أكسيوس: أعضاء بالكونجرس الأمريكي "يهددون" الجنائية الدولية بعدم اعتقال مسئولين إسرائيليين    قصف مدفعي إسرائيلي يستهدف مناطق متفرقة شمال قطاع غزة    "لا يمكنه العيش في الماضي".. هجوم قوي من لاعب إنجلترا السابق على صلاح    بعد إنكاره لوجود أدلة أثرية للأنبياء في مصر.. زاهي حواس: آرائي مبنية على تحليل للنصوص والكتابات    موسم مبشر.. حصاد 14280 فدان بصل بالوادي الجديد (صور)    بمشاركة 10 كليات.. انطلاق فعاليات الملتقى المسرحي لطلاب جامعة كفر الشيخ |صور    السجيني: التحديات عديدة أمام هذه القوانين وقياس أثرها التشريعي    اعتقال متظاهرين داعمين لفلسطين في جامعة بتكساس الأمريكية (فيديو)    الشرطة الأمريكية تكشف كواليس حادث إطلاق النار في شارلوت بولاية نورث كارولينا    الجنائية الدولية تأخذ إفادات العاملين بالمجال الصحى فى غزة بشأن جرائم إسرائيل    محلل سياسي: أمريكا تحتاج الهدنة وتبادل الأسرى مع المقاومة أكثر من إسرائيل    باحث في الأمن الإقليمي: مظاهرات الطلبة بالجامعات العالمية ضاغط على الإدارة الأمريكية    اعتصام جديد فى جامعة بريتش كولومبيا الكندية ضد الممارسات الإسرائيلية    كوافيرة لمدة 20 سنة حتى الوصول لمديرة إقليمية بأمازون.. شيرين بدر تكشف التفاصيل    تعيين إمام محمدين رئيسا لقطاع الناشئين بنادي مودرن فيوتشر    أحمد سالم: أزمة بوطيب مستفزة ومصر كانت أولى بهذه الدولارات.. وهذا تفسير احتفال شلبي    الغزاوي: نركز على الدوري أولا قبل النهائي الإفريقي.. والرياضة بدون جماهير ليس لها طعم    خبير تحكيمى: المقاولون تضرر من عدم إعادة ركلة الجزاء بمباراة سموحة    أزمة الصورة المسيئة، رئيس الزمالك يوبخ مصطفى شلبي بسبب طريقة احتفاله أمام دريمز الغاني    النيابة تنتدب المعمل الجنائي لبيان سبب حريق شب داخل مطعم مأكولات سوري شهير بالمعادي    رسميا.. بدء إجازة نهاية العام لطلاب الجامعات الحكومية والخاصة والأهلية بهذا الموعد    العثور على جثة طفلة غارقة داخل ترعة بقنا    ندى ثابت: مركز البيانات والحوسبة يعزز جهود الدولة في التحول الرقمي    تكريم نقيب الممثلين على هامش الصالون الثقافي لرئيس جامعة المنصورة    وزير الأوقاف: مصر بلد القرآن الكريم ونحن جميعًا في خدمة كتاب الله    بالأسود الجريء.. نور الزاهد تبرز أنوثتها بإطلالة ناعمة    حكم الشرع في الوصية الواجبة.. دار الإفتاء تجيب    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    العميد المساعد لجامعة نيويورك: جميع تطعيمات كورونا لها أعراض جانبية ورفع ضدها قضايا    شم النسيم 2024: موعد الاحتفال وحكمه الشرعي ومعانيه الثقافية للمصريين    مصطفى عمار: القارئ يحتاج صحافة الرأي.. وواكبنا الثورة التكنولوجية ب3 أشياء    ضبط 575 مخالفة بائع متحول ب الإسكندرية.. و46 قضية تسول ب جنوب سيناء    مصدر أمني يوضح حقيقة القبض على عاطل دون وجه حق في الإسكندرية    تصريح زاهي حواس عن سيدنا موسى وبني إسرائيل.. سعد الدين الهلالي: الرجل صادق في قوله    متحدث الحكومة يرد على غضب المواطنين تجاه المقيمين غير المصريين: لدينا التزامات دولية    بعد اعتراف أسترازينيكا بآثار لقاح كورونا المميتة.. ما مصير من حصلوا على الجرعات؟ (فيديو)    ما رد وزارة الصحة على اعتراف أسترازينيكا بتسبب اللقاح في جلطات؟    مجدي بدران يفجر مفاجأة عن فيروس «X»: أخطر من كورونا 20 مرة    سر طول العمر.. دراسة تكشف عن علاقة مذهلة بين قصر القامة والحماية من الأمراض    ليفاندوفسكي المتوهج يقود برشلونة لفوز برباعية على فالنسيا    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي    7 معلومات عن تطوير مصانع شركة غزل شبين الكوم ضمن المشروع القومى للصناعة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    ميترو بومين يرفع علم مصر بحفله الأول في منطقة الأهرامات    درجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 30/4/2024 في مصر    تراجع مبيعات هواتف أيفون فى الولايات المتحدة ل33% من جميع الهواتف الذكية    تموين جنوب سيناء: تحرير 54 محضرا بمدن شرم الشيخ وأبو زنيمة ونوبيع    محطة مترو جامعة القاهرة الجديدة تدخل الخدمة وتستقبل الجمهور خلال أيام    محافظ دمياط: حريصون على التعاون مع اللجنة الوطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية    أخبار 24 ساعة.. وزير التموين: توريد 900 ألف طن قمح محلى حتى الآن    برلماني يطالب بالتوقف عن إنشاء كليات جديدة غير مرتبطة بسوق العمل    جامعة المنصورة تكرم نقيب المهن التمثيلية خلال ندوة الصالون الثقافي    بالفيديو| أمينة الفتوى تنصح المتزوجين حديثاً: يجوز تأجيل الإنجاب في هذه الحالات    عيد العمال وشم النسيم 2024.. موعد وعدد أيام الإجازة للقطاع الخاص    آليات وضوابط تحويل الإجازات المرضية إلى سنوية في قانون العمل (تفاصيل)    مدير تعليم دمياط يشهد ملتقى مسؤلات المرشدات بدمياط    وزير العمل ل «البوابة نيوز»: الحد الأدنى لأجور القطاع الخاص 6000 جنيه اعتبارًا من مايو    خالد الجندي: هذه أكبر نعمة يقابلها العبد من رحمة الله -(فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هنرى كيسنجر: «الربيع العربى» ضل طريقه والمصريون يفضلون أى حكم بخلاف «الإخوان»
«الوطن» تنفرد بنشر أحدث كتاب ل«عميد الخارجية الأمريكية»: «النظام العالمى» يتشكل من جديد
نشر في الوطن يوم 22 - 09 - 2014

«الربيع العربى» أثار الآمال بانتهاء المستبدين والمتطرفين.. والسياسيون والإعلام الغربى استقبلوا الثورات بفرح لكنها ضلت الطريق إلى الديمقراطية
خريطة الجهاديين تمتد على مساحات كبيرة من العالم الإسلامى من العراق وسوريا إلى أفغانستان واليمن والصومال ومالى
انتخاب «مرسى» مدعوماً من ائتلاف الجماعات الأصولية الأكثر تطرفاً جاء بعد تعهد سابق من «الإخوان» بعدم السعى إلى السلطة
مصر بلد استثنائى بسبب تقاليدها وهويتها المميزة وعرفت مفهوم الدولة منذ آلاف السنين وأفعال «السادات» الشجاعة دفعت البعض لتقليده.. و«الشرق الأوسط» حائر بين حلم المجد السابق والعجز عن تبنى مبادئ مشتركة حول الشرعية المحلية والدولية
القوى السياسية القائمة جزء لا يتجزأ من النظم العسكرية أو الدينية.. والقوى الدينية فى الريف أثبتت أنها أقوى وأفضل تنظيمياً من عناصر الطبقة الوسطى
انهيار الإجماع الدولى والتدخل الإقليمى فى سوريا وانقسام المعارضة أدت إلى أكبر كارثة إنسانية فى القرن ال21.. والعالم بلا نظام مستقر منذ انهيار الاتحاد السوفيتى.. ولا بد من نظام عالمى جديد يكون شراكة بين الولايات المتحدة والصين
الغرب فسّر انتفاضة ميدان التحرير كدليل على صحة وجود بديل ديمقراطى منذ وقت طويل.. وواشنطن وجدت صعوبة فى وجود قيادة موحدة تلتزم بقراراتها
الحملات العسكرية فى «أفغانستان والعراق» فشلت ونتج عنها فوضى عارمة ودوامة عنف بالشرق الأوسط ولم تحقق الحد الأدنى من الأهداف الأمريكية
النزاع فى سوريا نزاع طوائف متنافسة.. وانتصار الجهاديين على «الأسد» سيشجع نزعات الانفصال الإسلامية لديها
«معالم فى الطريق» أشبه بإعلان حرب ضد النظام العالمى.. وأفكار مؤلفه مثلت أساساً للتنظيمات المسلحة والمتطرفة
التطرف الإسلامى فى الشرق الأوسط وعلاقته بالاضطرابات فى العالم، ومشروع النظام العالمى الإسلامى، والدولة العثمانية عندما باتت رجل أوروبا المريض، وجماعات الإسلام السياسى وعلاقتها بالمد الثورى ثم «الربيع العربى» وكذلك القضية الفلسطينية والنظام العالمى وتراجع دور الدولة، هى جملة محاور مهمة تناولها «هنرى كيسنجر» وزير الخارجية الأمريكى الأسبق فى كتابه الأخير «النظام العالمى»، الذى تعرض «الوطن» حلقات منه. كتاب «كيسنجر» الجديد الذى صدر منذ أيام أثار ضجة فى الولايات المتحدة، وهو كشخصية لعبت دوراً خطيراً فى القرار الأمريكى على مدار 50 عاماً، حاول أن يقدم قراءة عميقة لمستقبل العالم، الذى يعيش تحولاً واضحاً. ويحلل «كيسنجر» فى كتابه أساس النظام العالمى، ويقرأ مستقبل هذا النظام، ويتطرق إلى شئون العالمين العربى والإسلامى والصين وإيران وروسيا، والأسئلة الشائكة المطروحة على الولايات المتحدة اليوم، بشأن دورها فى تشكيل النظام العالمى الجديد، كما يطرح تحديات واسعة فى الكتاب بخصوص كل دول المنطقة، ومناطق أخرى فى سياق قراءته للنظام العالمى الجديد قيد التشكل.
يشرح «كيسنجر» فى كتابه الجديد «النظام العالمى»، الأبعاد التاريخية لمشكلات العالم السياسية حالياً، ويتحدث عن تاريخ العلاقات الدولية منذ معاهدة «فيستفاليا» 1648 التى أسست للدول القومية فى أوروبا وحتى ظهور تنظيم «داعش» فى منتصف عام 2014، ويوضح أنه مؤيد لفكرة إرساء بنية عالمية للأمن والتعاون بين الدول فى القرن ال21، وعبر «كيسنجر» عن مخاوفه من الفوضى التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط وتأثيرها على استقرار العالم وأمنه، ويعتقد أن هذا الخطر ناشئ عن انهيار الدولة التى لم تعد قادرة على فرض هيبتها على أراضيها وظهور قُوى بخلاف الدول تقوم بفرض هيمنتها وسلطتها على مناطق معينة، ويرى أن خريطة الجهاديين تمتد على مساحات كبيرة من العالم الإسلامى، من العراق وسوريا إلى أفغانستان واليمن والصومال ومالى، ويعتقد أنه مع سقوط حائط برلين، وانهيار الاتحاد السوفيتى، ونهاية الحزب الشيوعى الروسى، صار العالم دون نظام مستقر، ولهذا لا بد من نظام عالمى جديد يكون شراكة بين الولايات المتحدة والصين، كما يرى أن من أسباب عدم وجود نظام عالمى فى الوقت الحاضر هو تفكك نظام الدولة الحديثة، وحدث ذلك فى أوروبا كجزء من تطوير الاتحاد الأوروبى، وذكر أنه بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط تآكلت الدول من الإهمال، وتحولت إلى صراعات طائفية، وعرقية، وتفاقمت هذه الصراعات بسبب قوى خارجية، ويرى أيضاً أن هناك عدم تطابُق بين النظام الاقتصادى فى العالم والنظام السياسى، وأن هذا من أهم أسباب الأزمات الاقتصادية.
ويرى «كيسنجر» أن تردد الولايات المتحدة فى التدخل وحرف ميزان الحرب ربما تم تفسيره كمحاولة للتوصل لصفقة مع إيران بشأن ملفها النووى، أو أنها لم تعد تهتم بالشرق الأوسط، لكنه يرى أن جهود الولايات المتحدة لقيت عرقلة من الدول التى تملك حق «الفيتو» مثل الصين وروسيا اللتين تعاملتا مع الانتفاضات فى تونس وليبيا ومصر والبحرين وسوريا من خلال منظور الاستقرار الإقليمى الخاص بهما والأخطار التى ترى أنها ناجمة من المناطق المضطربة التى يعيش فيها المسلمون، فتحقيق الجهاديين انتصاراً على نظام بشار الأسد سيشجع النزعات الانفصالية الإسلامية لديها، وفى النهاية يقول «كيسنجر» إن انهيار الإجماع الدولى والتدخل الإقليمى الذى صاحب انقسام المعارضة أكبر كارثة إنسانية فى القرن ال21 وانتقلت لتؤثر على المنطقة كلها.
وتحت عنوان «الربيع العربى.. الطوفان السورى» قال «كيسنجر» إن الربيع العربى الذى بدأ فى أواخر عام 2010 قد أثار الآمال بأن مراكز القوى فى المنطقة، سواء المستبدون أو المتطرفون، قد باتوا خارج الموجة الجديدة من الإصلاح، واستقبل السياسيون الغربيون ووسائل الإعلام الغربية الثورات فى تونس ومصر بفرح وسعادة باعتبارها ثورات إقليمية يقودها الشباب، رافعين المبادئ الديمقراطية والليبرالية، وأيدت الولايات المتحدة رسمياً مطالب المحتجين، داعمة صرخات لا يمكن إنكارها مثل «الحرية» و«انتخابات حرة ونزيهة» و«حكومة تمثل جميع الأطياف»، و«ديمقراطية حقيقية»، أو أن يسمح بإفشالها، لكن الطريق إلى الديمقراطية سلك طرقاً متعرجة ومضنية، كما أصبح ذلك واضحاً فى أعقاب انهيار الأنظمة الاستبدادية. فقد فسر الكثيرون فى الغرب انتفاضة ميدان التحرير فى مصر كدليل على صحة الحجة بأنه كان ينبغى الترويج لبديل ديمقراطى منذ وقت طويل، لأن المشكلة الحقيقية كانت أن الولايات المتحدة وجدت صعوبة فى اكتشاف العناصر التى يمكن أن تشكل المؤسسات التعددية أو قيادة موحدة تلتزم بقراراتها، وهذا هو السبب فى جعل المصريين يرسمون خيطاً بين الحكم المدنى والعسكرى ثم يفضلون أى حكم بخلاف حكم جماعة الإخوان.
وقد أدى التطلع الأمريكى لتحقيق الديمقراطية إلى إطلاق شعارات بليغة ومثالية فى البلاد، لكن المفاهيم التى تعبر عن الضروريات الأمنية وتعزيز الديمقراطية كثيراً ما تشابكت، وبدا الربيع العربى وثورة الجيل الجديد تعطشاً للديمقراطية الليبرالية مختلفاً، تحولت البهجة إلى الشلل السياسى، فالقوى السياسية القائمة هى جزء لا يتجزأ من النظم العسكرية أو الدينية فى الريف، وأثبتت القوى الدينية فى الريف أنها أقوى وأفضل تنظيماً من عناصر الطبقة الوسطى، ما يدل على أن المبادئ الديمقراطية التى طالب بها الشباب فى ميدان التحرير لم تحقق شيئاً عند الممارسة العملية، وقد عرض الربيع العربى هذا التناقض بدلاً من التغلب عليه وتحديد خطوات وسياسات لحل تلك المعضلة.
ووصف «كيسنجر» شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» بأنه ترك الباب مفتوحاً أمام مسألة القيادة البديلة وما سوف تحل محل السلطات التى يتم إسقاطها وفى مصر، نادى المتظاهرون بالقيم العامة والديمقراطية فى ميدان التحرير، وسهلت مواقع التواصل الاجتماعى المظاهرات القادرة على إسقاط الأنظمة، ولكن القدرة على تمكين الناس من التجمع فى ساحات معينة تختلف عن بناء مؤسسات جديدة للدولة، وفى فراغ السلطة بعد النجاح الأولى للمظاهرات بدأت الفصائل المختلفة تحاول فرض شعارات إما قومية أو دينية مما طغى على الشعارات الأصلية. وقال «كيسنجر»: إن انتخاب الرئيس الأسبق محمد مرسى، القيادى فى جماعة الإخوان، مدعوماً من قِبل ائتلاف من الجماعات الأصولية الأكثر تطرفاً، جاء بعد تعهد سابق من الإخوان بعدم السعى إلى السلطة، وما حدث هو أن ركزت الحكومة الإسلامية على ترسيخ سلطتها بينما شن أنصارها حملة ترهيب ومضايقة للنساء والأقليات والمنشقين، وكانت النتيجة قرار الجيش الإطاحة بهذه الحكومة وإعلان بداية جديدة للعملية السياسية، وتابع «كيسنجر» هل تعتبر أمريكا نفسها مضطرة لدعم كل انتفاضة شعبية ضد أى حكومة غير ديمقراطية؟ وهل تعتبر ذلك أمراً مهماً فى الحفاظ على النظام الدولى حتى الآن؟ وهل كل مظاهرة ديمقراطية بحكم تعريفها؟ وهل ستدعم المظاهرات فى بلاد حليفة؟
وأضاف «كيسنجر» أنه فى الفترة ما بين عامى 1973 و1974 اقتناعاً من الرئيس الراحل أنور السادات بأن الاتحاد السوفيتى يمكن أن يوفر لمصر الأسلحة، ولكنه لم يعد باستطاعته توفير الدعم الدبلوماسى القوى نحو استعادة سيناء من الاحتلال الإسرائيلى، تحول إلى الولايات المتحدة وبات وكأنه حليف لها، وذلك رغم وجود قضية أيديولوجية واحدة توحد وجهات النظر العربية، وهى ظهور إسرائيل كدولة ذات سيادة معترف بها دولياً وكوطن للشعب اليهود، ما أدى إلى مقاومة العرب لذلك ونشوب 4 حروب فى أعوام 48 و56 و67 و73 تفوقت خلالها الأسلحة الإسرائيلية، «على حد زعمه».
وتابع «كيسنجر» أن «السادات» غيَّر سياسات البلاد وابتعد عن الاتحاد السوفيتى من أجل المصالح الوطنية، وأدى ذلك إلى اتفاقات فك الارتباط بين مصر وإسرائيل واتفاق السلام مع إسرائيل فى عام 1979، بعدها تم تعليق عضوية مصر فى جامعة الدول العربية، وشن موجة من الانتقادات ضد «السادات» واغتياله فى نهاية المطاف، ولكن أفعاله الشجاعة دفعت البعض لتقليده، ففى عام 1974 انتهت سوريا وإسرائيل من اتفاق فك الارتباط لتحديد وحماية خطوط الجبهة العسكرية بين البلدين، وقد صمد هذا الاتفاق لأربعة عقود، وشهد حروباً وإرهاباً وحتى الفوضى الناتجة عن الحرب الأهلية السورية، كما مارست كل من الأردن وإسرائيل ضبط النفس المتبادل الذى بلغت ذروته فى نهاية المطاف فى التوصل إلى اتفاق سلام، وبينما استمرت سوريا والعراق فى الميل تجاه الاتحاد السوفيتى ظلت القضية مفتوحة لدعم السياسات الأخرى، وبحلول نهاية السبعينات بدأت أزمات الشرق الأوسط تبدو أكثر وأكثر مثل أزمات البلقان فى القرن التاسع عشر فى ظل جهود مبذولة من بعض الدول لتحقيق مصالحها الخاصة والتلاعب فى الثوابت التى أرستها القوى الكبرى من قبل.
وتابع «كيسنجر» أن التقارب الدبلوماسى مع الولايات المتحدة لم يكن قادراً على حل مشكلات الأنظمة العسكرية القومية، بالضبط كما لم يحل التقارب مع الاتحاد السوفيتى أى مشكلات سياسية، وكذلك فإن التعاون مع الولايات المتحدة لم ينزع فتيل الأزمات الاجتماعية، فالأنظمة العسكرية حققت الاستقلال عن الحكم الاستعمارى وتوفرت لها القدرة على المناورة بين مراكز القوى الرئيسية فى الحرب الباردة، لكن التقدم الاقتصادى كانت بطيئاً للغاية، والحصول على فوائد اقتصادية كان متفاوتاً جداً لتكون النتيجة هى تفاقم المشكلات التى تعانى منها الشعوب فى كثير من الحالات حيث تركزت الثروات فى موارد الطاقة مثل النفط مع ثقافة اقتصادية غير مواتية للابتكار والتنويع، وقبل كل شىء، النهاية المفاجئة للحرب الباردة أضعفت الموقف التفاوضى لأنظمة بعض الدول وجعلتها أكثر عرضة للتخلى عنها سياسياً، فى ظل عدم وجود عدو خارجى أو أزمة دولية، لحشد الشعوب التى باتت تنظر بشكل متزايد نحو الدولة ليس كغاية فى حد ذاتها بل كوسيلة وجود والتزام لتحسين حياتها.
ونتيجة لذلك، وجدت هذه النخب نفسها مضطرة للتعامل مع تصاعد موجة من السخط، وباتت تواجه تحديات داخلية لشرعيتها، وبدأت الجماعات المتطرفة تحل محل النظم القائمة فى الشرق الأوسط مع بناء نظام شرق أوسطى على أساس دينى يعكس نوعين من الحكم الشمولى المميز للنظام العالمى: الأول هو النسخة السُّنية المتمثلة فى جماعة الإخوان المسلمين التى تأسست فى عام 1928، وحركة «حماس»، التى سيطرت على السلطة فى غزة عام 2007، والحركة الإرهابية العالمية وهى تنظيم القاعدة، أما الثانى فهو النسخة الشيعية من خلال ثورة «الخمينى» وكذلك تنظيم حزب الله اللبنانى الذى يشكل دولة داخل الدولة، ويدخل النوعان فى صراع عنيف مع بعضهما البعض، لكنهما يتفقان فى التزامهما بتفكيك النظام الإقليمى القائم وإعادة بنائه كنظام دينى.
ذكر «كيسنجر» تحت عنوان «الإسلام بين المد الثورى والتفسيرات الفلسفية» نشأة الجماعات الدينية فى العصر الحديث على يد حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، وذكر أنه فى ربيع عام 1947، انتقد «البنا» المؤسسات المصرية فى رسالة إلى الملك فاروق بعنوان «نحو النور»، عرض خلالها بديلاً إسلامياً للدولة القومية العلمانية، وفى لغة مهذبة، عرض «البنا» مبادئ وتطلعات الجمعية المصرية للإخوان المسلمين التى عُرفت بالعامية باسم «جماعة الإخوان» التى كان قد أسسها فى عام 1928 لمكافحة ما اعتبره الآثار المهينة للنفوذ الأجنبى العلمانى فى سبل الحياة، ونمت الجماعة منذ أيامها الأولى كتجمع غير رسمى من المسلمين المتدينين لصد الهيمنة البريطانية، حيث إن القوات الإنجليزية كانت لا تزال فى مدن القناة، وبدأ الإخوان فى بناء شبكة من النشاط الاجتماعى والسياسى، مع عشرات الآلاف من الأعضاء والخلايا فى كل مدينة مصرية، وشبكة للدعاية المؤثرة توزع تعليقات «البنا» على الأحداث الجارية، وقد فازت الجماعة بالاحترام بعد دعمها للثورة العربية ضد الإنجليز والصهاينة بين عامى 37 و39 أثناء الانتداب البريطانى على فلسطين، كما لفتت الجماعة أنظار السلطات المصرية.
وبعد ذلك مُنعت الجماعة من المشاركة المباشرة فى الحياة السياسية المصرية، ولكن مع ذلك أصبح «البنا» بين الشخصيات السياسية الأكثر نفوذاً فى مصر، وسعى للدفاع عن رؤية جماعة الإخوان مع بيان علنى موجه إلى ملك مصر، مع التباكى بسبب أن مصر والمنطقة قد سقطا فريسة للهيمنة الأجنبية والانحلال الأخلاقى الداخلى، وأعلن أن الوقت قد حان للتغيير، وأكد «البنا» أن الغرب الذى كان بارعاً بحكم الكمال العلمى لفترة طويلة قد أصبح مفلساً تتداعى أركانه مع مؤسساته ومبادئه، وفقدت القوى الغربية السيطرة على النظام العالمى، حيث إن الفشل أصبح مصير المؤتمرات الغربية، وأصبحت المعاهدات والمواثيق لا يلتزم بها، كما أن عصبة الأمم التى أنشئت بهدف الحفاظ على السلام العالمى قد أصبحت شيئاً من الخيال، وكانت حجة «البنا» أن النظام العالمى قد فقد شرعيته وقوته، وأعلن بكل صراحة أن الفرصة لخلق نظام عالمى جديد يقوم على الإسلام قد حانت، وقد تمت تجربة هذا النظام من قبل وشهد التاريخ بنجاحه عندما كان المجتمع يكرس نفسه بكماله وشموليته للجميع، من خلال استعادة المبادئ الأصلية للإسلام وبناء النظام الاجتماعى الذى يصفه القرآن، حيث تعيش الأمة الإسلامية ككيان واحد، وأن يدعم المسلمون الوحدة العربية التى ستصبح فى نهاية المطاف وحدة إسلامية.
وتابع «كيسنجر» أن «البنا» كان يجب أن يجيب عن سؤال: كيف يمكن تشكيل نظام عالمى إسلامى عصرى؟ حيث جادل «البنا» بأن المسلم الحقيقى يجب أن يكون متعدد الانتماءات، فعند إقامة نظام إسلامى موحد سيكون العالم كله هو وطنه، فيكون وطنه فى بلد معين ثم يمتد إلى كل أقطار العالم الإسلامى، فكل الدول الإسلامية هى وطن ومسكن للمسلم، ثم ينتقل لمرحلة الإمبراطورية الإسلامية على غرار الدولة التى أقامها السلف الصالح، التى سيسأل عنها المسلم أمام الله ماذا فعل كى يعيدها إلى مجدها؟ وتلى ذلك الدائرة العالمية حينما يتسع الوطن ليشمل العالم بأسره، كما قال الله تعالى «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله»، كما أن المعركة ستكون تدريجية وسلمية ضد غير المسلمين، طالما أنهم لا يعارضون الجماعة، ويمنحونها الاحترام الكافى، ونصح «البنا» الإخوان المنضمين حديثاً بالاعتدال والإنصاف ومعاملة الأجانب بلطف، وتعاطف، طالما أنهم يتصرفون باستقامة وإخلاص، ولهذا كان احتمال أن تتسبب الجماعات والمؤسسات الدينية فى قطيعة بين مصر والدول الغربية ضرباً من الخيال.
وأضاف «كيسنجر» أن الاعتدال كان تكتيكاً من «البنا» فى محاولة لإيجاد قبول فى عالم لا يزال تهيمن عليه القوى الغربية، ولكن على الجانب الآخر كان هناك خطاب جهادى من أجل كسب التأييد فى الأوساط الإسلامية التقليدية، لكن «البنا» اغتيل فى عام 1949، ولم يحصل على وقت كافٍ ليشرح بالتفصيل كيفية التوفيق بين الطموح الثورى ومشروعه العالمى مع مبادئ التسامح والصداقة الحضارية التى تبناها، وبقيت تلك الالتباسات فى كلمات «البنا»، ولكن سجل العديد من المفكرين الإسلاميين والحركات منذ ذلك الحين رفضاً أساسياً للتعددية والنظام العلمانى، وربما كان سيد قطب، مفكر الإخوان، هو نسخة أكثر استفادة وتأثرا بتلك الآراء، فعندما سُجن عام 1964، بتهمة المشاركة فى مؤامرة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر، كتب سيد قطب كتاب «معالم على الطريق»، الذى يعتبر إعلاناً للحرب ضد النظام العالمى القائم والذى أصبح الدستور الأساسى للجماعات الإسلامية.
ويضيف «كيسنجر» أنه فى رأى «قطب» فإن الإسلام كان نظاماً عالمياً يقدم النموذج الحقيقى للحرية، حرية من الحياة تحت حكم عقائد من صنع الإنسان، أو جماعات تحكم على أساس العرق، واللون، واللغة، والبلد، والإقليم والمصالح الوطنية، ومهمة الإسلام الحديثة، فى رأى «قطب»، هى استبدال كل ذلك بحكم القرآن، وستُتَوَّج تلك العملية بتحقيق حرية الإنسان على الأرض لكل البشر فى أنحاء الأرض، وهذا من شأنه استكمال العملية التى بدأت قبل الموجة الأولى من الفتوحات الإسلامية فى القرنين السابع والثامن الميلاديين، ليعم ذلك أنحاء الأرض، ويصل إلى البشرية جمعاء، حيث إن الهدف من هذا الدين هو الوصول لكل البشر، ومجال عمله هو الأرض كلها، ويتابع «كيسنجر»: بالطبع يتطلب تدابير متطرفة لتنفيذ ذلك، وبالتالى رفض «قطب» الحكومات والمجتمعات التى وصفها بأنها غير إسلامية وغير شرعية، وطرح زمام المبادرة فى تشكيل النظام الجديد فى كل المنطقة، كما أن «قطب»، مع ثقافته الواسعة وأسلوبه العاطفى، قد أعلن الحرب على الدولة بشكلها الحداثى والعلمانى، وفى حين أن معظم معاصريه رجعوا عن الأساليب العنيفة، دافع هو عن تلك الأساليب وبدأ البعض يقتنع بأفكاره وبدأت تتشكل أعداد تؤمن بها، ووسط عولمة معاصرة تجاوزت المواجهات الأيديولوجية والتاريخية تبدو آراء «قطب» وأتباعه متطرفة ولا تستحق الاهتمام الكبير، فالعديد من النخب الغربية تجد المشاعر الثورية لا يمكن تفسيرها وتفترض أن التصريحات المتطرفة يجب أن تكون مجازية أو تطرح كمجرد ورقة مساومة، ولكن بالنسبة لبعض الأصوليين الإسلاميين، فإن هذه الآراء تمثل حقائق تتجاوز أى قواعد ومعايير أو حتى الواقع، وتحولت تلك الأفكار إلى صرخات هتف بها المتطرفون فى الشرق الأوسط وخارجه مثل تنظيم القاعدة، وحركة «حماس»، و«حزب الله»، وحركة طالبان، ونظام «الملالى» فى إيران، وحزب التحرير الذى نشط لعشرات السنين فى الغرب يدعو لإعادة تأسيس الخلافة، وكذلك تنظيم «بوكو حرام» فى نيجيريا والميليشيات السورية المتطرفة مثل «جبهة النصرة»، وتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش»، الذى شن هجوماً عسكرياً كبيراً فى منتصف العام الحالى، فضلاً عن الجماعة الإسلامية التى اغتالت أنور السادات فى عام 1981، عندما وصفوه بأنه مرتد بسبب توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل، واتهموه بأنه أحدث بدعاً مثل اعترافه بالوجود القانونى للدولة اليهودية، وبالتالى فهو، من وجهة نظرهم، قد وافق على التنازل عن الأراضى التاريخية المملوكة للمسلمين إلى غير المسلمين، وفى إطار كهذا لن يكون هناك مكان لاحترام مبدأ عدم التدخل فى شئون الدول الأخرى، لأن المتطرفين يعتبرون الولاءات القومية ضلالاً عن الطريق القويم، ولأن الجهاديين يدفعهم حس مهمة تغيير العالم الكافر، وهذا يلخص حال المتطرفين الذين سيستفيدون من الربيع العربى.
وفيما يتعلق بسوريا، قال «كيسنجر» إنه فى البداية بدت الانتفاضة السورية وكأنها إعادة لانتفاضة ميدان التحرير فى مصر، لكنها لم تكن كذلك، فتشديد الولايات المتحدة على حل المشكلة سياسياً وضرورة تشكيل حكومة ائتلافية دون بشار الأسد مع وجود عراقيل فى مجلس الأمن ورفض الدول الدائمة العضوية دعم أى خطوات للعمل العسكرى أو إجراءات أخرى، كما ظهر أن قلة من القوى المعارضة فى داخل سوريا يمكن وصفها بالديمقراطية علاوة على كونها معتدلة، ما كان نذير شؤم فقد انحرف النزاع فى سوريا عن هدفه الأول وهو الإطاحة ب«الأسد»، وتعامل اللاعبون الرئيسيون، السوريون والإقليميون، مع النزاع باعتباره وسيلة لتحقيق النصر لا الديمقراطية، فقد كانت الديمقراطية تعنى لهم شيئاً طالما كانت ستقود لفوز الفريق الذى يدعمونه، وإزاء حالة كهذه لم يهتم اللاعبون كثيراً إلا بتحقيق مآربهم دون الاهتمام بتأثيره على المصالح الجيواستراتيجية.
وأشار «كيسنجر» إلى أن طبيعة النزاع فى سوريا لم تعد بين ديكتاتور وقُوى تدعو للديمقراطية بل تحولت لنزاع بين طوائف متنافسة تقف وراء كل واحدة منها قوة إقليمية وتسعى كل واحدة منها إلى الفوز بما تبقى من سوريا، كما تنافست القوى الإقليمية على إرسال الأسلحة والأموال والدعم اللوجيستى للجماعات التى تفضلها، فقد دعمت بعض الدول الجماعات السنية، فيما قدمت إيران الدعم ل«الأسد» من خلال «حزب الله»، وعندما لم يستطع أى طرف هزيمة الآخر بدأت الكفة تميل لصالح المتشددين، ونتج عن هذا إعادة رسم خريطة سوريا، فقام الأكراد السوريون بإنشاء منطقة حكم ذاتى خاصة بهم على طول الحدود التركية والتى قد تندمج مع مرور الوقت مع حكومة إقليم كردستان فى شمال العراق، بينما ترددت الأقليات الدرزية والمسيحية الخائفة من دعم تغيير النظام، وقام تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» بإقامة دولة أطلق عليها «دولة الخلافة» فى المناطق التى سيطر عليها فى كل من سوريا وغرب العراق، بعد أن عجزت حكومات بغداد ودمشق على فرض هيبة الدولة.
ووصف «كيسنجر» الشرق الأوسط بأنه مهد الديانات الثلاث الكبرى فى العالم، كما تعاقب عليه الأنبياء والفاتحون رافعين الرايات، وولدت فيه ودفنت إمبراطوريات، وساد فيه الحكام الأقوياء لفترات ثم اختفت قوتهم، وأعلن فيه الحكام السلطة المطلقة لأنفسهم تجسيداً لكل السلطة، ثم اختفت كما لو كانت سراباً، وهنا تجد كل شكل من أشكال النظام الداخلى والدولى، وأحياناً ما يتم قبوله بينما يتم رفضه فى وقت آخر، كما يرى أن العالم قد أصبح معتاداً على الدعوات من منطقة الشرق الأوسط التى تحث على الإطاحة بالأنظمة الإقليمية والعالمية لصالح مشروع عالمى، وثمة وفرة من الأنظمة الديكتاتورية فى المنطقة الحائرة بين حلم مجدها السابق وواقعها المعاصر الذى يجسده عجزها عن تبنى مبادئ مشتركة حول الشرعية المحلية أو الدولية لكن التحدى بشأن النظام العالمى هو أكثر تعقيداً سواء من حيث التنظيم أو ضمان توافق النظام الإقليمى مع السلام والاستقرار فى بقية العالم.
وأشار «كيسنجر» إلى أنه حتى الحرب العالمية الثانية، كانت القوى الأوروبية قوية بما فيه الكفاية للحفاظ على النظام الإقليمى الذى كانوا قد فرضوه على منطقة الشرق الأوسط فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبعد ذلك ضعفت قدرة القوى الأوروبية على السيطرة على المنطقة وبخاصة بعد زيادة الاضطرابات بين شعوب المنطقة، وبرزت الولايات المتحدة كقوة ذات نفوذ كبير مع فترات الخمسينات والستينات التى تم خلالها الإطاحة بالحكومات الإقطاعية والملكية فى مصر والعراق وسوريا واليمن وليبيا من قِبل تحركات الجيوش التى شرعت فى إقامة حكم مدنى.
وقام الحكام الجدد بإدخال شرائح جديدة من السكان فى العملية السياسية، وشرعوا فى توسيع قاعدة الدعم الشعبى من خلال تبنى مبادئ القومية والشعبوية، بغض النظر عن الديمقراطية، وأخذت الثقافات السياسية فى التجذر فى المنطقة، حيث ارتفعت شعبية جمال عبدالناصر الزعيم ذى الكاريزما الطاغية فى الفترة بين عامى 1954 و1970، وكذلك الزعيم أنور السادات وكل منهما كان ينتمى للطبقة الوسطى، وفى العراق، علا نجم صدام حسين، الذى صعد من أصول متواضعة، وأسس لنوع أكثر تطرفاً من الحكم العسكرى منذ السبعينات وحتى عام 2003، وكذلك حليفة الأيديولوجى حافظ الأسد ما رسخ حكم الأقليات الطائفية لأغلبية السكان، حيث كانت المفارقة أن تحكم الأقلية السنية الشيعةَ فى العراق وتحكم الأغلبية السنية فى سوريا الأقليةُ العلويةُ التى تنتمى بشكل ما للمذهب الشيعى.
لكن إرث الإسلام السياسى أكد وجوده، حيث انتقدت الجماعات الدينية إخفاقات الحكام العلمانيين بحجج دينية، منها الحاجة إلى حكم يستند إلى وحى إلهى، ودعت لتشكيل حكومات دينية تحل محل الحكومات القائمة، وهاجمت الغرب والاتحاد السوفيتى على حد سواء، ودعم بعضها بعض الأعمال الإرهابية الانتهازية، وكان رد فعل الحكام العسكريين هو قمع تلك الجماعات بقوة وقسوة، واتهموها بتقويض التحديث والوحدة الوطنية.
وتابع «كيسنجر» أنه فى ذلك العصر كانت الغلبة للجيش والملكية المطلقة، والحكومات الاستبدادية التى عاملت المعارضة بشدة، ولم تترك إلا مساحة صغيرة لتنمية المجتمع المدنى أو نشر ثقافات التعددية، مثلما حدث فى القرن الحادى والعشرين، ومع ذلك، فإنه فى سياق النظم القومية، كان النظام الدولى المعاصر يتشكل، حيث حاول بعض الحكام الأكثر طموحاً، مثل جمال عبدالناصر وصدام حسين، نشر أيديولوجيتهم، إما بالقوة أو عن طريق الدعوة للوحدة العربية، وكانت هناك بعض التجارب لكن لم يدم الاتحاد طويلاً بين مصر وسوريا من عام 1958 إلى عام 1961، لكن جهود الوحدة فشلت، لأن الدول العربية أصبحت أكثر انغلاقاً وغير مرحبة بمشروع أوسع للاندماج السياسى، وهذا كان الأساس المشترك فى نهاية المطاف لسياسة الحكام العسكريين القوميين.
وفى هذا السياق، سعت القوى الكبرى إلى التنافس أثناء الحرب الباردة لتعزيز نفوذها، فمن أواخر الخمسينات إلى السبعينات، كان الاتحاد السوفيتى يضغط على الولايات المتحدة، حيث أصبح المورد الرئيسى للأسلحة للدول العربية القومية التى دعمها دبلوماسياً، والتى بدورها دعمت الأهداف الدولية السوفيتية، حيث أعلن الحكام العسكريون تأييدهم ل«الاشتراكية العربية» وأبدوا إعجابهم بالنموذج الاقتصادى السوفيتى، ولكن فى معظم الحالات ظلت اقتصادات تلك الدول تتحكم بها الدولة وركزت على واحدة من الصناعات التى تديرها حكومة من التكنوقراط، وكان الدافع الرئيسى هو المصلحة الوطنية، كما عبرت عنها الأنظمة، وليس عقيدة سياسية أو دينية.
وتابع «كيسنجر»: «العلاقات خلال حقبة الحرب الباردة بين العالمين الإسلامى وغير الإسلامى استندت إلى ميزان القوى، حيث كانت مصر وسوريا والجزائر والعراق تنتهج السياسات السوفيتية، بينما احتفظت الأردن والسعودية وإيران والمغرب بعلاقات ودية مع الولايات المتحدة، وكانت تعتمد على الدعم الأمريكى لتحقيق أمنها، وكل تلك الدول باستثناء المملكة العربية السعودية، تحكمها حكومات غير دينية، وكانت ظاهرياً تحكم بمبدأ المصلحة الوطنية، لكن تلك البلاد كانت تقوم ببعض المواءمات مع القوة العظمى التى تتحالف معها.
وتناول «كيسنجر» التطرف الإسلامى فى الشرق الأوسط وعلاقته بالاضطرابات فى العالم، وكذلك مشروع النظام العالمى الإسلامى، كما تتطرق إلى جزء تاريخى يتناول الدولة العثمانية عندما باتت «رجل أوروبا المريض»، والإسلام والمد الثورى والتفسيرات الفلسفية ثم الربيع العربى، وكذلك القضية الفلسطينية والنظام العالمى وتراجع الدولة.
ويرى «كيسنجر» أن المفهوم الغربى الذى استندت إليه السياسة فى العصر الحديث لم يعد صالحاً، حيث إن تعريف النظام العالمى ولفترة طويلة وبشكل حصرى، استند إلى مفاهيم وثقافة المجتمعات الغربية وحدها. فى العقود التى تلت الحرب العالمية الثانية، حيث تزايدت الثقة فى الاقتصاد الأمريكى وأخذت الولايات المتحدة شعلة القيادة الدولية، وأضافت بعداً جديداً وهو «الأمة النموذج» التى تأسست على فكرة الحكم الحر والتمثيل الديمقراطى ومن ثم ساهمت أمريكا فى انتشار الديمقراطية وأفكار التحرر مع القدرة على تحقيق السلام العادل والدائم فى العالم، وساهم ذلك فى التأثير على النهج الأوروبى التقليدى حيث انتقلت الشعوب الأوروبية من مرحلة الصراع بعد الحرب العالمية الثانية إلى مرحلة التنافس فى ظل توازن القوى، ما أدى إلى الازدهار الاقتصادى وانتعاش فكرة الأسواق الحرة والنهوض بالأفراد والمجتمعات وإثراء الترابط الاقتصادى كبديل عن الصراعات السياسية الدولية التقليدية، وهذا الجهد لإقامة نظام عالمى كانت له نواحٍ إيجابية كثيرة، وأتى بثمار لا حصر لها، منها أن عدداً كبيراً من الدول المستقلة ذات السيادة حكمت معظم الأراضى فى العالم، وأصبح انتشار الديمقراطية والمشاركة فى الحكم هو الأمل فى تحقيق حكومة عالمية تشاركية، لا سيما مع عصر الاتصالات العالمية والمعلومات والشبكات المالية وبزوغ عصر العولمة، وربما شكلت السنوات من 1948 وحتى مطلع القرن الحادى والعشرين فترة قصيرة من التاريخ البشرى شهدت تحقيق المفهوم الحديث للنظام العالمى الذى تكوّن من مزيج من المثالية الأمريكية والمفاهيم التقليدية للدولة القومية بالمعنى الأوروبى وميزان القوى، لكن يبدو أن مناطق واسعة من العالم لم توافق أبداً على هذا النظام العالمى الحديث، وإنما أذعنت فقط للقوى الكبرى وامتثلت للقوتين العظميين من 1948 إلى 1989، وهذه التحفظات أعلنت عن نفسها وظهرت فى العلن مثلما هو الحال فى أزمة أوكرانيا وبحر الصين الجنوبى وغيرهما، ما يؤكد أن النظام العالمى الذى أعلنه الغرب يقف أمام نقطة تحول.
وتساءل «كيسنجر» هل العالم مقبل على مرحلة قد تتولى فيها قوى منفلتة رسم وجه المستقبل؟ وأضاف أن هذا السؤال ليس غريباً، فعندما كان فى وزارة الخارجية الأمريكية فى يناير 2009، كان هناك إجماع على أننا فى مرحلة تغيرات واضطرابات محيرة وغامضة، لكن الإجماع كان ينفرط عقده فى مرحلة تحديد القصد منه، وعاد ليتساءل: هل الأزمة الاقتصادية ستنتهى إلى أشكال تعاون جديدة أو تحيى الخلافات؟ وهل التكنولوجيا الجديدة سيستخدمها الحكام المستبدون فى ملاحقة المعارضين؟ وهل تسهم القوى الواعدة مثل الصين والهند والبرازيل، فى حل المشكلات الدولية أو تزيد من الاضطراب؟ وهل التحالفات المتزايدة بين دول العالم ستزيد من التضامن أم ستكون مصدر صراعات جديدة؟
ويرى «كيسنجر» أن هناك ضرورة للعودة إلى أفكار الأمير النمساوى كليمنس فينول مترينخ (1773 - 1859) ونهجه، وهو الذى وضع أسس العمل السياسى للدول الأوروبية العظمى وقواعده، إثر هزيمة نابليون بونابرت، ورسم بالاتفاق مع القادة الأوروبيين خريطة دول القارة الأوروبية، وتشمل اتفاقية فيينا عدم تغيير حدود تلك الخريطة، دون موافقة باقى الدول، وقصد «كيسنجر» بحديثه الأوضاع المتفجرة فى أوكرانيا، والخلاف الحدودى مع روسيا، بعد أن ضمّت شبه جزيرة القرم، وها هى الآن تعانى من صراع سياسى مع المنظومة الأوروبية، أدى مؤخراً إلى اتخاذ حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية، ما أسفر كذلك عن إمكانية إغلاق الأجواء الروسية أمام حركة الطيران الأوروبى حال المضى فى تنفيذ هذه العقوبات، ويرى «كيسنجر» أن الولايات المتحدة هى المعنية، حالياً، بتقمّص دور الأمير «مترينخ»، ولعب هذا الدور ومحاولة إرضاء الأطراف كلها، بعيداً عن المثالية الأمريكية، التى نتج عنها فوضى عارمة ودوامة عنف مستمرة، فى منطقة الشرق الأوسط، وفشل الحملات العسكرية فى أفغانستان والعراق، دون تحقيق الحدّ الأدنى من الأهداف الأمريكية، وعدم وضوح الرؤية السياسية بديلاً عن الديمقراطية الموعودة.
كما يرى أن هناك ضرورة لإعادة النظر فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، ووضع استراتيجية عادلة وواضحة وبعيدة المدى، لأن المنطقة مهيّأة لظهور تنظيمات متطرفة أخرى، حتى وإن تم القضاء على «داعش»، سيبقى السؤال قائماً بشأن طبيعة النظام الدولى الجديد المقترح، ووفق وجهة نظر «كيسنجر»، الهادفة إلى استنساخ خطة الأمير النمساوى «مترينخ»، لكن قبل ذلك، على الولايات المتحدة أن تستعيد مكانتها الدولية، وتكتسب ثقة أوروبا التى باتت تستشعر الخطر تجاه روسيا الراغبة فى توسيع نفوذها فى أوروبا وآسيا، كما يجب ظهور زعيم أمريكى يمتلك ثقلاً سياسياً واجتماعياً، لتمرير قراراته ورؤيته السياسية لمكافحة الإرهاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.