل كالماء البعيد الشحيح، والإنسان الكريم كالنبع، أما تعبير »ماء الشباب« فدليل علي الحيوية، لنصغ إلي ابن الرومي يرثي »بستان« المغنية: يا حر صدري علي ثلاثة أموا ه، هُريقت في التراب والمدد »ماء الشباب« ونعمة مُزِجا »بماء ذاك الحياء« والخفر تبتل العود بعد فقدكُم وازدجر اللهو أي مزدجر وغاض »ماء النعيم« يتبعكم وانهمر الدمع أي منهمر ويطلقون ماء الحياة علي مني الرجل، يقول ابن سينا: احفظ منيك ما استطعت فإنه »ماء الحياة« يصب في الأرحام أفاض العشاق في الحديث عن »ماء الشوق« و»ماء الجفن« و»ماء الصبابة« و»ماء الهوي«، قال العتابي: أكاتم لوعات الهوي ويبينها تخلل »ماء الشوق« بين جفوني ولعل أغرب ما يلاقي القارئ ذلك الحديث عن ماء الغيب، وللقاضي عبدالجواد القنائي المصري الشافعي رسالة عنوانها »كشف الريب عن ماء الغيب« شرح فيها تلك الأبيات: توضأ بماء الغيب إن كنت ذا سر وإلا تيمم بالصعيد والصخر الشرب منها، هكذا الإنسان، دائماً في الفوت، تماماً كقطرات المياه، لا تمكث علي صورة، ولا تستمر علي حال واحد، دائماً في تبدل، دائماً في تحول. ماء الغيب في معاجم لغتنا العربية نتأمل ما يتعلق بالماء، كل ما هو جميل وما فيه خير نسبوه إلي الماء، فقالوا لما لا يستحسنونه »لا ماء فيه«، وصفوا الشخص الوقح بأنه »ليس في وجهه ماء«، ونسبوا إلي الماء ما هو حسن، يقول أبو نواس: لما ندبتك للجزيل أجبتني لبيك واستعذبت ماء كلامي ماء الوجه أي الحياء والشرف، ماء الشباب للنضارة والجمال، ماء الحياة، والمرأة الجميلة توصف بأنها »ماء السماء الحيوان للجاحظ«، والمنذر ابن ماء السماء أمره ذائع. يقول الأستاذ محمد بن عبدالعزيز بن عبدالله في المجلد الأول من موسوعته القيمة »الماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي«: »ويكفي أن نذكر أن العرب لفرط تشوقهم وتطلعهم للمطر والغيث وبحثهم عنه، قد لقبوا ببني »ماء السماء«.. وغاية دعائهم للمرجو والمشكور أن يقولوا له: سقاك الله، فإذا تذكروا أياماً طاف فيها الأنس، وصفت فيها النفوس قالوا: سقي الله وقدِّم إماماً كنت، أنت إمامه وصل صلاة العصر في أول الفجر فهذي صلاة العارفين بربهم فإن كنت منهم فامزج البر بالبحر الدلالات اللغوية للماء في العربية، إنما تعكس قيمة الماء في حياة القوم، حيث الصحراء الممتدة، والجفاف، ودورات الغيث التي قد تأتي فيحل النماء، وربما تتأخر فيكون الجفاف.