الحقيقة أنها كانت صدمة حقيقية محزنة فعلا، رأيته للمرة الأولى جالسا على المنصة فى فيلم «محامى خلع»، يؤدى دور القاضى رئيس المحكمة، أعجبنى حقا، الشكل والحجم والهيئة وطريقة الحركة وأسلوبه وتعبيرات وجهه وكأنه قاضٍ فعلا، الكلام لطيف للغاية ويبعث على الابتسام فى غير إسفاف، بانت فى هذا الدور الصغير أمارات موهبة كبيرة قادمة بسرعة، وفى وقت قصير انطلقت موهبة الرجل كشهاب فى السماء، أدى دور حاتم بعبقرية وهو يجسِّد دور أمين الشرطة الذى ذهبت السلطة بعقله فى تطبيق رائع للمبدأ الذى يقول إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. وتوالت أدواره لنعرف جميعا أن مصر كسبت نجما جديدا شديد التميز فائق الموهبة خارج المقاييس، فهو ليس بالشاب الصغير المطلوب منه أن يحبّ ويمر بالمشكلات، ثم يتزوج البطلة فى نهاية الفيلم، وهو ليس ذلك الشيخ المطلوب لاستكمال أدوار كبار السن فى القصص السينمائية التقليدية، لكنه كان نجما فى ذاته، رجلا فى قمة عطائه وتألقه لطالما أبدع وبهرنا بطريقة كلامه المتميزة وتعبيرات وجهه الطاغية، وتعليقاته التى لا تخلو من التأثير الكوميدى الطاغى فى غير إسفاف، كان خالد صالح توليفة متميزة جدا. وكما كسبت مصر ذلك النجم الجميل بسرعة، فها هى قد خسرته بسرعة، وهو لا يزال على أعتاب الخمسين من العمر فى قمة تألقه وعطائه، فكانت المفاجأة قاسية يقولون إن عمليات القلب، الشرايين والصمامات، قد تطورت وأصبحت لا تزيد فى خطورتها عن عملية الزائدة الدودية، لست خبيرا طبيا لكننى ومن تجارب شخصية أعرف أن مرض القلب أو الشرايين المحيطة به له سمات خادعة للغاية، لأن المريض يظل حتى اللحظة الأخيرة يبدو بغير خطر حقيقى يهدد حياته أو أعراض ظاهرة بقوة، يظل واعيا متألقا يمازح هذا ويداعب ذاك، ويبدو طبيعيا حتى اللحظة الأخيرة على نحو يبدو خادعا لمن حوله، ويذهب إلى غرفة العمليات على قدميه فى كامل وعيه، ثم يقرّر القلب أن يتوقف وينتهى كل شىء فى لحظة واحدة، المخرج العبقرى عاطف الطيب فقدناه بالطريقة ذاتها، والفنان نجاح الموجى، والفنان الكبير حسين رياض، وكلهم رحلوا فى قمة العطاء وفى عمر صغير نسبيا دون أن نراهم مرضى حقا، وهكذا تكون الصدمة كبيرة والغياب باترا مفاجئا وموجعا، تعاطفى كبير مع أسرته ومع صديقه فناننا الجميل شديد التوهج خالد الصاوى وباقى زملائه، وهى ذات الطريقة التى فقدنا بها أيضا قبل أيام نجمنا الضاحك يوسف عيد، وهو حالة خاصة ثانية تقول لنا إنه لا يشترط لكى تكون نجما أن تحصل على أدوار البطولة، فقد كان الفنان يوسف عيد نجما حقيقيا وبطلا فى ما يفعل. لم يكن يوسف عيد فى حاجة إلى أدوار البطولة الطويلة الممتدة لكى تظهر موهبته الفريدة، لم يكن فى حاجة إلى ما هو أكثر من دقائق معدودات فى كل فيلم، لكى يتحول إلى نجم حقيقى تهتز مصر لغيابه المفاجئ بنوبة قلبية أيضا، هو بوب مارلى المصرى ذو الصوت المتميّز واللثغة المحببة والتعبيرات والموواويل المضحكة، أحيانا يلجأ ممثلو الكوميديا إلى لازمة معينة، كلمة أو جملة يكرّرونها فى الأفلام المتنوعة، لكى تمنحهم تميّزا يساعدهم على الظهور للجمهور، لكن يوسف عيد لم يكن بحاجة إلى ذلك، فكل جملة كان يقولها كانت تتحوَّل فى ذاتها إلى لازمة بغير جهد منه حتى دون أن يقصد، كان كالفاكهة المحبّبة فى كل الأفلام التى ظهر بها، ولم يجانبه التوفيق ولا مرة واحدة فى كل أدواره، فكانت جميعها وبغير استثناء ناجحة ومؤثِّرة، وما زلت أذكر دوره فى الفيلم الغنائى الاستعراضى الجميل «سمع هس» لممدوح عبد العليم وليلى علوى، بمشاركة مغنى الأوبرا الرائع حسن كامى، والذى أبدع فى موسيقاه الموسيقار العظيم مودى الإمام، وفيه يظهر يوسف عيد مشاركا فى الاستعراض فى دور المتسوِّل، يغنّى جالسا على طبلية خشب ذات عجلات بمنديل محلاوى كبير يغطى إحدى عينيه يؤدى ويغنِّى، فكان أكثر من رائع، فى ظنّى أن يوسف عيد كان لا يزال قادما، ولو كان قد قدّر له أن يمتد به العمر لكان قد أبدع مزيدا ومزيدا. النجمان خالد صالح ويوسف عيد كلٌّ منهما يمثِّل حالة فنية وإنسانية فريدة. ورغم فرق الحجم السينمائى ما بينهما، وقد كان خالد صالح نجما سينمائيا كبيرا طبق الآفاق وتفوّق على نفسه فى كل ما قدَّم، وكان النجم يوسف عيد فنانا جميلا صنع نفسه بأدوار صغيرة للغاية وجميلة للغاية، وكلاهما مثل حالة فريدة متميزة للغاية خارج الأطر التقليدية المعروفة، فقد كانت خسارتهما ضربة موجعة للفن المصرى إجمالا تألمنا لها، وكلاهما غاب فجأة وفى غير توقّع، ورغم ذلك فالفنان يتميَّز عن كل الناس بأن حياته لا تنتهى بوفاته، لكنها تبدأ، تماما كما رأينا مع إسماعيل ياسين وزينات صدقى وإستيفان روستى والقصرى وأم كلثوم وعبد الحليم، وأسماء تعدّ ولا تحصى من فنانى ومبدعى مصر، لا يزالون رغم وفاتهم فى قمة الحياة والعطاء. خالد صالح العظيم ويوسف عيد الجميل كلاهما قد بدأ حياة سوف تستمر لسنوات طويلة وطويلة قادمة، رحمهما الله.