دعوة إلى القرّاء جميعًا.. هذه الصفحة بأقلام القراء، إذ يكتبها كل مَن يجد فى نفسه شيئا جديرا بالكتابة، ومن ثمّ القراءة، فكل منا صاحِب تجربة فى هذه الحياة، وكل منا له خبراته المتنوعة، ومن المؤكد أن ثمة قراء يملكون قدرة التعبير عن ذواتهم، وبداخلهم الرغبة فى نشر ما تعلّموه من تجاربهم الإنسانية، وما عانوه فى خبراتهم الحياتية، حتى يستفيد الآخرون منها، وهذه -كما تعلمون- هى رسالة الكتابة. هو أول وآخر رجل فى حياتى، فنحن جيران، وأمى وأمه صديقتان، ومن ثم عشنا معا مرحلة الطفولة السعيدة، ولم تنقطع علاقتنا فى فترة الصبا، ولا فى أيام الشباب الجميلة. وبسبب لعبنا معا، لساعات طويلة، ثم حواراتنا الشيقة والممتدة، وتفاهُمنا بهدوء، اعتبر الأهل أننا فى المستقبل سنكون لبعض، إذ كانوا كثيرا ما يقولون: «فلان لفلانة»! ومن المدهش أننا -أنا وهو- لم نكن نرى فى هذا الأمر أى شىء غير عادى، وإنما كنا، فى ما يبدو، نعتبر هذا الموضوع من حقائق الحياة، أو من ضمن قوانين الطبيعة! ولهذا كنت أحبه، كما أحب أبى وأمى، وأخى وأختى، وأظنه كان يبادلنى نفس الشعور، بنفس الطريقة، ولذا ربما افتقدت علاقتنا جانب الاكتشاف الإنسانى، أو معنى المغامرة العاطفية، فوجودنا معا، واقتراب كل منا من الآخر، كان أمرا طبيعيا، معترَفًا به من الجميع. ثم كبرنا وتزوجنا فعلا وعشنا معا سنوات رائعة، وأنجبت بنتين جميلتين جعلتا حياتنا أكثر بهجة وسعادة. وقد حقق زوجى نجاحا كبيرا فى حياته العملية، وطلب منى أن أتفرغ له وللبنتين، فنفّذت طلبه فورا، وحاولت أن استثمر وقتى بطريقة مثمرة، وفجأة، وأنا أظن أننا نُشكل أسرة سعيدة متحابّة، رأيت زوجى شاردا بعيدا عنا، صحيح هو، كعادته، طيب وحنون، ويلعب كثيرا مع البنتين، ويدللهما جدا، إلا أننى شعرت به مختلفا عما كان عليه. وعندما سألته، لم يقدم لى أى إجابة منطقية، إذ كان الصراع، على أشده، فى داخله! ومن ثم، أخذ الأمر يتطور، يوما بعد يوم، إذ يبتعد عنى، كل ساعة، وهو جالس إلى جوارى! وبمشاعر المرأة عرفتُ وتأكدتُ من وجود امرأة أخرى فى حياته، بعد كل هذه السنوات الطويلة، وبعدما تجاوزنا سن الأربعين، فكيف ينجذب هكذا إلى أخرى؟! لم أواجهه بالحقيقة المُرّة، وإنما كنت منتظرة ما سيقدم عليه، فهو -كما أعرفه- لن يحتمل هذا الوضع طويلا، وحدث فعلا ما توقعته، وجاء إلىّ يحدّثنى عن حاله المضطرب، وعن حبه لى وللبنتين، وعن سنوات العشرة الطيبة، فتصورت فى البداية أنه سيطلب منى الموافقة على زواجه من الأخرى، فإذا به يستأذننى فى الابتعاد عن البيت لبعض الوقت! ترك البيت وذهب إلى الأخرى وأنا كنت سأُجنّ ولا أدرى ماذا أفعل؟ وهل من الحكمة أن أطلب الطلاق؟ لعل هذا هو ما يريده الآن، إذن سأتركه يتخذ القرار الخاطىء وحده. وفكرت فى موقفى إذا ما أراد أن يجمع بينى وبينها، وبدأت أتنقل بين الرفض العنيف والقبول المتسامح، إلى أن جاء القرار النهائى من عنده، وقُضى الأمر! شعرت كأنما زلزال حطّم عمود البيت فانهار كل شىء فوق رأسى، بيد أننى حاولت أن أتماسك قدر المستطاع من أجل ابنتين تمران بمرحلة المراهقة وفى أشد الحاجة إلى وجود أب حنون معهما، ولذلك حاولت بأقصى طاقتى أن أحافظ على صورة الأب عندهما، فلم أذكره بكلمة واحدة تسىء إليه، بل كنت أبحث له عن أعذار تبرر بُعده عنّا، فطبيعة عمله تتطلب كثرة السفر، ونجاحه الباهر فى مشروعاته يوفر لنا حياة مرفهة. ورغم أنه قرر أن الأمور المالية فى البيت ستسير كما هى وأنه ملتزم بكل ما نحتاج إليه من طلبات، فإننى قررت أن أعود إلى عملى وأن أتكفل بمصاريفى الشخصية. كما عدت إلى الانتظام فى رياضتى اليومية، المشى لمدة ساعة كاملة، وقد ساعدنى جدا هذان القراران، إذ كنت فى حاجة شديدة إلى بذل مجهود بدنى وتفريغ الطاقة الغضبية، كما أن الانشغال بأمور العمل سمح لى بالعيش لبعض الوقت خارج مشكلتى الشخصية التى أحيا معها ليل نهار. ومرت الأيام والشهور والسنوات! فحركة الحياة لا تتوقف أبدا، والبنتان اعتادتا الحياة الجديدة، فأبوهما يغدق عليهما من ماله ووقته وحنانه، ومن ثم شعرت أن جميع من حولى راضون عن الحياة بشكلها الجديد، وأنا أيضا هدأت، إلى حد ما، وتأقلمت مع الواقع، لكن ثمة شىء ما زال بداخلى، ولا أعرف كيف أُفصح عنه، فحين عرض علىَّ بعض صديقاتى فكرة الزواج، نظرت إليهن مذهولة، إذ لا يمكننى أبدا أن أفكر فى أى رجل آخر! ليس هذا فحسب، بل إننى حتى الآن لا يمكننى أن أتصور كيف استطاع هو أن يجعل امرأة أخرى تأخذ مكانى! ثم حدث شىء عجيب فى يوم لا يُنسى، فقد رنّ هاتفى المحمول، والاتصالات بيننا لم تنقطع من أجل البنتين، لكن ما إن رأيت اسمه هذه المرة وقبل أن أرد عليه عرفت أن هذا الاتصال من أجلى أنا! وقد كان، إذ طلب أن أقبل دعوته على العشاء وحدنا، فعرفت ما سيقوله، كما عرفت أيضا أنى سأصمت لعدم قدرتى على الرد عليه، ومن ثم لم تنقطع الدموع من عينى طوال هذا اليوم حتى لحظة وصوله بالسيارة! ركبت إلى جواره متماسكة، وبدأ هو الحديث بشكل عادى، وأنا أرد عليه بطريقة طبيعية فى انتظار لحظة الاعتراف المباشر. وعندما طلب منى أن أغفر له وأسامحه، قلت له بصدق إننى سامحته من زمان، فنظر إلىَّ مندهشا، فقلت له متعجبة: معقولة لم تعرفنى بعد كل هذا العمر؟! عن العَدْل مرة أخرى لقد أثارنى حديث الأسبوع الماضى عن العدل، وأتفهم جيدا كلام الأستاذ الفاضل الذى قضى فى وزارة التربية والتعليم أكثر من ثلاثة عقود، ثم اكتشف فجأة أن ابنه الصغير الضابط فى القوات المسلحة يحصل على راتب يزيد على ضعف راتبه من الحكومة المصرية! وأحب أن أعرض رؤيتى الشخصية فى قضية العدل والظلم، واسمحوا لى أن أتناول الموضوع من مستوى أكثر عمقا، أعنى من جانبه الروحى، إذ أناقشه من زاوية دينية، وأحلله بطريقة فلسفية، فهل يوجد عدل فى هذه الدنيا؟ فى الغرب يقولون: إن الحياة غير عادلة، فمن ينظر إلى البشر يجدهم مختلفين فى قدراتهم العقلية وإمكاناتهم الشخصية، وصفاتهم البدنية. ومن ثم فلا مساواة فى نقطة البداية، وبعدها تأتى البيئة المحيطة بكل منا، والتى تختلف أشد الاختلاف من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر. أما عندنا فنجد، على سبيل المثال، الشيخ الشعراوى، يؤكد أن البشر جميعا متساوون! إذ يقول: «إن مجموع مواهب كل إنسان تساوى مجموع مواهب كل إنسان، فإنْ زِدْتَ عنى فى المال فربما أزيد عنك فى الصحة، وهكذا تكون المحصّلة النهائية متساوية عند جميع الناس فى مواهب الدنيا، ويكون التفاضل الحقيقى بينهم بالتقوى والعمل الصالح». وهذه النظرة مريحة جدا، إذ من خلالها ترى أن ثمة مساواة بين البشر جميعا، وأن العدل متحقق فى هذه الدنيا، رغم كل ما نشاهده من تفاوت كبير بين حظوظ البشر فى الحياة! ولا يمكننا أن نحصى مميزات كل إنسان وملكاته ثم نقارنه بباقى البشر جميعا! ولذلك فرؤية الشيخ الشعراوى، على جاذبيتها، غير قابلة للإثبات العلمى، ومن ثم فهى، فقط، مريحة لمن يؤمن بها، كما هى! أما غير المؤمنين، فلا يمكن إقناعهم بشىء فى هذا الموضوع، فالأمر عندهم كله عبثى، وحتى إذا كنا نخضع لنظام صارم يشمل حركة الكون وحياة الكائنات فهذه مجرد قوانين عمياء، ومن ثم فلا عدل هنا ولا حياة أخرى هناك! بينما أهل الإيمان لهم نظرة أخرى، ففى الكتاب المقدس: «ألعل عند الله ظُلما؟ حاشا» (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية)، وفى المزامير: «الله قاض عادل». كذلك ذُكر فى القرآن الكريم هذا المعنى مرات عدة، منها: «وما ربك بظلام للعبيد» ( فصّلت: 46)، و«إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون» ( يونس: 44). فلا ظلم على الإطلاق، لكن متى؟ فى الآخرة، أما هنا، فكما قال تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» (الإسراء: 21)، وتأمل فى قوله: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» (الزخرف: 32). إذن هذا التفاوت الواضح فى حظوظ الناس فى هذه الدنيا لا قيمة كبيرة له إذا ما نظرنا بشكل أعمق إلى طبيعة وجودنا المؤقت فى هذا العالم، فكل ما نحن فيه الآن زائل، ومن ثم فلا أهمية كبرى لكل هذه المظاهر الفارغة، وإنما الأهمية الكبرى تكمن فى تقوى الله والالتزام بأوامره ونواهية، فالدار الآخرة هى الحيوان لو كانوا يعلمون. وإذا كان الله قد أمرنا بإقامة العدل، فعلى قدر طاقتنا البشرية، إذ إن تحقيق العدل المطلق على الأرض شبه مستحيل! فعن عائشة، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثُم يقول: اللهمّ هذا فعلى فى ما أملك، فلا تَلُمْنى فى ما تملك ولا أملك» (أخرجه أحمد، والترمذى، وغيرهما). وكان، صلى الله عليه وسلم، يقول: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِى عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» (صحيح البخارى). أما العدل المطلق الذى نشتاق إليه فسيتحقق فعلا عند من لا تضيع عنده مثقال ذرة من خير ولا من شر، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.