هل تريد أن تعرف الأسباب الخفية وراء تصريحات أردوغان العدائية، وتآمر قطر، وتحركات جماعة الإخوان، وتدخلات القوى الخارجية والإقليمية فى مصر؟ بسيطة، تأمّلْ معى تقاطعات القوى المتحركة على الساحة ودوافعها الكامنة فى ثورة القاهرة الثانية التى قرأها أستاذنا محمد عودة بعيون رومانسية مشبَّعة بأيديولوجيا معاصرة تأخذ فى الاعتبار مقدار التغييرات والتراكمات المعرفية التى حدثت على مدى أكثر من قرنين، لكن رؤية الجبرتى كانت معايَشة حية لشاهد عيان تضمنت شهادته الكثير من التفاصيل عن الأسباب والأحداث، والأبطال، والضحايا، والأقليات، والسماسرة، وأيضا تجار الأوطان، والعوامّ المستخدَمين من كل الأطراف. وطبعا مواقف الشيوخ (نخبة المثقفين) من قضايا الوطن وعلاقتهم بالسلطات المحلية والخارجية التى تفرض وجودها عسكريا أو معنويا، أو عبر شبكة مصالح شخصية «تُحسّ ولا تُمسّ». يرصد الجبرتى بدايات الثورة التى يسميها «الفتنة الثانية» بمشاجرة حدثت بعد أسبوع واحد من عيد الفطر (3 مارس 1800) بين جماعة من عسكر العثمانية والفرنساويين أسفرت عن مقتل جندى فرنساوى، ووقعت فى الناس زعجة وكرشة، وأغلقوا الحوانيت وعمل العثمانية متاريس ناحية الجمالية وما بعدها، واجتمعوا هناك، ووقعت مناوشة قُتل فيها أشخاص من الفريقين وكادت تكون فتنة، وباتوا ليلتهم عازمين على الحرب فتوسط بينهم كبراء العسكر فأزالوا المتاريس وانكفّ الفريقان وبحث مصطفى باشا (قائمقام عثمانى) عمن أثار الفتنة، وقبض على ستة أنفار أرسلهم إلى سارى عسكر فلم يطب خاطره بذلك، وقال لا بد من خروج عسكر العثمانيين من المدينة حتى يأتى موعد خروج الفرنسيين حسب الاتفاق، ولا يدخل أحد منهم إلا بتصريح، ومن دون سلاح، ونفَّذ مصطفى باشا طلب كليبر، وأُقيمت نقطة تفتيش من الفرنساوية خارج باب النصر. لكن المناوشات استمرت على تخوم القاهرة، وضاق بها كليبر فخرج بعد أسبوعين من المشاجرة (19 مارس)، لمهاجمة القوات العثمانية المرابطة ناحية المطرية وعين شمس، وطردهم باتجاه الصالحية، لكن فى أثناء استراحة قواته شاهدته قوات عثمان بك (من أمراء المماليك المختصين بجباية الضرائب للعثمانيين) وكان فى قلة من عسكره فهاجموه بالنبابيت والحجارة، وبدأت معركة بين الطرفين. ولما سمع أهل مصر صوت المدافع كثر فيهم اللغط والقيل والقال (صفة مستمرة حتى الآن)، ولم يدركوا حقيقة الحال (أيضا صفة مستمرة)، فهاجوا ورمحوا إلى أطراف البلد، حيث قتلوا هناك أشخاصا من الفرنساوية صادفوهم هناك، وذهبت شرذمة من العامة فنهبوا بعض المتعلقات من معسكرات الفرنساوية، وخرج السيد عمر أفندى نقيب الأشراف (كان قد عاد بعد تولى كليبر واستقبله بعد وساطة الشيوخ وأعاده إلى منصبه) والسيد أحمد المحروقى «شاهبندر التجار» وانضم إليهما أتراك خان الخليلى، وعدد من المغاربة، وكثير من العامة، وتجمعوا على التلول خارج باب النصر وبأيدى الكثير منهم النبابيت والعصىّ، والقليل معه السلاح. يضيف الجبرتى: «تحزّب كثير من طوائف العامة والأوباش والحشرات وجعلوا يطوفون بالأزقّة وأطراف البلد ولهم صياح وضجيج، وتجاوب بكلمات يقفّونها من اختراعاتهم وخرافاتهم (هتافات)، فلما أضحى النهار دخل جنود مصابون من قوة عثمان بك وسألهم الناس فلم يخبروهم بشىء لجهلهم أيضا حقيقة الحال (عادى حسب الصفة الثانية)، ولم تزل الحال كذلك إلى أن دخل وقت العصر فوصل جمع عظيم من العامة (أصحاب الهتافات) وخلفهم إبراهيم بك، ثم مسيرة أخرى وخلفها سليم أغا، ثم أخرى، وخلفها عثمان كتخدا، ثم نصوح باشا (والى مصر) ومعه عدة وافرة من العساكر، وانطلقت حشود كبيرة من باب النصر، وباب الفتوح، ومروا على الجمالية حتى وصلوا إلى وكالة ذو الفقار، وهناك قال نصوح باشا للعامة: اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم، فهل كان يقصد الفرنسيين أم أقباط مصر؟». غدًا نعرف.