كتب : عصام عبد الله في عصر العولمة وما بعد الحداثة، لم يعد ثمة وجود لاقتصاد قومي محض، ولا ثقافة قومية خالصة أو قانون قومي أو إعلام قومي، فأية شركة من الشركات العابرة للقوميات تتحكم اليوم برقم أعمال يزيد علي الناتج القومي لدولة صغيرة مثل "الدنمارك" وقد لا يقل عن الناتج القومي لدولة متوسطة الحجم مثل "إسبانيا". وهناك من يري أن ما بعد الحداثة السياسية، هي فوقية "الشرعية الدولية"، وأن الكثير مما يخلق أزمات دولية تحت شعار أو ذريعة "السيادة" سيزول تلقائيا حين تعتمد الديمقراطية معيارا عالميا، بحيث لا تنضم للمنظومة الدولية الجديدة إلا "دولا ديمقراطية" بدلا من "دول ذات سيادة" المستعملة الآن. أضف إلي ذلك، أن هناك تغيرا عضويا في بنية رأس المال العالمي، خلخل الكثير من المسلمات في الفكر الاقتصادي (الاشتراكي علي الأقل) وهي أن رأس المال يولد الحروب. العكس هو الصحيح، ربما كانت بنية رأس المال العضوية الراهنة، أو بالأحري عملية الانتاج العالمية، ورأس المال أحد مكوناتها، من التداخل والتشابك والتعقيد إلي درجة قد تمنع قيام الحروب، التي عرفناها، مستقبلا وهي لاشك تعرقلها علي نطاق واسع اليوم، وهو ما يتبدي بشكل واضح في العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة. وحدها "الثقافة" ستظل هي العامل الحاسم في مستقبل العلاقات الدولية في الألفية الثالثة، والثقافة حسب تعريف "جودنف" ليست ظاهرة مادية، إذ هي ليست جملة أشياء أو بشر أو سلوك أو عواطف، وإنما هي كل ذلك. إنها صور الأشياء التي في عقول البشر، وهي أنماطهم في إدراك الأشياء وعلاقاتها، وتأويلاتهم لهذه الأشياء (1) أن تزايد الصراعات العنصرية والقومية والدينية أدي إلي وضع قضية "التسامح" وحدودها في خطة عمل المجتمع الفكري العالمي ، وهكذا فإننا الآن ذ ونحن في منعطف القرن الحادي والعشرين - نشعر كبشر ، أننا في حاجة أن نعيد قيمة التسامح من جديد، وأن نقرر حدود التسامح أيضا (2) هكذا يصبح (الحوار أو الصراع) بين الثقافات أو داخل الثقافات المشكلة الوجودية للسياسة الواقعية المستقبلية. ولا مفر من إعادة التفكير في العلاقات السائدة داخل عالم متعدد الثقافات من أجل تأمين السلام الدائم بتعبير الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط". وخلال تاريخ تطوره الطويل لم يصبح الكائن البشري جزءاً لا يتجزأ من الدولة فحسب بل هو ينتمي قبل كل شئ إلي "ثقافة" وديانة محددتين ، وهنا يكمن المفتاح لأي حل دائم لتواصل الثقافات المتعددة. علينا إذن تغيير الاتجاه ، فالصفة الكونية للثقافة لا تعبر عن نفسها من خلال البحث عن المطلق بل عبر الانفتاح علي العالم.. فإن ثقافتي متواجهة علي الدوام مع ثقافة الآخرين، والآخر هو أنا أيضاً، إذ لا توجد هوية عمياء في غياب الآخر.