في الربع الأخير من القرن العشرين، اختفت كلمة " الدولة " من قاموس الأكاديميين المحترفين في الغرب. وراح المتخصصون في العلوم السياسية يكتبون عن الحكومات وجماعات المصالح والديمقراطية.. تقريبا عن كل شيء ، فيما عدا الدولة القومية واليوم، يذهب كثيرون إلي انه لم يعد ثمة وجود لأقتصاد قومي محض. ولا لثقافة قومية خالصة._ أو قانون قومي، أو إعلام قومي.. وحدها السلطة السياسية مازالت تحتفظ بطابعها القومي، وسوف تخلي مكانها قريبا. الواقع ان مفهوم الدولة قد نشأ في الأصل كخيال قانوني، روجته أجيال متعاقبة من فقهاء القانون وعلماء السياسة والاجتماع، كرمز سياسي قوي لأغراض عملية من الناحية السياسية ، وينسب الي الدولة الحديثة، التي يرجع معظم الباحثين تاريخها الي معاهدة ويست فام (1648)، الفضل في التغلب علي التحديات الخارجية القائمة آنذاك والمتمثلة في الكنيسة الكاثوليكية والامبراطورية الرومانية، إلي جانب التحديات الداخلية المتمثلة في الاقطاع وأهدافه الانفصالية. وهي تقوم في شكلها الحديث علي إقليم له حدود ثابتة نسبيا. بالسكان الذين يقطنونها. وهي في النهاية ذات سيادة ، لا تخضع من حيث المبدأ لأي سلطة أعلي، وتعترف بها الدول الأخري بهذه اومنذ القرن السابع عشر جري مداد كثير حول تعريف معني " السيادة، والكلمة sovereignty شتقاقا جاءت من (super+regnum) أي الحكم الاعلي أو الذي لا يعلي عليه. وبالتدريج أضيف إلي هذا المعني معني المطلق والأوحد في تعريف السيادة. وهكذا ارتبطت الدولة الحديثة بمفهوم السيادة_.علي أن تفهم السيادة هنا بالمعني الزمني لا الروحي. فالتحول التاريخي الذي صاحب ظهور الدولة في شكلها الحديث تمثل أساسا في تغير مفهوم (مصدر السيادة) من الله إلي الانسان في صورته الفردية أو الجماعية أو في صورته الأكثر تجريدا وهي الانسانية. وهذه السيادة تتأكد في الميدانيين الداخلي والخارجي معا وفي وقت واحد_.من هنا، فان تاريخ نظام الدول الحديث (أي تاريخ السيادة) ما هو إلا تاريخ المحاولات التي بذلت لإيجاد نوع من التوازن أو المساواة السيادية بين الدول. ويبدو ان المشكلة تتمثل أساسا في (المطابقة) بين سيادة الدولة وبين قدرتها علي أن تفعل علي ان تفعل بأن الدولة ذات سيادة لا يعني انها تستطيع أن تفعل ما يحلو لها، أو أنها متحررة من تأثير الآخرين، تستطيع الحصول علي ما تريد تكون الدولة ذات السيادة مضغوطة من كل الجوانب، ومضطرة لان تتصرف بطرق كانت تود أن تتلافاها، ولا تستطيع بالكاد أن تفعل أي شيء بالضبط كما تريد. ان سيادة الدولة لا تنطوي مطلقا علي أنعزالها عن آثار أفعال الدول الأخري. فليس هناك تناقض بين ان تكون الدولة ذات سيادة وأن تعتمد علي الآخرين في الوقت نفسه. فنادرا ما تعيش الدولة ذات السيادة حياة حرة سهلة.. ان القول بان دولة ما ذات سيادة يعني فقط انها تقرر لنفسها كيف تعالج مشكلاتها الداخلية والخارجية. اليوم يعتبر كثير من الباحثين والمنظرين السياسيين أن مبدأ السيادة ليس معاكسا لتطور النظام الدولي فحسب، بل انه مضلل أيضا، لان جميع الدول مخترقة بصوره أو بأخري، ويجادلون بان التطورات الاندماجية (التكاملية) مثل الاتحاد الاوروبي، والعملية برمتها بالترابط والتداخل المعقد في ظل الكوكبية، جعلت ممارسة السيادة (ان لم تكن الفكرة) تنطوي علي مفارقة تاريخية أكثر تعقيدا. اضف إلي ذلك ان المشكلات والأزمات والتحديات الجديدة في العالم تتطلب نظاما لا مركزيا عالميا يرتكز علي دوائر أو مستويات أوسع من حدود وقدرات الدولة القومية ذات السيادة، بالنسبه الي بعض الامور، وأضيق من هذه الحدود والقدرات في أمور أخري، او قل ان الدولت اليوم أصغر كثيرا من أن تقدر علي الأشياء الكبيرة، وأكبر كثيرا من أن تقدر علي الأشياء الصغيرةولعل هذا ما دفع هيدلي بول إلي تأكيد ان الحل يكمن في العودة الي ما قبل ويست فاليا 1648 ، ولكن من منظور جديد. وفي محاولته لاستكشاف أشكال جديدة من النظام العالمي، الذي أصبحت فيه المدينة وليست الدولة هي ميدان المعارك: كالفلوجة، الرمادي، بيسلان، دارفور، مدريد، نيويورك، قدم بول طرحا مبتكرا يتجاوز مفهوم السيادة ويتضمنه في الوقت نفسه ، وهو المفهوم الذي يتخذ ذريعة في السياسة الدولية اليوم ، وأصبح يشكل نوعا من " التبرير " إما للحرب الاستباقية أو للتدخل لأسباب انسانية.