المفقودون فى أحداث الثورة معادلة أخرى، معادلة يصعب حلها، قاسية إلى أقصى الحدود. هم لم يحسبوا شهداء، أو مصابين، أو حتى مسجونين ومعتقلين. على مكاتب السادة المسؤولين عن إدارة شؤون البلاد عشرات الطلبات. ليست طلبات لزيادة الأجور أو التعيين أو حتى القصاص لدماء الشهداء. إنما طلبات قدمها آباء مكلومون وأمهات ثكلى، يريدون معرفة مصير أبنائهم. فليجرب السادة المسؤولون هذا المعنى. حكايات وحكايات رواها مصريون، عن أبنائهم وإخوانهم الذين فقدوا أيام الثورة. مر عام والأمل لا يزال موجودا. فى السجون والمستشفيات وثلاجات الموتى بحثوا. على مكتب المشير طنطاوى ذهبوا، ولا فائدة. حتى الذين ظهروا كانوا يروون حكايات عن تعذيب غير آدمى فى السجون. قصة رمضان ابن «الزاوية الحمرا» الذى تم سحله فى شوارع التحرير، وفقدت جثته لنحو 17 يوما، مثال مؤلم على عمليات التنكيل التى تم ممارستها فى حق الشهداء. المشير طنطاوى أصدر قرارا بالإفراج عن 1959 مسجونا إثر محاكمات عسكرية. بعضهم كان يحتسبه أهله مفقودا. آلاف المصريين لا يزالون فى سجون طنطاوى، ينتظرون قرار العفو. أما ذووهم فى البيوت فا زالوا صابرين. منهم من عرف المصير، ومنهم من سلم الأمر لله. جهاز أمن الدولة «المنحل»، الذى كان درعا واقية، لنظام المخلوع مبارك، مارس أشد أنواع التعذيب والترهيب. كانوا يختطفون الشباب والفتيات أيام الثورة الأولى، لإثارة الذعر بين المواطنين، ودفع الآباء إلى إجبار أبنائهم على عدم النزول إلى ميدان التحرير. لكن الثورة نجحت، رغما عن أنفهم، وظل المفقودون جرحا لا يندمل. مثلما كان لثورة 25 يناير شهداء ومصابون كان لها مفقودون أيضا. عشرات الشباب والرجال والفتيات خرجوا يومى 25 و28، بحثا عن الحرية والكرامة، فسقط بعضهم برصاص الغدر والبلطجة، بينما اختفى البعض الآخر فى ظروف غامضة، ولا يعرف أحد مصيرهم حتى الآن، فهل استشهدوا أم اعتقلوا أم ماذا حدث لهم على وجه الدقة؟ قصة رمضان ابن «الزاوية الحمراء» الذى تم سحله فى شوارع التحرير، وسُرقت بطاقته وموبايله، وفقدت جثته لنحو 17 يوما، مثال مؤلم على عمليات التنكيل التى تم ممارستها فى حق عدد من شهداء ومصابى ثورة 25 يناير. محمد شقيق الشهيد رمضان فواز اكتشف عدم عودة أخيه نهاية يوم 28 يناير، ورغم بدء تنفيذ حظر التجوال، خصوصا حول المناطق الشعبية المكتظة، مثل الزاوية الحمراء، نزل محمد ومعه ثلاثة أصدقاء إلى الشوارع للبحث عن رمضان، شبكة الموبايل لم تستجب إلا فى نحو الثانية صباحا، رد شخص ما وأغلق الخط. يقول محمد: «منذ تلك اللحظة أدركت أن أخى فى خطر حقيقى، وأن ما كنا نخاف منه حدث، قلنا نبدأ بالمعتقلات، وكان الجيش يجمع مجموعة من المواطنين، أغلبهم بلطجية عند كل سَرية، ثم يرحلهم إلى السجن الحربى، هكذا علمنا، فذهبنا إلى كل مكان وفى كل معسكر كنا نطّلع على قوائم فلم نجد اسم أخى ضمنها»، ويضيف: «غيّرت وجهة بحثى بعد ذلك إلى المستشفيات، وكنت أجّلتها خلال ال24 ساعة الماضية تقريبا، خوفا من أن أجد أخى ميتا.. كنت أفكر كيف سأخبر أمى المريضة بذلك». 17 يوما هى رحلة محمد وأصدقائه داخل مستشفيات القاهرة والجيزة، قال إنه اطّلع على كل جثث المجهولين فى المستشفيات، حفظ شكل الأدراج والمتوفين داخلها، لدرجة أن صديقا له فكر فى تصويرهم ورفع تلك الصور على الإنترنت، حتى يتمكن أهلهم من الوصول إليهم، لكن إدارات المستشفيات رفضت بحجة «حُرمة الميت»، وقبل لحظة الانهيار العصبى الأخير، وفى 15 فبراير الماضى تقريبا وقف محمد فى ساحة مشرحة زينهم يصرخ، فأخبره أحد العاملين بأن جثثا جديدة جاءت من المستشفيات، فرد: «لقد ذهبت إليها جميعا وأحفظ أشكال كل المتوفين فى أدراجها»، ملحا عليه بالمشاهدة مرة ثانية، واستجاب فاتحا أمامه أول درج، ليجد أخاه أمامه. لم يستطع التعرف على وجهه بصورة جيدة، بعد كل هذا العناء الذى لاقاه، لكنه أمسك سريعا بإصبعه وبخاتم مثبت به وبجاكيت كان يرتديه، وتقرير مرفق أعلى الدرج يشير إلى أن هذه الجثة كانت فى «مستشفى الحسين». كانت المفاجأة الكبرى بالنسبة إليه أنه ذهب إلى ذلك المستشفى أكثر من ثلاث مرات، وفى كل مرة لم يجد إلا ثلاث جثث مجهولة، لم تكن جثة شقيقه بينها، فهل كانت الجثة تتحرك، وهل إلى هذا الحد لا يوجد تدقيق فى البيانات؟ هذه أسئلة محمد لا أسئلتنا، لكن نضيف إليها أن هذه ليست الحالة الوحيدة التى شهدت غياب الجثث وعودتها، فقد تكرر الأمر مع أسرة الشهيد طارق عبد اللطيف، الذى تم تثبيت تقرير فوق جثته يشير إلى نقله من ثلاجة قصر العينى رغم ذهابهم إليها أكثر من مرة دون جدوى. طالب شقيق رمضان فور عثوره على الجثة بإخراجها فورا من الدرج، والحصول على التقرير المرفق معه متوجها إلى مديرية الصحة، فى السيدة زينب. هناك لم يجد الموظف الذى ظل فى بيته خوفا من الانفلات الأمنى، فذهب إليه فى دار السلام. حصل على توقيعه «على الواقف» حسب تعبيره، وعاد بأخيه بعد ساعة إلى البيت، سألناه لم يكن هناك أى تحليل لDNA، ألم تقابل أى طبيب؟ رفض أسئلتنا قائلا: «هو أخويا وأنا ماكنتش هاسمح لحد يشرّح جثته، كنت هاقتله.. كفاية مرمطة». لكن ألا توجد نسبة منطقية لوقوع خطأ دون قصد فى أن تحصل على جثة لا تخصك؟ هذا ما كاد يحدث مع أسرة أحمد يسرى، من فاقوس محافظة الشرقية، الذى تهللت أسارير أهله عند رؤية صورة الشهيد المبتسم فى الجرائد، الذى تم الإعلان عنه كشهيد وحيد مجهول فى مشرحة زينهم، فى فترة سابقة، تلاها الإعلان عن 19 غيره، لكن عند حضورهم إلى القاهرة فى منتصف مارس، ووسط المتابعة الإعلامية الشديدة خضع الأب والأم لتحليل الDNA وجاءت النتيجة صادمة «هذا ليس ابنكما» فمن هو؟ وماذا لو كانوا حملوه ورحلوا؟ وأين أحمد يسرى إذن؟ ونفس السؤال يتعلق بصورة الشهيد الأكثر شهرة فى الإسكندرية، هذا الشاب الذى اقترب فى أحد الشوارع الجانبية من رجال الأمن المركزى، تقدم فاردا ذراعيه، وبصدر مفتوح فأردوه قتيلا، ليس بيننا من لم ير الفيديو الذى يصور تلك الواقعة البشعة، وهناك من حدد المكان تماما، فهو شارع القائد الجوهر فى منطقة المنشية، ورغم هذا تمت مواراة جثته تحت التراب دون أن يراه أهله، فماذا عن عشرات غيره قتلوا من دون أن يرى أحد صورا لهم؟! وهذه حكاية جديدة من حكايات المفقودين.. فوزية عجلان، كانت على أمل أن يكون شقيقها، محمد توفيق عجلان، ضمن هؤلاء الذين تم الإفراج عنهم مؤخرا، أو حتى تصل إلى أى معلومة من شأنها أن تعرفها مكانه، منذ أن اختفى، فى أحد أيام يناير 2011. محمد، شاب مصرى يعمل مع ابن عمه فى مركز صيانة للتكييفات، وهو حسب رواية شقيقته فوزية، قرر النزول إلى ميدان التحرير يوم 25 يناير، ولم يرجع إلى بيته سوى اليوم التالى قائلا لوالدته، «البلد يا أمى بتتغير»، ثم نزل ثانية إلى الميدان يوم جمعة الغضب، 28 يناير، ومن يومها لم تعلم أسرته عنه شيئا، بحثوا عنه فى كل مكان، لم يتركوا مستشفى إلا وسألوا فيه، ذهبوا للبحث فى ثلاجات الموتى، ذهبوا إلى المشارح، وسألوا عنه أصدقاءه كافة، إلا أن محاولاتهم لم تسفر عن شىء. تقول فوزية: «أمى ذهبت إلى النيابة العسكرية س 28 فى مدينة نصر، خلال مايو الماضى، فأخبرها أحد الضباط أن هناك ما يقرب من 400 معتقل فى السجن الحربى، على طريق مصر إسماعيلية، وهؤلاء لم يتم فتح تحقيق معهم، ولم تؤخذ بياناتهم، مؤكدا لها أن ابنها قد يكون من ضمن هؤلاء المعتقلين». آخر ما توصلت إليه فوزية هو أن هاتف شقيقها فُتح مؤخرا، ورد عليها عسكرى. قال إنه موجود فى منطقة الجبل الأحمر، وعثر على الهاتف، لكنه رفض التقاء أهالى فوزية أو حتى أن يقول لهم كيف عثر على الهاتف. أما الأب المكلوم الشافعى إبراهيم عبد العاطى، من أبو المطامير فى البحيرة، يحكى عن كيفية اعتقال ابنه محمد قائلا: «ابنى مجند أمن مركزى، وكان موجودا فى إجازة، وقت اعتقاله من قبل قوات الجيش»، يضيف: «ابنى كان يسير بالسيارة مع أبناء عمه على الطريق الساعة الثانية ظهر يوم 30 يناير 2011، واستوقفتهم قوات جيش عند كمين دهشور، وطلب الضابط بطاقات الهوية، وأبرز لهم ابنى تصريح الإجازة، لأن البطاقة كانت موجودة فى وحدة التجنيد»، ويضيف: «ضابط الجيش أصرّ على اعتقاله، وعندما أخبره ابن عمه بأنه سيذهب إلى البيت ليأتى إليه بصورة بطاقة ابنى، رفض الضابط رفضا قاطعا، وقال لهم: لو ممشتوش هعتقلكم». يستكمل الأب قصة ابنه قائلا: «من حينها وأنا لا أعلم عن ابنى شيئا، سألت عنه فى السجون كافة، من الوادى الجديد إلى برج العرب، إلى السجن الحربى، لم أترك مشرحة إلا ودخلتها، ولا مستشفى إلا وسألت فيه، قمت بتحرير محاضر كثيرة، لكنها ذهبت هباء، قدمت التماسات عدة، لكنها كذلك لم تأت بشىء، أريد فقط أن أعرف إن كان ابنى حيا أم ميتا؟». لكن الأمل ما زال موجودا فى أن يجد الأهالى ذويهم المفقودين، فالحاج مختار عبد الحكيم محمد وجد ابنه المفقود فى أثناء الأيام الأولى من عمر الثورة، منذ أيام قليلة، مختار حكى ل«التحرير» رحلة البحث عن ولده محمد، البالغ من العمر 18 عاما مأساته قائلا: «ابنى محمد نزل إلى ميدان التحرير يوم 25 يناير مع أبناء عمه، لكن جميعهم رجعوا إلى البيت من دونه، واتصلت بعدها على هاتفه المحمول، لكنه كان مغلقا، وذهبت إلى مكتب المشير طنطاوى، وقدمت الالتماسات، وسألت فى النيابات العسكرية، وفى السجون كافة، حتى السجن الحربى لم أتركه». ويضيف الحاج مختار: «منذ أيام عثرت على ابنى بعد أن أخبرنى أحدهم أنه رآه فى شارع ناهيا فى بولاق الدكرور، لكنى عندما عثرت عليه أحسست بتغير فى نفسيته، وأبلغنى بعدها أنه كان فى سجن القطا، وتعرض للتعذيب مع آخرين، واصفا التعذيب بغير الآدمى». محمد الذى يعالج حاليا عند أحد الأطباء النفسيين بسبب سوء حالته النفسية بعد خروجه من السجن يقول إنه رأى اللواء الشهيد محمد البطران، وهو يُقتل فى السجن، مشيرا إلى أن من قتله كان يرتدى «ميرى»، لا ملكيا. أما سميرة يوسف سطوحى، شقيقة المفقود حسن يوسف سطوحى فتقول: «أخى يعمل حدادا فى ورشة فى المريوطية، ذهب إلى عمله يوم 28 يناير، وعندما بدأ الانفلات الأمنى، قرر أن يبيت فى الورشة، وعاد ثانية إلى البيت فى الصباح، وفى هذا اليوم اتصل به صاحب الورشة ليقبض راتبه»، وتضيف: «ذهب أخى إلى الورشة وعند الساعة السابعة والنصف مساء 29 يناير، اتصل بزوجته وأخبرته أن ابنته الصغيرة تحتاج إلى دواء. ذهب إلى الصيدلية ليشترى الدواء، ولم يرجع بعدها»، وتستكمل قائلة: «اتصلنا به. وجدنا هاتفه مغلقا، ولم نعلم شيئا إلى الآن عنه، وأمى تكاد تفقد بصرها من البكاء ليل نهار على شقيقى». القصة الجديدة لأم عجوز، عاجزة، احترق قلبها على فلذة كبدها، وهى لا تعرف مصيره، إن كان حيا أم ميتا، والدة محمد ناجى عبد المنعم، من حى العجمى فى الإسكندرية، تقول: «ابنى ترك البيت، وذهب إلى عمله فى منطقة أبى قير قبل الثورة بأسبوع، وعلمت أنه سيشارك مع أصدقائه فى المظاهرات»، وتضيف: «الاتصالات تم قطعها يوم 28 يناير، ولم أستطع التوصل إليه، وفى اليوم الثانى اتصلت به، لكنى وجدت هاتفه مغلقا، سألت عنه أصدقاءه لكنهم لم يعلموا أين هو»، وتتابع: «بحثت عنه فى كل مكان على الرغم من مرضى وعجزى، لكنى لم أتوصل إليه إلى الآن، أريد فقط الاستدلال على مكان ابنى ليهدأ قلبى».