لم أصدّق أن الناس ضربوا شيخ الجامع الأزهر (الشرقاوى)، ونزعوا عمامته الكبيرة ورموها على الأرض، وأسمعوه قبيح الكلام والشتائم، قلت لعلّها حادثة مثل حادثة ضرب البرادعى فى المقطم، أو رشق الفريق شفيق بالحذاء، فالعامة ليسوا كيانًا واحدًا، وأهواؤهم شتى، لذلك أكملت البحث التاريخى عن جهاد شيوخنا ضد الاستعمار، ومقاومتهم للفرنسيس، والحقيقة أننى وجدت بطولات، لكنها ليست للكبار، كانت البطولات لمجاورين صغار، وأشخاص لم يذكرهم التاريخ، أو ذكر بعضهم عرضًا فى سطور قليلة، ولما كنت أفتّش مخلصًا عن بطولات الشرقاوى والسادات، لأقدمها للأجيال الجديدة، لم أجد إلا الخيبة التى لا نزال نعيشها حتى اليوم! استوقفتنى حادثة إهانة شيوخ الديوان، قصة رجل متشدّد وغامض، وجدت حديثًا منقوصًا عنه فى أخبار الجبرتى، فلم يذكر اسمه، وكان يسميه «الرجل المغربى»، وقال إنه هو الذى حرَّض الناس على الشيوخ فى أثناء عرضهم لمبادرة كليبر، فقد كان يلتف حوله كثير من السفلة والغوغاء وأخلاط العالم، وبمجرد أن ذكر الشرقاوى كلمة الصلح، هتف المغربى الغامض «الصلح منقوض وعليكم بالجهاد، ومَن تأخَّر عنه ضرب عنقه»، وهاج العامة وأهانوا الشيوخ وطردوهم. لما سمع الشيخ السادات بهذا الأمر، وكان خارج بيته، لم يجرؤ على الخروج للشارع، حتى اهتدى لحيلة، فأمر شخصًا أن يمشى أمامه وينادى: «الزموا المتاريس، وجاهدوا»، ووافق ذلك رأى العامة، لأن غرضهم كما يقول الجبرتى «دوام الفتنة من أجل دوام النهب والسلب عند الأغلب، والتصوّر بصورة الإمارة باجتماع الأوغاد وتكفل الناس لهم بالمأكل والمشرب» (كنتاكى ميدان التحرير يعنى!). يضيف الجبرتى: هكذا حال الفتن تكثر فيها «الدجاجلة»، مثل الرجل المغربى الذى هاجم الصلح والأشياخ، وهذا افتئات منه، ودخول فى ما لا يعنيه، حيث كان فى البلد مثل الباشا والكتخدا والأمراء المصريين، فما قدر هذا الأهوج حتى ينقض صلحًا أو يبرمه، أو ينصب نفسه، لكنها الفتن ينتشر بها البغات، سيما عند هيجان العامة وثوران الرعاع والغوغاء. كرر الفرنسيون عرض مبادرة الصلح أربع مرات، وفى كل مرة يتأخَّر الرد، ثم يأتى بالرفض، ويقول المشايخ والباشا والكتخدا: «إن العساكر لم يرضوا بذلك ويقولون لا نرجع عن حربهم حتى نظفر بهم أو نموت عن آخرنا، وليس فى قدرتنا قهرهم على الصلح». فأرسل الفرنساوية رسالة مكتوبة نصّها: «عجبنا من قولكم إن العساكر لم ترضَ بالصلح، وكيف يكون الأمير أميرًا على جيش ولا ينفِّذ أمره فيهم؟». فى المرة الخامسة أرسل كليبر رسولًا يقول: أمان أمان.. سوا سوا، وبيده رسالة مكتوبة، فأنزله الناس من على فرسه وقتلوه. إذن هى الحرب. وحتى لا نتّهم الرافعى أو كشك أو المؤرخين المصريين بالانحياز والمبالغة، أقتطف لكم وصف الحرب من كتاب مسيو جالان مؤرخ الحملة الفرنسية، يقول: بعد إنذار 14 أبريل، حاصر الجنرال فريان بولاق ودكّها تمامًا بالمدافع، لكن المقاومة استمرت بشراسة رغم سقوط القاهرة، وتحوَّلت المعركة إلى حرب شوارع، فاضطر فريان إلى الاستيلاء على المدينة بيتًا بيتًا، ومع ذلك استمرت المقاومة، فعرض فريان العفو عن الثوار إذا استسلموا، فرفضوا الاستسلام واستمروا فى القتال. يقول جالان: أمر فريان باستباحة كل شىء، فقتلنا عددًا كبيرًا من الناس، ولكننا فقدنا كثيرًا من الشجعان قبل أن تصبح المدينة فى قبضة يدنا. يصف جالان حالة القاهرة بعد السقوط (فى 5 مايو)، قائلًا: عمّ الخراب أحياء بأكملها وتمثَّل لنا شبحه المخيف فى الأزبكية، وأثرت فى نفسى صورته المفزعة، فليس فى الإمكان أن تخطو خطوة إلا على كثبان من الخرائب والأتربة، وكانت رائحة العفونة تنبعث من الرمم المدفونة تحت الردم، وزاد هذا المنظر فظاعة أن الجنود مدفوعون بفكرة النهب، كانوا ينبشون الجثث من تحت الأنقاض والخرائب فكلما أظهروا جثة زاد المنظر هولًا، وفظاعة. وللمأساة بقية..