حوار: كارم محمود مصادفة طريفة قادت إلى إجراء هذا الحديث. حضرت اجتماعات اتحاد الصحفيين العرب، التى عقدت فى «بغداد» قبل أيام، ضمن وفد النقابة المصرية، وجاء ترتيب جلوسى مباشرة خلف رئيس الوزراء العراقى نورى كامل المالكى. وفور أن انتهى الرجل من إلقاء كلمته، فى افتتاح المؤتمر، طلبت منه إجراء حديث شامل لجريدة «التحرير»، وقلت له إنها أول جريدة مصرية مستقلة، بعد «ثورة يناير» المجيدة. ونظرا إلى لأن موعد مغادرتنا كان بعدها بيوم، لم أكن أتوقع أن يلبى الرجل الذى كان منشغلا، قبلها بساعات بالخروج الرسمى لآخر القوات الأمريكية من بلاده. فوجئت بأن مكتب المالكى يتصل، ويحدد موعدا فى صباح اليوم التالى مباشرة. حضرت سيارة «المراسم»، ولم يكن فيها إلا السائق، ومرافق واحد من مكتب رئيس الوزراء. خمس دقائق سارتها السيارة من دون أى حراسة، اجتزنا خلالها عدة نقاط تفتيش، لم تستوقفنا كثيرا، حتى وصلنا إلى مقر رئيس الحكومة، داخل المنطقة الخضراء. وبسرعة بدأ اللقاء، الذى كان مقررا له ثلث ساعة، لكنه امتد إلى نحو 90 دقيقة، أكثر ما أدهشنى خلالها، قدرة الرجل الفائقة على الاحتفاظ بهدوئه، وتمالكه الكامل لأعصابه، وسط خضم الأزمة السياسية التى تكاد تعصف باستقرار حكومته، بل والبلد كله. أدهشنى أكثر، أن المالكى بدا منزعجا ليس مما يدور فى العراق، وإنما من الأوضاع السياسية الغامضة، التى تلف أكثر من بلد عربى، وركز انزعاجه على ما يحدث فى مصر وسوريا، اللتين قال عنهما إن الوضع العربى كله مرهون باستقرار الأوضاع فيهما. بعد واقعة إصدار أمر باعتقال نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمى، عادت الأحداث الداخلية العراقية، لتفرض نفسها مجددا على الساحة العربية، المليئة أصلا بالمشاهد الساخنة، فقررت «القائمة العراقية»، التى ينتمى إليها الهاشمى، تعليق حضور نوابها جلسات البرلمان، ووقف مشاركة وزرائها فى جلسات حكومة المالكى، متهمة الأخير بتصعيد المواجهة معها، خصوصا بعد إقالته نائبه صالح المطلك، القيادى فى «القائمة العراقية»، وسحب صلاحيات اثنين من الوزراء الرئيسيين المنتمين إلى القائمة. هذا التصعيد، من الجانبين، جاء فى وقت كان يُفترض فيه أن يحتفل الشعب العراقى بالانسحاب الأمريكى من بلاده، لذا كان ذلك مدخلنا إلى الحوار مع رئيس الوزراء العراقى. «التحرير»: كيف ستتعاملون مع انسحاب نواب ووزراء «القائمة العراقية»، هل سيؤثر ذلك على إصدار التشريعات، وعلى متطلبات تسيير العمل فى الدولة؟ المالكى: أنا أطمئنك بأن انسحابهم لن يؤثر. نعم هو مشهد مؤسف، لكن هذا قرارهم. وعندما حدثت انسحابات مماثلة، من نواب ووزراء تابعين لبعض الكتل السياسية، الشيعية والسنية، من البرلمان والحكومة، إبان فترة حكومتى الأولى، كان العمل فى الدولة يسير بشكل أفضل، وتحققت إنجازات ملموسة، لأننا وقتها تخلصنا من المشاكسات، والتعطيل الذى كان يحدث من بعض الشركاء. أما بالنسبة إلى إصدار التشريعات، فلا يزال النصاب القانونى اللازم لاجتماع البرلمان موجودا. لكن المشكلة أن هؤلاء المقاطعين يذهبون إلى الشارع، ويحاولون التأثير على الشعب، وهم يتحدثون بصراحة عن أنهم يريدون تعبئة شارعهم، لأن الانتخابات قريبة. «التحرير»: لكن ذلك قد يؤدى إلى شلل الدولة؟ المالكى: الحكومة مستمرة فى عملها بشكل طبيعى، لكن هذا عمل يدل على عدم النضج. وإذا أردنا أن نفتح الملف، سنقول لهم: مَن وراء قرار الانسحاب من البرلمان، وتعطيل الحكومة؟. للأسف، القرار اتخذ فى دولة «مجهرية» «فى إشارة إلى قطر»، لا فى العراق، ولذلك لن نخضع لهذا القرار، وسيخسر هؤلاء الذين يراهنون، ويستقوون على بلدهم بالخارج. أنا لا أريد أن أتكلم بنفس طائفى، لكنهم «أى القائمة العراقية»، حصلوا على نحو 22% من أصوات الناخبين، وما تعاملنا معهم على أساس من يمثلون، ولا وفقا للنتائج، بدليل أن ما حصلوا عليه أكبر بكثير من تلك النسبة، فلديهم عشر وزارات، منها: المالية والتعليم والصناعة والزراعة، وعندهم رئاسة مجلس النواب، ونائب رئيس الجمهورية، ونائب رئيس الوزراء، أى مواقع مهمة فى الدولة. «التحرير»: لماذا، إذن، جاء التصعيد على الجانبين فى هذا التوقيت بالذات؟ المالكى: هناك أسباب كثيرة تدفعهم إلى هذا الموقف، أما أنا فلدى أسبابى. فعندما أجد أحد قيادييهم، وهو نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمى، متورط فى عمليات قتل واغتيالات، ولدينا اعترافات مثبتة لعدد من ضباط وعناصر حمايته وحراسته الخاصة، هل كان مطلوبا منى أن أخفيها؟ اكتشفنا أن تلك العناصر المسلحة مدعومة مباشرة منه «أى الهاشمى»، فهو يجتمع بهم، ويوجههم، ويسألهم: ماذا فعلتم؟ فيردون: قتلنا فلانا، واغتلنا فلانا، ودمرنا منطقة كذا، ثم يقوم بإعطائهم «إكرامية» على تلك العمليات، قيمتها 500 دولار لكل فرد. هل هذا يصلح شريكا فى العملية السياسية، وهو يوجه رجاله إلى قتل الناس؟ ليس هو فقط، وإنما هناك آخرون من قيادة «القائمة العراقية» متورطون أيضا، وسيأتى دورهم فى ما بعد، هل هؤلاء يصلحون شركاء، يستغلون مناصبهم ونفوذهم لتشجيع العمليات الإرهابية؟ أنا انفتحت عليهم، وأعطيت لهم ولأفراد حمايتهم، جميع التسهيلات والتصاريح اللازمة لدخول المنطقة الخضراء، ثم أخيرا اكتشفنا أن عناصر الحراسات الخاصة تلك دُربت فى دولة أخرى على مهاجمة مقرى الخاص. ملحوظة: المنطقة الخضراء هى المنطقة الآمنة فى العاصمة بغداد، وتضم مقرات مجلس الوزراء والنواب، وأغلب المؤسسات الحكومية المهمة، والسفارة الأمريكية. ورئيس الوزراء العراقى يقيم مع أسرته فى فيلا من طابقين، تقع فى جانب منعزل من المنطقة الخضراء، ويدير منها شؤون الدولة). يستأنف رئيس الوزراء العراقى حديثه، قائلا: بعض القوى، مع الأسف الشديد، عزّ وشق عليها أن تنسحب القوات الأمريكية فى زمن حكومة المالكى، فأثاروا أيضا قضية إعلان محافظة ديالى كإقليم، فى إطار مخطط «الفيدراليات»، وهى مقدمة لتقسيم العراق على أساس طائفى. والغريب أن محافظات: الأنبار وصلاح الدين وديالى «ذات الأغلبية السنية»، لم تصوّت للدستور العراقى، بسبب أن فيه نصا عن «الفيدراليات»، ثم فجأة وجدنا انقلابا كبيرا باتجاه الفيدراليات، من الذين كانوا يعارضونها بشدة. والحكومة المحلية فى ديالى، التى أعلنتها كإقليم فيدرالى، أغلبيتها من «القائمة العراقية»، وأنا شخصيا فوجئت بإثارة الموضوع، وكنت وقتها فى أمريكا، ومن دون مقدمات، وبالتزامن مع الانسحاب الأمريكى. القضية إذن هى عملية «امتصاص النصر»، وتحويل الأنظار عنه، فى الداخل والخارج، بعد أن أحدث القرار فتنة، وكاد يشعل حربا أهلية بين الأغلبية السنية فى المحافظة، وباقى سكانها من الشيعة والأكراد. «التحرير»: يعنى ذلك أنكم تعانون فى العراق من حكومات الشراكة؟ المالكى: صحيح، حكومات الشراكة متعبة، والعراق بالفعل يعانى منها، خصوصا إذا كان الشركاء متشاكسين، ويعطلون عمل الدولة، كما نحن عليه الآن، ولولا حكومات الشراكة لكنا انطلقنا انطلاقة سريعة. وثانيا: قضية الامتدادات، فنحن لا نريد شريكا لديه امتدادات لدولة أخرى، وعندما نكتشف أن شريكنا تحول إلى «موظف» تابع لهذه الدولة أو تلك، فهذا سيربكنا بالتأكيد، لأن الطرف الآخر سيبحث أيضا عن دولة يستقوى بها، إذن، أين العراق؟ العراق دولتنا، وعلاقة أى منا مع دولة ما، تكتسب قيمتها من كونها تصب فى مصلحة العراق، لا أن نكون تابعين لهذه الدولة أو تلك. ورغم أن «الشراكة» فيها تعب، وفيها مشكلات وتعطيل للعمل، لكنها ضرورية للعراق، فلولاها لما استطعنا أن نعبر الكثير من الخنادق، وحتى لا نعود مرة أخرى إلى أسلوب «التهميش». الآن العراق لا تهمش فيه أى فئة، وضعنا «خارطة الطريق» الخاصة بنا، وأجرينا الانتخابات، وأعطى كل طرف وكل «قائمة انتخابية» حقها، بموجب ما حصلت عليه فى الانتخابات. لذلك نرى فى رئاسة الجمهورية كرديا، ورئاسة الوزراء شيعيا، ورئيس البرلمان سنيا، والوزراء قسموا بنفس الطريقة. ليست عندنا مشكلة حقيقية، لكن البعض لا يريد أن يرضى بتلك الشراكة. «التحرير»: لكن هذه المحاصصة، وتقسيم الدولة على أساس طائفى، يثيران كثيرا من المشكلات، والأزمة الحالية مثال عليها؟ المالكى: بالتأكيد، ونحن أيضا نؤشر عليها بانتقادات، ونعانى منها، لكن ليس كل شىء ترفضه تقوم بإلغائه، فالأمر يحتاج إلى زمن، وإلى نضج، وهذا ما يخيفنا فى الدول الأخرى التى تمر بنفس التجربة، وهو أن تطل قضية الطائفية برأسها من جديد. أنا لا أقبل أن يستمر العمل فى الدولة على أساس طائفى، والانتخابات القادمة ستكون حاسمة، وسنعبر بها من «التخندق الطائفى». «التحرير»: لكن أنتم أنفسكم متهمون من معارضيكم بأنكم تنتهجون سياسات طائفية، كيف تردون على تلك الاتهامات؟ المالكى: الطائفى ينكشف أمره، عندما يغض النظر عن طائفته حين تسىء، ويفتح عينه على الطائفة الأخرى، حتى حينما تُحسن، ليقلل من شأن ما تنجزه. وبالنسبة إلى، فإن أول زيارة قمت بها بعد تولى منصب رئيس الوزراء كانت إلى السعودية، ولم تكن إلى إيران. وأول مواجهة لى كانت مع الشيعة، وليس مع السنة، قاتلت 11يوما فى البصرة ضد الشيعة، الذين كانت تدعمهم إيران، ثم قدت بنفسى مواجهة أخرى، فى مدينة كربلاء، قتل فيها 520 شخصا من الشيعة، بعد أن حاولوا اقتحام المزارات المقدسة والاعتداء على الأئمة الشيعة فى أثناء زيارة النصف من شعبان عام 2007. وأنا الذى حاصر ثلث سكان بغداد، فى «مدينة الصدر، وهم من الشيعة، أكثر من شهر، إلى أن سلموا أسلحتهم. وحدث مثل ذلك أيضا فى مدينة «العمارة» الشيعية. فى المقابل، لم أفعل أيًّا من ذلك مع مدينة سنية، بل دعمت أهل محافظة «الأنبار» السنية فى انتفاضاتهم ضد تنظيم «القاعدة»، وضاعفت حصة المحافظة من الشرطة، لدعم الأمن والاستقرار فيها، فضلا عن الدعم المالى والمادى. إذن، أريد أن أفهم أين هى الطائفية؟ لكن المشكلة تبرز عندما نلاحق المتهمين باغتيالات وتفجيرات، فأنا أعطيت تعليمات صارمة للأجهزة الأمنية، بأن لا يسألوا عن الانتماء المذهبى للمتهم أو المجرم، أيا كان، ويجب التعامل معه على أنه متهم بارتكاب جريمة. لكن السياسيين لدينا، سواء من السنة أو الشيعة، يصرخون بضرورة الإفراج عن المعتقلين، ويريدون أن يبنوا مجدا، حتى لو بالدفاع عن القتلة والمجرمين، ويعبئون الناس طائفيا، خصوصا السياسيين السنة، باتهامى بأننى أعتقل أبناءهم، ولا يقولون لهم إننى ضربت أيضا الخارجين عن القانون من الشيعة. لكن الحقيقة أن هناك بعض المنصفين من السنة لا يتحدثون بهذه اللغة. لذلك، أنا دائما أرد على هؤلاء المعارضين فى نقطتين، أقول لهم: أعطونى مخالفة واحدة خرجت بها على الدستور، وأعطونى موقفا واحدا تعاملت فيه طائفيا. وفى المقابل، أنا أعطيهم عشرات المخالفات الدستورية التى قاموا بها، ومئات التعاملات الطائفية. هم، للأسف، ليس عندهم سوى متابعة مفردات النجاح، ومحاولة إجهاض عمل الحكومة، لأن تلك النجاحات تسبب لهم «أزمة ثقة» مع أنصارهم. وأضرب لذلك مثالا، بحدث خروج القوات الأمريكية من العراق، وهو ليس هينا، فما خرج الأمريكيون من أى دولة دخلوها، سواء فى كوريا أو اليابان، وغيرهما، لكن نجحنا فى إقناعهم بالانسحاب الكامل، والالتزام بالجدول الزمنى المتفق عليه. ورغم ذلك، نجد حالة من الحزن الشديد انتابت البعض، خصوصا من قيادات سنية، الذين لا أحسبهم على السنة، الذين كانوا يقولون: هذا احتلال. وعندما أنهينا الاحتلال، وعملنا احتفالا بخروج الأمريكيين، ما حضر واحد منهم، حتى إن رئيس الجمهورية جلال الطالبانى، قال: لو كنا فى هذا الاحتفال نريد أن نأتى بالاحتلال، وغابوا عنه، لكنا قلنا إنهم وطنيون، ولا يريدون قوات أجنبية فى بلدهم، لكنهم قاطعوا الاحتفال، وكأنهم حزانى لخروج القوات الأمريكية.