رغم أننى أتردد على مهرجان أفينيون منذ عشرين عاما، كنت حريصا فيها على متابعة كل ما يفد إليه من مسرح عربى، فإننى لم أصادف أبدا أى عمل مسرحى من مصر. كانت هناك أعمال عديدة للبنانى وجدى معوض، الذى فرض اسمه بخياله الدرامى المتفرد وأسلوبه المسرحى المميز على خريطة المسرح العالمى. وكذلك شاهدت فرقة «فاميليا التونسية» لفاضل الجعايبى وجليلة بكار، التى وفدت إلى المهرجان مرتين، مرة بعملها (جنون) وأخرى عقب الربيع العربى مباشرة بعملها الاستشرافى (يحيى يعيش). لكن أبدا لم يفد إليه شىء من مصر. لذلك سعدت كثيرا حينما وجدت فى برنامج المهرجان لهذا العام عملا مصريا لفرقة «الورشة» بقيادة حسن الجريتلى بعنوان (هعيشك Je Te Survivrai)، وحرصت على حجز تذاكر مسبقا لمشاهدته. وقد عرض العمل الذى اختار الجريتلى أن يسميه (طيور الفيوم) فى ساحة إحدى كليات جامعة أفينيون فى الهواء الطلق، ككثير من عروض هذا المهرجان المسرحى التى تعرض فى مكان ليس مخصصا أصلا للمسرح. شيدت فيه خشبة كبيرة مرتفعة نسبيا عن سطح الأرض، ورصت أمامها صفوف عديدة من الكراسى للجمهور. وحينما ندلف إلى الساحة نجد أن الخشبة قد رص عليها هى الأخرى صف من الكراسى، وكأنما تريد الخشبة أن تكون صورة من قاعة المشاهدين. وما أن صعد المخرج مع أعضاء فرقته (وعددهم 18) إلى الخشبة، وجلسوا على صف من الكراسى فى مواجهة الجمهور، حتى تأكد مسرحيا أنهم يريدون بحق أن يجعلوا الخشبة مرآة للقاعة. ثم أخذ المخرج يقدم عمله للجمهور بالفرنسية فى مقدمة تناول فيها تاريخ عمل «الورشة» منذ عام 1987 وأسلوبها فى البحث المسرحى، وكيف أنها الفرقة المسرحية «الوحيدة المستقلة» فى مصر (هكذا قال). ثم أخذ يقدم العرض الذى دعاه بالكباريه السياسى، وكيف أن اندلاع الثورة المصرية قد أثر على عمل الورشة وغيّره. وبعد هذه المقدمة التمهيدية، التى توقعت فيها أن أشاهد التغيّرات التى جلبتها الثورة لعمل «الورشة»، الذى سبق أن شاهدت عرضا لها قبل أعوام طويلة حينما وفدت إلى لندن بمبادرة من مسرحها الشهير (الرويال كورت). لكن العمل الجديد الذى شاهدته لم يختلف كثيرا من حيث بنيته الدرامية عما سبق أن شاهدته للورشة. فقد اعتمد العرض على السرد على طريقة الراوى الشعبى القديمة، وليس الدراما بمعناها المعاصر ولغاتها الدرامية المتعددة، واستمرار جلوس أعضاء الفرقة على مقاعدهم فى مواجهة الجمهور. يقدم حسن الجريتلى كل منهم مع نبذة عما سيقدمه، فيتقدم الممثل أو المغنى ليقدم لنا بدوره ما يمكن دعوته بالاسكتشات الغنائية أو السردية. بدأت بقصة شعبية أشبه بأمثولات (كليلة ودمنة) عن «الذئب والكلب» تقدم أمثولتها عن أهمية الحرية، ثم تلاها غناء مقطوعة من «السيرة الهلالية» وقصيدة من ابن عروس، ثم سرد علينا قصة إبراهيم أصلان «مشوار» دون لغة إبراهيم أصلان العذبة الدقيقة، فأهم ما يميز أصلان أنه جواهرجى الكلمات، لكن الورشة أوكلت لأحد أفرادها تحويل لغته الشاعرية الناصعة إلى العامية دون مبرر فنى، ففقدت القصة الكثير. ثم أغنية من أغانى الطنبورة ببورسعيد عقب العدوان الثلاثى عليها، ثم أغنية نوبية، ثم سردت أخرى علينا قصة لهالة القوصى فيها الكثير من المبالغات الكاريكاتيرية عن حماقات أمن الدولة، ثم غنى آخر أغنية أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عن «فاليرى جيسكار ديستان»، تبعتها فقرة عن المسحراتى من قصائد فؤاد حداد ونجم، ثم أغنية ساخرة من أغانى التحرير عن الذين يأكلون الكنتاكى فى أثناء ثورة 25 يناير، تنطوى على عدد من شعارات الثورة. وبعد هذه الفقرات التى لا رابط تاريخى أو موضوعى بينها، قدم لنا العرض أهم إضافاته التى استقاها من (زوايا) وهى تجربة تقدم مجموعة من الشهادات الحية عن الثورة المصرية فى 25 يناير: شهادة أحد أفراد الألتراس عن المشاركة فى الثورة وعن أحداث بورسعيد الدامية، وشهادة بلطجى، وشهادة أحد ضباط الجيش، ثم شهادة ناشطة حقوقية عن زيارتها لمشارح الإسكندرية، وشهادة أم قتل ابنها فى أحداث حرق قسم الأزبكية، وتبع هذه الشهادات مقتطف من نص لعالية مسلم مكتوب باللغة الإنجليزية، وقرأته علينا عضوة من الفرقة بالإنجليزية أيضا، مما دفعنى إلى الاستغراب لترجمة نص أصلان للعامية، وعدم ترجمة النص الإنجليزى للعربية. ثم انتهى العرض بتعليل تسميته ب(طيور الفيوم) لذهاب البعض لها لمراقبة الطيور وتعلم درس الطيران والحرية المطلقة منها، قبل أن ينهيه كلية بمنولوج لمحمود شكوكو. وكم تمنيت لو استطاعت «الورشة» بفريق أعضائها الذى يتميز بالموهبة والإخلاص للفن، أن تحيل هذه الجرعة الضخمة من الحكايات والنصوص والقصائد المصرية، أو حتى القسم الأكثر توهجا فيها وهو شهادات الثورة، إلى دراما حقيقية تستخدم لغة المسرح ومفرداته البصرية والحركية فى خلق دراما قادرة على التوجه لعقول المشاهدين وإثراء معرفتهم بما جرى فى مصر، وهناك فى أفينيون، بل فى فرنسا كلها شوق لمعرفة المزيد عنه. كما فعل مثلا المخرج الشيلى ماركو باسرا Marco Layera فى عرضه الشيق (تخيل المستقبل La Imaginacion Del Futuro) الذى تناول فيه انقلاب بنوشيه ضد ألليندى، أو المخرج النيوزيلندى ليمى بونيفاسيو Lemi Ponifasio فى عرضه البديع (أنا I Am) الذى يستجيب فيه لمرور قرن على اندلاع الحرب العالمية الأولى. ناهيك عن عرض المخرج البلجيكى البارع فابريس مورجيا Fabrice Murgia فى عرضه (خوفنا من اللاوجود Notre Peur de N'Etre) الثرى والمثير للتأمل والتفكير. وهى كلها عروض جميلة شاركت فى مهرجان هذا العام، وتعاملت بفنية عالية مع قضايا السياسة، وآمل أن يكون حسن الجريتلى قد استطاع مشاهدة بعضها، كى يستلهم منها ما يطور عمل «الورشة»، ويسهم فى وضع المسرح المصرى بحق على خريطة الإبداعات المسرحية فى العالم.