يبدو أن ظاهرة المتطوعين العرب التى رأيناها بقوة فى العراق وسوريا لها جذور قديمة يؤكّدها دور المغاربة وبعض أهالى الشام والحجاز فى أثناء الحملة الفرنسية على مصر، ولذلك لم يكن سليمان الحلبى مجرد استثناء عابر، ففى ثورة القاهرة الثانية، شدَّد كليبر القصف على منطقة تجمع الثائرين فى الجمالية، حتى أشار الكبراء بضرورة الخروج من المدينة للنجاة من القصف، وتزاحم الناس للنزوح، لكن جماعة من المغاربة خرجوا من خان الخليلى، ومعهم بعض العسكر العثمانيين، هاجموا النازحين واتهموهم بالجبن، و«شنّعوا» عليهم (حسب وصف الجبرتى)، وأجبروا معظمهم على البقاء، وحصّنوا المتاريس، وأخذوا فريقًا من المتطوعين إلى جهة الأزبكية، وكانت معهم عدة مدافع وجدوها فى بيوت الأمراء، وأحضروا من حوانيت العطارين أثقال الموازين واستعملوها عوضًا عن «جُلل» المدافع وصاروا يضربون بها بيت سارى عسكر بالأزبكية. استمر القتال عدة أيام، وكان عثمان كتخدا يقيم فى وكالة ذو الفقار بالجمالية، ونصوح باشا فى الأزبكية، وكان كل من قبض على فرنساوى أو قطع رأسه يذهب به إلى أحدهما ويأخذ فى مقابل ذلك الدراهم، هذا على عهدة الجبرتى الذى يضيف: «صار جميع أهل مصر بالأزقة ليلا ونهارا، ولم يبقَ أحد ببيته سوى الأطفال والنساء والمرضى، أو الضعيف والجبان والخائف، وفى اليوم الثانى حضر رجل مغربى يقال إنه كان يحارب الفرنسيس بجهة البحيرة سابقًا، والتفت عليه طائفة من المغاربة وجماعة من الحجازية، وأشعلوا النهب والسلب والضرب، واتهموا الشيخ خليل البكرى (نقيب الأشراف السابق) بأنه يوالى الفرنسيس ويرسل إليهم الأطعمة، فهجمت عليه طائفة من العسكر وأوباش العامة ونهبوا داره وسجنوه مع أولاده وحريمه وأحضروه إلى الجمالية مشيًا على أقدامه، ورأسه مكشوف، وحصلت له إهانة بالغة وسمع من العامة كلامًا مؤلمًا وشتمًا فلما مَثُل بين يدى عثمان كتخدا، وعده بخير وطيّب خاطره». يوضح لنا الجبرتى أن نفقات الثورة والمآكل والمشارب، تكفَّل بها المحروقى «الشاهبندر» وباقى التجار ومساتير الناس، هذا فى الوقت الذى تحصَّن فيه الفرنساوية بالقلاع المحيطة بالقاهرة، وداخل بيت الألفى، الذى يحيطه ما يشبه «الحزام الأخصر» فى بغداد. كان مراد بك قد عقد صلحًا مع الفرنسيين، لكن العثمانيين توسَّعوا فى إعلام التضليل، وأخفوا الخبر، بل أشاعوا عكسه لئلا تنحل عزائم الناس عن القتال، واستمر نصوح باشا يظهر مراسلات موفية للنجدة والمعونة من مراد بك والباب العالى! ويرجح الجبرتى أنهم افتعلوا أجوبة لترويجها على الناس تؤكِّد أن حضرة الصدر الأعظم «يوسف باشا ضيا» فى طريقه لمحاربة الفرنسيس، وأنه سوف يسحقهم غدًا أو بعد غدٍ، وعند وصوله يحصل تمام الفتح وتهدم العساكر القلاع وتقلبها على مَن يبقى من الفرنساوية وبعد ذلك ينظِّم البلاد ويريح العباد، فاجتهدوا فى ما أنتم فيه. كان المنادى يطوف ليلقى مثل هذه الأخبار على مسامع الناس والعسكر باللسان العربى والتركى، ويحرّضهم على الجهاد والاجتهاد والحرص على الصبر والقتال وملاقاة العدو. فى ذلك الوقت أفلت من الفرنسيين المنتشرين خارج القاهرة نحو خمسمئة من عسكر الأرناؤوط (يكتبها الجبرتى الأرنؤود)، وفرح الوالى لقدومهم واتفق معهم أن يقولوا للناس إذا سئلوا، إن 20 ألفًا سيأتون فى أثرهم وعليهم كبير. قويت عزيمة الناس، واشتعل الموقف أكثر عندما دخلت بولاق حالة الثورة تحت قيادة الحاج مصطفى البشتيلى، كبير تجار بولاق، الذى ذهب على رأس جماعة من أنصاره إلى مخزن للفرنسيس بساحل البحر (النيل) فقتلوا مَن وجدوه، ونهبوا جميع ما فيه من خيام ومتاع، واستمروا فى اقتحام مخازن الغلال والودائع وأخذوا ما فيها، ثم أقاموا المتاريس حول الحى، وحسب وصف الجبرتى: «استعدوا للحرب والجهاد، وقوى فى رأسهم العناد». لكن أين شيوخنا الكبار من هذه الأحداث؟ وأين كليبر؟ وإلى أى طريق مضت الثورة بعد ذلك؟ الحكاية مستمرة..