فى الأسبوع الماضى قدمت بشكل عام لكتاب هنرى كيسنجر الأخير «نظام عالمى جديد»، وقلت إن كيسنجر يقدم فى كتابه مبررات البحث عن نظام جديد فى سلسلة الأزمات التى تجتاح العالم واحدة تلو الأخرى، وفى مجالات متعددة وفى أقاليم مختلفة خلال العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، فمن التحدى الروسى فى أوكرانيا، إلى التحدى الصينى فى جنوب شرق آسيا، إلى التحدى النووى الإيرانى وصعود لاعبين سياسيين وعسكريين من جماعات مسلحة فى الشرق الأوسط، إلى انتشار الأمراض والأوبئة فى إفريقيا، يجد النظام العالمى الحالى نفسه فى أزمة تستدعى ضرورة التغيير لوضع أسس نظام مقبول وقادر على البقاء، يحفظ السلام العالمى ويحافظ فى الوقت نفسه على القيم التى طالما دافعت عنها الولاياتالمتحدة والعالم الغربى، وهى قيم الحرية والديمقراطية. وفى هذا المقال سوف أناقش واحدا من التحديات التى تواجه النظام العالمى فى الشرق الأوسط، ألا وهو صعود نفوذ الجماعات المسلحة الدينية والعرقية، التى تمكنت ليس فقط من تهديد الدولة القومية التقليدية فى الشرق الأوسط، ولكن إسقاط بعض هذه الدول أو مواصلة الحرب عليها من أجل إسقاطها. إن كيسنجر أشار فى كتابه وكذلك فى مقاله عن الكتاب فى صحيفة «وول ستريت جورنال» (29 أغسطس 2014) إلى خطورة تأثير الجماعات المسلحة على بنية الدولة القومية وعلى استقرار النظام الإقليمى ومن ثم النظام الدولى. وقال كيسنجر إن انتصار حركة راديكالية ربما يخلق نظاما فى إقليم ما، بينما هذا فى الوقت نفسه قد يجهز المسرح لصراع هذا الإقليم مع إقليم أو أقاليم أخرى فى العالم. وهذا يعنى مثلا أن انتصار تيار الإسلام السياسى الذى تمثله جماعة الإخوان المسلمين، الذى يجد تجسيدا عسكريا له فى شكل جماعات مسلحة مثل تنظيمات «داعش والنصرة والأنصار وبيت المقدس» وغيرها، سوف يعنى بداية صراع جديد فى النظام العالمى بين إقليم يسوده هذا التيار وبين أقاليم أخرى ستجد نفسها فى حال دفاع عن النفس أمام جماعات تحاول التوسع بالقوة عبر الحدود. إن كيسنجر عندما يتحدث عن نظام عالمى جديد، فإنه يرى أن ذلك يستدعى أولا تأسيس مفهوم مشترك عن «النظام» بين كل أقاليم العالم، وإقامة كل نظام إقليمى على هذا الأساس، ثم إقامة علاقات بين الأقاليم المختلفة، كل منها والآخر على الأساس نفسه. وهذا يتطلب الاتفاق داخل النظام على نسق متكامل للقيم الرئيسية، وهى فى النظام الذى يقترحه كيسنجر قيم الحرية والديمقراطية والعدل، وأن تتوفر لهذا النظام آليات للبقاء والاستدامة. وعلى الرغم من كل مظاهر الفشل الحالية التى يواجهها النظام العالمى بسبب سوء الإدارة الأمريكية، فإن كيسنجر يعود ليؤكد أن الدولة الوحيدة فى العالم المهيأة، التى يتعين عليها قيادة النظام العالمى فى القرن الحادى والعشرين هى الولاياتالمتحدةالأمريكية. لكن كيسنجر لم يتقدم خطوة واحدة لاقتراح الطريق الصحيح للتعامل مع أسس وعوامل عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط، ومنها انتشار الإرهاب، وخطر الانتشار النووى، وغياب أى نظام شامل ومتماسك للتعاون الإقليمى، إلى جانب تهديد العصابات المسلحة للدولة القومية التى تمثل الوحدة الأساسية السياسية للأوضاع القائمة الآن فى الشرق الأوسط. ومن المفيد هنا أن نتذكر أن هنرى كيسنجر فى كتابه «الدبلوماسية» الصادر عام 1994 (توجد ترجمة عربية له فى سلسلة الكتاب الذهبى لدار روزاليوسف عام 2001)، شدد على هشاشة الحدود السياسية للدول فى منطقة الشرق الأوسط، وقال إن هذه الحدود لا تعبر عن تفاعلات تاريخية وحضارية، وإنما هى حدود رسمتها القوى الاستعمارية المنتصرة فى الحرب العالمية الأولى لغرض استمرار السيطرة على المنطقة. وهو فى كتابه الجديد يحذر من خطورة الآثار التى تنطوى على استمرار الحكومات الفاسدة والمستبدة، خصوصا خطر إنتاج «الدولة الفاشلة» محل الدولة القومية. وقال كيسنجر إن ضغوط الجماعات المسلحة أدت عمليا إلى تسريع انتشار مظاهر الدولة الفاشلة فى بلدان مثل ليبيا، حيث لا توجد سيطرة حكومية، وكذلك فى سوريا حيث تسيطر مشاهد الحرب الأهلية، وفى العراق حيث تمكن «داعش» من اقتطاع مساحات من هذه الدول ليقيم عليها «دولة خلافة إسلامية». ونحن نضيف إلى ذلك اليمن، وسقوط صنعاء فى هدوء فى أيدى جماعة عبد الملك الحوثى. وهنا يثور التساؤل التالى: هل أسهمت الولاياتالمتحدة بنفسها ومع حلفائها فى حلف الأطلنطى فى إفشال الدولة القومية، ومساندة انفصال جنوب السودان، والانفصال الفعلى لإقليم كردستان، وسقوط ليبيا فى أيدى المتطرفين الإسلاميين، والعمل على تفتيت سوريا وتقديمها ذبيحة للعصابات المسلحة؟ إن الدور الأمريكى ودور الأطلنطى فى خلق تنظيم «القاعدة» وغيره من التنظيمات المتطرفة دينيا وتسليحها وتدريبها ومساندتها للسيطرة على دول بأكملها أو على أجزاء منها، هو دور لا يستطيع لا هنرى كيسنجر ولا غيره أن ينكره. فهل بعد ذلك كله يمكننا أن نصدق أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تسعى فعلا من أجل خلق نظام إقليمى مستقر فى الشرق الأوسط؟!