يشهد السودان واحدة من أكثر مراحله تعقيدًا منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، حيث تتقاطع المأساة الإنسانية في دارفور مع التطورات العسكرية والسياسية، وسط ضغوط دولية متزايدة لإيقاف العنف وتفعيل مسار سلام شامل. وفي الوقت ذاته، تتحرك الدبلوماسية السودانية والإقليمية في اتجاهات متعددة، سواء عبر الجامعة العربية أو الاتصالات الثنائية مع دول الجوار، فيما تتفاعل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية داخليًا مع محاولات الحكومة استعادة زمام المبادرة. تحركات دولية لإدانة الانتهاكات في الفاشر أصدرت أكثر من 20 دولة بيانًا مشتركًا دانت فيه الانتهاكات الواسعة التي شهدتها مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، مؤكدة أن ما يحدث يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني و"قد يرقى إلى جرائم حرب". وضمت قائمة الدول الموقعة كلًا من: بريطانيا، ألمانيا، النرويج، الدنمارك، هولندا، كندا، أيرلندا، وإسبانيا إلى جانب عدد من دول الاتحاد الأوروبي، حيث دعت إلى محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وضمان حماية المدنيين. وتزامن البيان مع تصريحات قوية من الأممالمتحدة التي وصفت ما يجري في الفاشر بأنه "هجوم ممنهج على الحياة والكرامة الإنسانية"، مطالبة بوقف فوري لإطلاق النار والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق. دارفور مجددًا في قلب العاصفة في ظل التدهور الأمني المتواصل، أعلن حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي تكليفه من قبل القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان بقيادة القوات الحكومية في غرب السودان، "لحماية المواطنين واستعادة السيادة الوطنية". ويأتي هذا القرار بعد تصاعد المعارك في الفاشر وسقوط عدد من القادة العسكريين، من بينهم الفريق حامد إدريس جزم، قائد القوة المشتركة، الذي نعت وفاته حركة العدل والمساواة بوصفه "شهيد الواجب الوطني". في المقابل، شدد الفريق أول ياسر العطا، بعد تسلمه قيادة القوة الجوالة، على أن الجيش "يتحرك بإصرار لاستعادة السيطرة على دارفور وتأمين الحدود الغربية"، مؤكدًا أن العمليات ستستمر حتى تطهير المناطق من "التمرد والفوضى". وتشير تقارير ميدانية إلى أن تكلفة الحرب اليومية تصل إلى ملايين الدولارات، مع اتهامات بتورط الإمارات في تمويل جزئي لبعض العمليات عبر دعم لوجستي وتسليحي وإعلامي، ما يثير تساؤلات حول دور الأطراف الإقليمية في إطالة أمد الصراع السوداني. تحركات قانونية وعدلية عربية من المنتظر أن يترأس وزير العدل السوداني د. عبد الله درف جلسة أعمال الدورة 41 لمجلس وزراء العدل العرب، التي ستعقد يوم الأربعاء بمقر جامعة الدول العربية في القاهرة، بمشاركة واسعة من وزراء العدل في الدول الأعضاء. وتأتي المشاركة السودانية في توقيت حساس، حيث تسعى الخرطوم لتسليط الضوء على الانتهاكات التي تشهدها البلاد والمطالبة بدعم عربي لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب، إضافة إلى تعزيز التعاون القانوني والقضائي العربي في مواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة. موقف أمريكي مرتقب وتصعيد في الخطاب الدولي أكد محمد محمد خير، المستشار السياسي لرئيس الوزراء السوداني، أن الولاياتالمتحدةالأمريكية بصدد تصنيف مليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية بنهاية ديسمبر المقبل، مشيرًا إلى أن الإدارة الأمريكية تتابع عن كثب الجرائم التي ارتُكبت بحق المدنيين في دارفور والخرطوم. وفي حال تنفيذ هذا القرار، سيكون لذلك انعكاسات سياسية واقتصادية كبرى، إذ سيؤدي إلى تجميد أصول وقيود مالية على قادة الدعم السريع، وربما فتح الباب أمام تحقيقات دولية أوسع تشمل أطرافًا إقليمية متورطة في تمويل وتسليح المليشيا. الاقتصاد السوداني: إشارات تعافٍ جزئي وسط العاصفة رغم الأوضاع الصعبة، ظهرت بعض المؤشرات الاقتصادية الإيجابية؛ إذ أعلنت أسواق محاصيل القضارف استقبال أكثر من 52 ألف جوال سمسم مع بداية موسم الحصاد، وسط تفاؤل المزارعين بارتفاع الإنتاجية هذا العام. كما أوضح وزير المالية د. جبريل إبراهيم أن القطاع الخاص يمثل الركيزة الأساسية للنمو الاقتصادي، مشيرًا إلى ضرورة تهيئة المناخ للاستثمار وتوسيع الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص في مجالات الزراعة والتعدين. وفي السياق ذاته، كشف المراجع العام عن استكمال مراجعة حسابات 398 وحدة حكومية و18 بنكًا للعام المالي 2024، وقدّم تقريرًا شاملًا إلى رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان حول الأداء المالي العام، مؤكدًا استمرار الجهود لتعزيز الشفافية والحوكمة المالية. الملف الإنساني: نداءات عاجلة من المنظمات الدولية تستمر التحذيرات الأممية من كارثة إنسانية متفاقمة في شمال دارفور، حيث ذكرت منظمة الهجرة الدولية أن أكثر من 30 مليون شخص في السودان بحاجة إلى المساعدات الإنسانية. وخلال زيارتها إلى بورتسودان، أكدت المديرة العامة للمنظمة إيمي بوب أن المجتمع الدولي مطالب بتكثيف دعمه، مشيرة إلى أن النازحين في ولايات دارفور وكردفان يعيشون "ظروفًا لا إنسانية تهدد حياتهم اليومية". وفي سياق متصل، أعلنت وزارة الثقافة والإعلام والسياحة عن منع قناة سكاي نيوز عربية من العمل داخل السودان لعدم امتلاكها تصريحًا رسميًا، في خطوة وُصفت بأنها محاولة لضبط المشهد الإعلامي في ظل الانتشار الواسع للأخبار المضللة. تُظهر التطورات المتسارعة أن السودان يقف عند منعطف حاسم؛ فبينما تتزايد الإدانات الدولية وتتسع رقعة الأزمة الإنسانية، تحاول الحكومة تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي، وتستعد قوى داخلية وخارجية لإعادة رسم توازنات القوة في المرحلة المقبلة. وفي ظل هذه التعقيدات، يبقى مصير السودان مرتبطًا بقدرته على وقف نزيف الحرب وبناء توافق وطني شامل، يضع حدًا لمعاناة الملايين ويعيد للدولة مكانتها واستقرارها المنشود.