وعلينا أن نصغى باهتمام وأن نفهم ماذا قد يعنيه كلامه بالنسبة إلينا. هذا الرجل الداهية الذى يبلغ من العمر «91 عاما»، ولا يزال منتجًا بكل قوته، والذى خدم فى إدارتين أمريكيتين (نيكسون وفورد)، وشارك فى متابعة السياسة الخارجية الأمريكية والتنظير لها من أوجه مختلفة لما يقرب من 60 عاما، يستحق منا أن نهتم بما يقول، خصوصًا إذا كان جزء مما يقوله حاليا، يشير إلينا بالبنان. فى كتابه الجديد «نظام عالمى جديد» (بينجوين، سبتمبر 2014)، يقرر هنرى كيسنجر أن المفهوم الذى يقوم عليه النظام العالمى الحالى يواجه أزمة عميقة. وهو لا يتوقف عند هذا الحد، وإنما يناقش طبيعة هذه الأزمة وأبعادها ويقترح أساسًا لنظام عالمى جديد، لا يزال هو يعتقد أن الولاياتالمتحدة هى المسؤولة عن تحقيقه. لقد ظهر الكتاب منذ أيام فى الأسواق، وكتب عنه عشرات المفكرين وصناع السياسة فى العالم (منهم هيلارى كلينتون)، ولكننى فى هذه السطور سأعتمد أساسا على ما كتبه هنرى كيسنجر نفسه فى «وول ستريت جورنال، 29 أغسطس 2014»، الذى أظن أنه كان كمقال ترويجى لكتابه، بالمعنى الأكاديمى لا التجارى للكلمة. وحتى يضع كيسنجر أفكاره فى علاقة مباشرة مع الحاضر الذى نعيشه، فإنه يبدأ من ليبيا، من مسافة تبعد أمتارا عن الحدود السياسية الغربية لمصر، ومضى يتجول حولنا فى العراق وفى سورية، لكنه لسوء الحظ لم يلحق بما يحدث فى اليمن، واستمر فى تحليقه على تطورات الأحداث فى أفغانستان وبحر الصين الجنوبى وأوكرانيا. إنه بحق رجل السياسة الخارجية ومفكرها الذى يرتبط بالاعتبارات «العملية» أكثر من الاعتبارات «المثالية»، ولذلك فقد كان عليه أن يتابع الحاضر وما يحدث فيه، وأن يقرأ التاريخ لكى يعى الدروس المستخلصة منه. لقد أعاد قراءة تاريخ أوروبا منذ القرن الرابع، وصولا إلى معاهدة ويستفاليا «1648» وحتى الآن، وعرض ذلك فى نحو 84 صفحة، كانت كلها زاخرة بالدروس والعبر. وتوصل كيسنجر إلى أن «مفهوم النظام» حمل دائما القيم الغربية الأوروبية ثم الأمريكية معها من بعد، وتم فرضه على العالم كله. وأسند مفهوم النظام العالمى إلى المبادئ التى تم الاتفاق عليها فى ويستفاليا، وهى عدم التدخل واحترام طبيعة الدولة القومية، وإلى مبدأ توازن القوة الذى فرضته اعتبارات ضرورة لجم وإدارة المنافسة بين الدول. وأضاف كيسنجر أن انضمام الولاياتالمتحدة بقوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية إلى النظام الدولى بعد الحرب العالمية الثانية، أضاف إلى النظام الدولى بعدا جديدا هو «نشر الحرية والديمقراطية». لكن هذا النظام العالمى يواجه الآن تحديات سياسية واقتصادية ومعرفية، تضعه على أبواب مرحلة تحول. إن النظام الحالى فى أزمة، وهو لن ينجو من هذه الأزمة إلا بعد أن يأخذ بأسباب التحول والانتقال إلى الاستناد إلى أسس ومفاهيم تختلف عمّا هى عليه حاليا. وهو يناقش بالتفصيل فى كتابه التناقض فى ما بين النزعتين «المثالية» و«العملية» فى السياسة الخارجية، والتحديات التى يواجهها نظام «توازن القوى» الراهن فى العالم، ثم طبيعة مبدأ «عدم التدخل» فى الشؤون الداخلية. لكنه بين حين وآخر يعود إلى أوروبا «العجوز» وإلى أمريكا «الديمقراطية» وإلى الشرق الأوسط «الممزق»، ليلتقط أنفاسه ويحاول استخلاص العبر والمقومات لعالم جديد. كيسنجر يحذرنا من أن بعض ما يجرى الآن فى العالم قد يقود إلى صدامات، وضرب أمثلة لما يحدث فى صدامات أو نزاعات مسلحة فى بحر الصين الجنوبى، وفى أوكرانيا. ونبه بقوة إلى خطورة ما يحدث فى العالم العربى أو فى العالم الإسلامى من محاولة جماعات مسلحة ذات طابع طائفى أو عرقى تقويض أسس الدولة القومية وخلق نظام جديد. وقال إن بعض مكونات النظام الجديد التى ربما تحقق قدرا أكبر من الانسجام والتوافق داخل إقليم بعينه، قد تضع الإقليم كله فى حالة عداء أو حرب مع إقليم أو أكثر من أقاليم العالم. كما حذر كيسنجر من أن وجود وتوسع نفوذ الجماعات الطائفية والعرقية المسلحة ومؤيديها فى العالم، سوف يؤدى عمليا إلى تكريس إنتاج «الدولة الفاشلة» فى الشرق الأوسط، العاجزة عن السيطرة على حدودها وعلى ما فى داخل هذه الحدود. كذلك رسم كيسنجر صورة شديدة التركيز والوضوح للتناقض القائم بين ما أسميه «الطابع العالمى للإنتاج» وبين «الطابع القومى لعملية اتخاذ القرارات»، وهو ما أدى إلى انخفاض مستوى الشعور بوحدة الغايات والأهداف من النظام الدولى. وبكلمات كيسنجر نفسه فإن «النظام الاقتصادى أصبح معولما، فى حين أن الهيكل السياسى للنظام العالمى لا يزال قائما على أساس الدولة القومية». وقال كيسنجر إن الأزمات الاقتصادية التى شهدها العالم فى العقدين الأخيرين من القرن الماضى وفى العقد الأول من القرن الحالى، ما هى، فى بعض وجوهها إلا النتاج الطبيعى لهذا التناقض. ومن الواضح هنا أن العلاقة بين الدولة القومية والشركات العالمية العملاقة سوف تحتل مكانة مهمة فى المناقشات من أجل إقامة نظام عالمى جديد.