لم أعتد الخلاف مع الأستاذ صلاح منتصر كثيرا, فأفكارنا متقاربة إلي حد كبير, وكان هو دائما الأقدر علي صياغتها بالكياسة والأناقة الواجبة. هذه المرة لم أكن مقتنعا بوجهة نظره التي نشرها منذ فترة قصيرة حول قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفا بمعاقبة نيجيريا إذا لم تتراجع عن موقفها بعقاب فريقها القومي بعد أدائه المؤسف في مونديال كرة القدم بجنوب أفريقيا التي انتهت بالأمس. وكان الرئيس النيجيري جود لاك جونثان قد قرر معاقبة فريق بلاده القومي لكرة القدم بحرمانه من المسابقات الدولية لمدة عامين بهدف تجديد دماء الفريق بعد أدائه الضعيف في نهائيات كأس العالم وخروجه من الأدوار التمهيدية واحتلاله ذيل المجموعة التي ضمت كوريا الجنوبية واليونان والأرجنتين. وقد منح الفيفا نيجيريا مهلة48 ساعة للتراجع عن إيقاف منتخبها, وعلي أثرها قدم الاتحاد النيجيري اعتذارا للرئيس ووعده بإصلاح أوضاع اللعبة وإعادة بنائها علي أسس جديدة مع تسريح المنتخب الحالي وإعادة تشكيله بعناصر جديدة. ويبدو أن ذلك سوف يكون بداية الخروج من الأزمة, وعلي أي حال قبل الرئيس الاعتذار مع تأكيده في بيان رئاسي أن ثمة ارتباطا لكرة القدم بكرامة النيجيريين الوطنية التي لا يقبل أحد المساس أو التلاعب بها. وأيا كان الموقف الذي سوف تنتهي إليه العلاقة بين الفيفا ونيجيريا, فقد كان موقف الأستاذ صلاح منتصر أن الاتحاد الدولي لكرة القدم بهذا الموقف الذي يتضمن إنذارا وتهديدا يعد تدخلا في الشئون الداخلية لدولة ذات سيادة لا يمكن القبول به. وكانت مصادر صحفية وفكرية عدة قد دعمت هذا الاتجاه حينما رأت أن هناك إمبراطورية للفيفا قد ولدت ونعطي لها التحكم في كثير من أمور دول لها قوانينها وأوضاعها الداخلية الخاصة التي ناضلت من أجل الاستقلال والتحكم في القرارات الخاصة بها. وقبل وبعد كل شيء فإن الفيفا لا تمتلك شرعية تتيح لها التدخل في شئون الدول الأعضاء حتي باتت تتحكم في شروط وجود الأندية الرياضية, وانتقالات اللاعبين وعقود شرائهم, وبشكل من الأشكال فإن قيام دولة بتنظيم بطولة عالمية تشرف عليها دولة الفيفا ينهي سيطرة الدولة علي إقليمها ويعطيها تماما لتنظيم عالمي يجعل البطولة كلها تجري وفق تقاليد محكمة; وما علي الدولة بعد ذلك إلا أن تقدم الحماية والحراسة والحرص علي أن تسير كل الأمور وفق ما تراه الفيفا. ولمن لا يصدق فما عليه إلا مراجعة حال اللاعب عصام الحضري وخلافه مع النادي الأهلي الذي عرض في أكثر من محكمة ليس وفقا للقانون المصري ولكن وفقا لقانون الفيفا, وموقف الفيفا من الأندية المصرية التي تمتلكها وزارات وهيئات حكومية, وأدي ذلك كله إلي أن التهديد باللجوء إلي الفيفا بات هو أولي خطوات التفاوض حول شراء وبيع اللاعبين, حتي نتائج المباريات والتصديق عليها. ولكن العالم قد تغير, وعما إذا كان هذا التغير إيجابيا أو سلبيا فتلك قضية قابلة للخلاف, أما ما لا نستطيع الاختلاف بشأنه فهو أن العلاقات فوق القومية قد باتت شائعة بأكثر مما نتصور. وفي مطلع الخمسينيات قام الأوروبيون بإنشاء المجمع الأوروبي للحديد والصلب بحيث يتحكم في صناعات الحديد والفحم في الدول الست الأعضاء آنذاك, وكلاهما لازم لصناعة الأسلحة بحيث يصبح مستحيلا بعد ذلك الحرب في أوروبا مرة أخري. وكان هذا المجمع هو الذي لم يمنع الحرب فقط, ولكنه في النهاية خلق ما هو معروف بالاتحاد الأوروبي الذي يضم اليوم27 دولة أوروبية تنازلت طوعا عن كثير من سيادتها لكي تنعم بقدر كبير من السلام والرخاء في نفس الوقت إلي مجموعة هيئات فوق قومية لا تستطيع الدول الأعضاء أن تتجاوز تعليماتها وقواعدها وقوانينها. وربما كان ذلك هو المثال النقي للقضية, وهي أنه مادامت قبلت الدولة ذات السيادة, سيادة تنظيم دولي قائم فإنها بعد ذلك تلتزم بما لديه من قواعد وأحكام يجري بعد ذلك تبنيها من قبل مؤسسات الدول ذاتها فتصبح جزءا من قانونها المحلي. والفيفا في هذا المجال ليست الوحيدة التي تفرض قواعدها علي الدول الأعضاء, فهناك عشرات من الأمثلة ومنها مجموعة المعايير التي وضعتها المنظمة الدولية للنقل الجوي الآياتا علي الشركات المنضوية تحتها وهي المتعلقة بالبناء المؤسسي لهذه الشركة أو تلك, وتمس في مجملها السلامة والأمن والجودة والبيئة, فضلا عن التدريب والسيطرة والهندسة والصيانة, والعمليات الأخري التي تتضمن الخدمات الأرضية ودقائق العمليات في إدارة عمليات مراقبة الطيران والتحضيرات المتعلقة بها والتدريب عليها وأقسام التحكم في التشغيل والتجهيز للإقلاع واستخدام الوقود الصديق للبيئة, وأداء العاملين في الشركة وشمولها مختلف التخصصات. وبناء علي ذلك, تمنح الآياتا شهادة الايوسا لشركات الطيران التي تلبي قائمة طويلة من المواصفات والمعايير, التي يمكن من خلالها منع المخالفات, وهي التي تعرف وتضع أنظمة التحقيق في الحوادث الجوية. وبشكل من الأشكال فإن الدول جميعا فقدت سيادتها علي العمليات الجوية سواء التي تجري علي أراضيها أو أراضي دول أخري. والحقيقة أن ما جري علي الطيران وكرة القدم قد جري علي مجالات كبري في عالم اليوم, وباتت البنوك علي سبيل المثال تحول أموالها أو تسحبها وتودعها وفقا لقواعد دولية وليست محلية; وبالطبع فإن المنظمة الدولية للطاقة النووية لا تسمح للدول الأعضاء بالتصرف وفق إرادتها فيما لديها أو ما تستورده من مواد مشعة أو حتي أجهزة تساهم في إحداث تغييرات في المواد المختلفة. وفي عالم الاتصالات يوجد لكل دولة كود يسمح وحده بالدخول عليها, وينطبق ذلك علي شبكات الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال. ويذكر في هذا المقام دائما النفوذ الذي تمارسه منظمة الصحة العالمية علي الدول الأعضاء في حالة انتشار وباء علي المستوي الدولي حيث لا يترك الأمر لكل دولة كي تعالجه وفق قواعدها وحكمتها الخاصة. فإذا ما عدنا إلي سلوك الفيفا تجاه نيجيريا, الذي كما رأينا هو جزء من سلوك عالمي متزايد فإنه من ناحية يطبق شروط العضوية التي ارتضتها نيجيريا عند انضمامها للاتحاد الدولي الذي بات حاصلا علي هذه السلطات. ومن ناحية أخري فإن الغرض الأول من وجود الفيفا في الأصل هو إجراء المسابقات العالمية والإقليمية من خلال عملية تنافسية تأخذ شكل مباريات في كرة القدم لا يكون لها معني ما لم يكن فيها فائز وخاسر; فإذا ما قرر كل الخاسرين الانسحاب من المسابقات العالمية كما فعلت نيجيريا فإن هذه المسابقات سوف تفقد معناها. والثابت أن الحالة النيجيرية لم تكن هي الحالة الوحيدة, فقد تكرر موقف مشابه لها بشكل مختلف في فرنسا حينما ناقش البرلمان الفرنسي أداء منتخب بلاده في المونديال, وخروجها في الأدوار التمهيدية, وطالب بعض أعضائه بإجراء تحقيق حول الموضوع. والمسألة ربما تكون أكبر من كل ذلك, حيث يبدو أن الفاعل الحقيقي في عصر العولمة الراهن لم يعد الدولة القومية فقط, حيث إن القوي الرئيسية في العالم تتجاوز حدود الدولة كوحدة سياسية, وإنما صار الدور الأكبر للمنظمات الاقتصادية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الدولية غير الحكومية وكذلك بعض الهيئات الدولية المستقلة مثل الفيفا, وتمارس هذه المؤسسات والهيئات أدوارا فوق قومية, وتختلط فيها الأبعاد المختلفة, سواء اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو رياضية, لأنها معولمة بمعني أنها ترتبط بالعالم أكثر مما هو مرتبط بدولة بعينها. مثل هذا التطور ليس خيرا كله, ولا شرا صافيا, وهو في النهاية معطي من معطيات الواقع. وبالطبع فإنه لا يزال لدي الدولة القومية أوراق تلعبها ومنها أنه لا يمكن إجبارها علي قرار بعينه, ولكن الثمن سوف يكون كبيرا في هذه الحالة حيث هناك لوائح العقوبات الخاصة بالتدخلات الحكومية في شئون كرة القدم. ومن ثم, فإن التدخل الحكومي السياسي النيجيري في شئون كرة القدم قد يدفع الفيفا لاتخاذ عقوبات ضد هذا الفريق, ابتداء من تعليق العضوية نهائيا أو لمدة محددة وصولا حتي شطب العضوية, وعبر عن هذا المعني السكرتير العام للفيفا جيروم فالك قائلا لا يمكن التهاون مع أي تدخل سياسي يتسبب في تعليق أي نشاط رياضي مهما كانت الأسباب. ولمن لا يعلم فإن اللوائح والأنظمة التي تحكم الفيفا تعد بمثابة دستور أو قوانين أساسية تحكم عالم كرة القدم, والتي يتم علي أساسها صياغة عدد ليس له حصر من القوانين المتعلقة بالبطولات وانتقالات اللاعبين وتعاطي المنشطات وغيرها من القضايا بالغة الأهمية. ومما يذكر أنه لا يمكن إدخال أي تعديل علي لوائح الفيفا إلا من خلال اجتماع الجمعية العمومية السنوي للاتحاد, الأمر الذي يتطلب موافقة بالأغلبية متمثلة في ثلثي الاتحادات المشاركة في أعمال المؤتمر التي يحق لها التصويت. وتنص لوائح الفيفا علي مطالبة الاتحادات الوطنية بإدارة شئونها بشكل مستقل تحت طائلة التعرض لعقوبة الإيقاف من المشاركة في أنشطة الاتحاد, بحيث هدد هذا القرار نيجيريا بعقوبات الحرمان من الدخول في البطولات العالمية والمشاركة في المباريات الدولية, سواء بالنسبة للأندية أو الحكام, إضافة إلي الحظر علي المسئولين عن اللعبة في البلاد حضور الاجتماعات. ومن الجدير بالذكر أن الميزانية السنوية للفيفا تتجاوز المليار دولار, وتسن الفيفا قوانين الساحرة المستديرة فتنصاع لها أكثر من200 دولة قوية وضعيفة, متقدمة ونامية, لدرجة أن الأمين العام السابق للأمم المتحدة الغاني كوفي عنان كان يعتبرها أقوي من الأممالمتحدة. ويا أيها السادة لم يعد العالم كما كان. المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد