بعدما تخرج نجيب محفوظ فى كلية الآداب عمل موظفا فى إدارة الجامعة، وقد حكى لى الأستاذ عن هذه الفترة المهمة من فترات حياته الثرية باعتبارها فترة صراع داخلى عنيف بين حبه الشديد للأدب ورغبته القوية فى استكمال دراسته العليا فى الفلسفة الإسلامية. فقد بدأ عمله فى إدارة الجامعة كموظفا حكوميا فى بداية السلم الوظيفى، فكيف كانت نظرة زملائه إليه؟ إذ إن معظم الموظفين، فى ذلك الوقت، كانوا أكبر منه سنا، ولم يحصلوا على أى شهادات جامعية، فبعضهم كان حاصلا على شهادة الابتدائية، وبعضهم حاصل على شهادة الثانوية (التوجيهية)، ومن ثَم فقد كان نجيب محفوظ متميزا بينهم، مما كان يدفعهم إلى السخرية منه ومن شهادته الجامعية، خصوصا أنها درجة علمية عليا فى الدراسات الفلسفية، وقد أطلقواعليه لقب «أرسطو»! بينما نجيب محفوظ لم ينظر إلى زملائه هؤلاء، نظرة متعالية على الإطلاق، فهم أكبر منه سنا بكثير، وأكثر خبرة بطبيعة العمل فى الجامعة، فكان يعاملهم برقى واحترام، كما يعامل الناس جميعا. وقد استمر نجيب محفوظ لمدة عامين، من سنة 1934م حتى سنة 1936م، يدرس ويحضّر لدرجة الماجستير فى الفلسفة الإسلامية، تحت إشراف أستاذه الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق. ولا يمكن أن أمر هنا سريعا، دون أن أتوقف ولو قليلا أمام شخصية الشيخ مصطفى عبد الرازق، أول من درّس الفلسفة الإسلامية فى الجامعة المصرية، فهو الأب الروحى لكل أساتذة الفلسفة الإسلامية فى مصر والعالم العربى، ولقد تعلمت -شخصيا- الكثير من أبحاثه العلمية ودراساته الفلسفية وكتبه الأدبية ونزعته الإصلاحية على المستوى الفكرى والاجتماعى والسياسى، ومما سمعته وقرأته عن مواقفه الإنسانية الكريمة مع طلابه و زملائه، بل ومع الناس جميعا. ويُذكر له مواقف كثيرة فى غاية الكرم مع عدد كبير من الناس، ومنهم عائلة سيدة الغناء العربى أم كلثوم فى بداية حياتها، وعند حضورها إلى القاهرة مع أبيها وأفراد أسرتها. وقد قال لى الأستاذ نجيب عن الشيخ مصطفى عبدالرازق: «إنه أنبل إنسان رأيته فى حياتى» وهذه الكلمات القليلة تعد شهادة مهمة من كاتبنا العظيم عن شيخنا العظيم، فقد قام الإمام الأكبر بدور رائع فى تاريخنا العلمى، والفكرى، والثقافى، والسياسى سواء فى الحياة العامة أو فى الجامعة المصرية أو فى الأزهر الشريف. وقد حكى لنا الأستاذ حكاية تعبر عن معنى جميل فى شخصية الشيخ الأكبر، فبعدما درس نجيب محفوظ على يدى الشيخ نحو ثلاث سنوات، إذا به فى إحدى محاضراته فى الجامعة وهو يشرح أمرا متعلقا بالشريعة الإسلامية، يقول لطلابه إنه يشرح بإسهاب وتفصيل من أجل زميلهم نجيب محفوظ، فقد كان يظن أنه مسيحى، فنبهه الطلاب إلى أن نجيب محفوظ مسلم. فلم تتغير معاملة الشيخ معه سواء وهو يظنه مسيحيا، أو بعد أن عرف أنه مسلم.