رئيس مصر -على كل شعبيته الجارفة- لا يملك السلطة وحده لتنفيذ برامجه، ذلك أن سلطة الإدارة يقع معظمها فى يد رئيس الوزراء وحكومته، بداية من الاشتراك مع الرئيس فى وضع السياسات العامة والإشراف على تنفيذها، والمحافظة على أمن الوطن، وإعداد مشروعات القوانين والقرارات والخطة والموازنة العامة للدولة، لعرضها على البرلمان لإقرارها، وتنفيذ القوانين، ووضع لوائح الضبط، وإصدار القرارات بإنشاء المرافق والمصالح العامة.. إلخ. .. يملك رئيس الوزراء كل هذه السلطات طبقا لدستور البلاد، ومع ذلك فإن رئيس الجمهورية ليس له إلا حق اقتراح اسمه على البرلمان، والبرلمان وحده هو صاحب الحق النهائى فى القبول أو الرفض، كما يملك البرلمان عزل رئيس الوزراء وحكومته فى أى وقت، يلزمه فى هذا الشأن موافقة الأغلبية المطلقة من الأعضاء. الدستور إذن جعل البرلمان هو الفيصل فى تعيين رئيس الوزراء، وسلب الرئيس حقه فى إقالة رئيس حكومته إذا ما اختلف معه أو تبين له عدم قدرته أو فشله. ويزيد الأمر صعوبة على الرئيس فى تمرير قراره بتعيين رئيس الوزراء أو إقالته، ما نص عليه الدستور من ضرورة موافقة الأغلبية المطلقة -لا أغلبية الحضور فقط- خصوصا أن الرئيس السيسى -على شعبيته الطاغية- ليس له ظهير سياسى متَّحد من النواب ليسانده، فإذا جاءت أغلبية البرلمان من المستقلين كان التوافق بينهم صعبا إن لم يكن شبه مستحيل. أخذ الدستور إذن بثنائية السلطة التنفيذية، ولكنه لم يحفظ التوازن بين مؤسستيها «الحكومية والرئاسية»، ولم يحقق أيضا التعادل المبتغَى بين السلطات المتباينة، فمال لصالح السلطة التشريعية على حساب السلطة التنفيذية، ويبدو ذلك واضحا فى أن الدستور منح البرلمان حق سحب الثقة من رئيس الدولة والدعوة إلى انتخابات مبكرة بأغلبية ثلثى الأعضاء دون الرجوع إلى الشعب، وفى المقابل لم يمنح الرئيس حق حل مجلس النواب، إذا ما تعنت فى تعيين الحكومة أو عزلها دون مبررات، صحيح أنه من المستبعد ممارسة البرلمان لحقه فى إقالة الرئيس بصفة عامة، وبصفة خاصة الرئيس السيسى، لما له من رصيد عظيم لدى الجماهير، لأن إطاحته بالرئيس قد تعنى الإطاحة بالبرلمان معه.. لكن الفكرة هنا ليست فى قدرة البرلمان عمليّا على عزل الرئيس بقدر افتقار الدستور ذاته إلى تحقيق التوازن المحكم بين السلطات الذى هو جوهر الدساتير كلها. والتوازن الذى أقصده هو التوازن الذى لا يسمح لنفوذ الأكثرية بالاستبداد بمصالح الأقلية، ويمنع الأقلية من التحكم فى حقوق الأكثرية، مما يحول بين النظام واهتضام الحرية، ويحمى الحرية من جور النظام عليها، ويحيطها بحائط مانع يصعب على ذوى الأهواء القفز عليه أو اختراقه، ويضمن فى الوقت ذاته إلقاء نور المناقشة العامة والعلنية على أمور الدولة أمام الرأى العام بشفافية. لماذا أكتب ذلك الآن؟ أولا، لأقول للبرلمان القادم، أيّا كان أعضاؤه، إن التوازن اختل فى الدستور لصالحه، فلا يحاول الاستئثار بالسلطة أو الاستزادة من القوة والتغوّل على المؤسسات الأخرى، لأن ذلك قد يسبب أزمات لا حصر لها نحن فى غنى عنها. ثانيا، لأقول للرئيس القادم: لقد سلبك الدستور بعض سلطاتك لصالح الحكومة والبرلمان، ولكن الظهير الشعبى الكبير لك إذا استمر فإنه سيشكل سياجا شائكا يمنع السلطة التشريعية من التغول على السلطة التنفيذية برئاستك، ويمنعها من الاستقواء واستغلال عدم التوازن فى القوة الذى قرره الدستور لصالحها. ثالثا، لأقول للقائمين على وضع قانون الانتخابات: إن كانت الانتخابات الفردية هى توجهكم فلا أقل من إلزام المرشح المستقل بتقديم ما لا يقل عن 2000 توكيل من أبناء دائرته، لضبط إيقاع ترشح المستقلين، وربما قصرها على الجادين منهم، والذى من شأنه أن يزيد فرصة الأحزاب فى الانتخابات الفردية، خصوصا إذا ما لجؤوا إلى التحالفات أو الاندماجات، وهذا لن يخالف الدستور، بل إنه يتماشى مع مبادئه، من حيث إنه اختار الديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية، وتداول السلطة، وحكومة الأكثرية، ولا يُتصوَّر أن تكون هناك حكومة أكثرية إذا كان المستقلون هم الأغلبية. وأخيرا، أقول للناخبين الذين كانوا يطالبون المرشحين للرئاسة بتقديم برامج محددة وفق توقيتات زمنية ملزمة ومعلنة: إن الدستور ربما يكون السبب، فلا يكلَّف رئيس بمسؤوليات إلا بقدر ما حدد له الدستور من سلطات وخوَّل له من صلاحيات، كما إنه «لا يكلِّف الله نفسا إلا وسعها».. والله يجازى اللى كان السبب.