ثمة نوع من البشر يجمع المعارف المختلفة ويحتفظ بها فى ذاكرته كأجهزة الكمبيوتر، وغيرها من الأجهزة التى يمكن أن تخزن المعلومات والبيانات والأفكار، دون أن يتغير إلى الأفضل، ودون حتى أن ينتقل بهذه المعارف خطوة واحدة إلى الأمام، وكذلك ثمة من يهضم المعارف والثقافات والفنون والآداب جميعا بداخله، وفى النهاية يقدم لنا، من خلال فنه وإبداعه، خلاصة الحكمة الإنسانية فى كلمات بسيطة وجميلة وواضحة. وهكذا فعل نجيب محفوظ. إذ لم يكتف الأستاذ بدراسته الأكاديمية للفلسفة فى الجامعة، وإنما استمر لمدة عامين يُعد رسالة ماجستير فى الفلسفة الإسلامية، تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق. ثم بعدما اختار فن القصة والرواية، وخصص جل وقته للأدب، حرص -طوال حياته- على متابعة ما يصدر من دراسات فى الفلسفة، وكتب فى التصوف. فلم تنقطع صلة الأستاذ بالفلسفة قط، ما بين دراسة وقراءة وبحث وتأمل. صحيح هو لم يصدر كتبا متخصصة فى الدراسات الفلسفية، ولكن قصصه ورواياته ومقالاته تبدو فيها جميعا نزعته الفلسفية ورؤيته الصوفية. وقد تحدثت مع الأستاذ مرات عدة عن الشيخ مصطفى عبد الرازق، أول أستاذ مصرى للفلسفة الإسلامية، كذلك تحدثت معه عن بعض كتب زميل دراسته الدكتور توفيق الطويل، الذى خصص دراساته وأبحاثه الفلسفية فى علم الأخلاق. وكذلك تحدثنا طويلا حول كتب الدكتور زكى نجيب محمود ومقالاته الأدبية، وقد كان صديقا للأستاذ، حيث كان يتم بينهما لقاء أسبوعى، كل يوم خميس، فى مكتب توفيق الحكيم بصحيفة «الأهرام». ومن أساتذة الفلسفة الذين تتلمذ عليهم الأستاذ نجيب، الدكتور منصور باشا فهمى، وقد توقف الأستاذ عند شخصيته المتميزة، وسجلها بطريقة أدبية وإنسانية فى عمله البديع «المرايا». وأتذكر حواراتى الممتدة مع الأستاذ عن أبى حامد الغزالى «450 – 505 ه». فعلى مدى أكثر من خمس سنوات، كنت أكتب أطروحة علمية عن فلسفة الغزالى وتصوفه، وكنت حينئذ ألتقى الأستاذ أربعة أيام فى الأسبوع، وقد تناقشت معه كثيرا فى دقائق فلسفة الغزالى، وجوانب رؤيته الصوفية. وفى إحدى مناقشاتنا قال لى إن الغزالى أشار إلى عيب عجيب من عيوب البشر، وهو أنهم يتفاخرون بأى شىء، بما فى ذلك التفاخر بما يشين الأسوياء من الناس، بمعنى التفاخر بالمثالب والعيوب! كما يتفاخر -مثلا- أهل الشراب، بالكميات الكبيرة التى يمكن أن يشربوها، ويتفاخر أصحاب العلاقات غير الشرعية بتعددها وكثرتها، وغير ذلك من المفاخر المشينة، التى تدل على عيوب خطيرة فى طريقة التفكير، وفى النظر إلى الأمور. وقد شعرت بفرح ودهشة وأنا أستمع لكلمات الأستاذ عن حجة الإسلام، إذ كيف التقط من كتب الغزالى هذا المعنى الدقيق، واحتفظ به فى داخله كل هذه العقود من الزمن! وكقارئ لأعمال نجيب محفوظ أرى أن نزعته الفلسفية، ونظرته المصبوغة بغلالة شفافة من الروحانية الصافية، كانتا لهما أعظم الأثر على خلود إبداعه العظيم.