تركت عرابى، قبل أن أتوجه إلى الصخرتين الشهيرتين (صخرة دامبولا وصخرة سيجيريا) والقريبتين من كاندى، يضرب أخماسا فى أسداس وقد أبرق له صديقه الصدوق، ويلفريد بلنت، من لندن يهنئه بنبأ العفو عنه وإمكانية رجوعه إلى مصر متى شاء. فكيف سيعود؟ وكيف سيوفر تكاليف الرجوع الغالية، حيث يستغرق السفر بالسفينة أياما طويلة وتكاليف طائلة؟ فقد كان عرابى، كما نعرف من عدد من صحبوه فى رحلة عودته إلى مصر، وعددهم 29 شخصا، مسؤولا عن بيت كبير يعج بالزوجات والأبناء والبنات والخدم والحشم. وكانت علاوته الشهرية تكفى بالكاد للإنفاق عليهم، والقيام بواجبات الضيافة، التى قلّت فى كاندى عما كانت عليه فى كولومبو، ولكنها لم تتوقف أبدا. فقد ظل عرابى رغم امتداد إقامته فى الجزيرة لثمانية عشر عاما محط اهتمام أهلها وزوارها، خصوصا من الأجانب. فلم يتوقف تدفق الأجانب عليه لزيارته، سواء أكانوا أصدقاء أوفياء من الإنجليز مثل بلنت، أو الأيرلنديين مثل السير وليام جريجورى وزوجته الليدى جريجورى الشهيرة، أو زوارا غرباء من المتنفذين الذين كان آخرهم دوق كورنويل، أو غيرهم ممن يهلون عليه لزيارته تقديرا لأهميته التاريخية، طوال فترة إقامته فى الجزيرة. أما أعيان مسلمى الجزيرة ووجهاؤها من غير المسلمين فإنهم لم يتوقفوا أبدا عن زيارته طوال سنوات إقامته. فقد كانوا يستشيرونه فى كثير من أمور حياتهم السياسية. بصورة أستطيع معها القول، بأن عرابى على العكس من البارودى لم يشك أبدا من الوحدة والوحشة، بل كانت معظم شكواه من كثرة المتطفلين عليه، وضيق ذات اليد الذى يحول بينه كشرقاوى كريم واستضافتهم بصورة لائقة به وبتصورهم عنه. فقد تماهى مسلمو الجزيرة مع عرابى منذ وفوده إلى جزيرتهم. واستقبلوه استقبال الأبطال الفاتحين وقد سبقته شهرته فى التصدى للمستعمر الذى أذاقهم الهوان. فقد كانوا فى حاجة إلى بطل يتماهون معه، ويرد لهم شيئا مما كان لهم من مكانة قديمة قبل وفود الاستعمار الأوروبى إلى الجزيرة. مكانة تمتعوا بها لقرون بسبب سيطرتهم على تجارتى التوابل والحرير، ولكنهم سرعان ما فقدوها بعد المد الاستعمارى الشرس لحساب من اعتنق المسيحية من السنهاليين، ويسر للأوربيين انتزاع مفاتيح التجارة والثروة منهم. لذلك حرصوا من البداية على الترحيب به، وخرجوا إلى الميناء لاستقباله. كما سعى وجهاؤهم إلى استضافته وإقامة الموائد على شرفه. بصورة لم يسبق أن تعاملوا بها مع غيره من قبل، ولا حتى من بعد كما تقول كثير من المصادر التى تتبعت حياته بينهم. وقد اعتبره مجتمع المسلمين فى الجزيرة القدوة التى عليهم احتذاءها فى كل شىء: فى الملبس والمأكل والمشرب، وفى تصريف كل شؤون حياتهم، وأهم من هذا كله فى تعليم أبنائهم. قلدوه فى الملبس، وتبنوا الطربوش الذى كان يلبسه والبنطلونات أو السراويل الأوروبية التى لم يكونوا يرتدونها من قبل، والتى تبنوها لأنها تميزهم عن غيرهم من أهل الجزيرة. وبعدما استهجنوا فى بادئ الأمر إرساله أبناءه إلى مدرسة إنجليزية، أنشؤوا بإشرافه التعليم الذى يجمع بين العربية والإنجليزية، وينهض بهم من وهاد تخلفهم، ومن قوقعة انحصارهم فى اللغة الثانية للجزيرة وهى التاميل، والذى كان عرابى نفسه فى حاجة إليه لتعليم أبنائه. والتعليم كما يقول تعبير إنجليزى شهير «Is the Engine of Social Mobility» هو ماكينة الحراك الاجتماعى والسياسى على السواء، لأن تأسيس عرابى للكلية الزاهرة، ونظامها التعليمى الجديد الذى يجمع بين لغة المستعمر ولغة الإسلام التى تحافظ لهم على خصوصيتهم وتحمى هويتهم، كان له دور كبير فى تغيير حال مسلمى الجزيرة، ووضعهم على خريطة الواقع السياسى فيها، بصورة أصبح التاميل، رغم أنهم أكثر منهم عددا يحسدونهم عليها. كما كان عرابى أيضا فى حاجة إليهم، وقد وصل الجزيرة وهو فى سمت كهولته وشرخ عطائه، فى الثانية والأربعين من عمره. وقد حرّمت الإدارة الإنجليزية عليه وعلى كل رفاقه العمل، مهما كان نوع هذا العمل. متعللين كذبا وافتراء بأن هذا التحريم هو أحد شروط النفى، أو بالأحرى هو الشرط الذى وضعوه لاستضافته فى الجزيرة. فأين يا ترى يوجه العرابيون طاقتهم؟ وفى أى شىء يصرفون وقتهم؟ وحتى عندما طلب عرابى من حاكم الجزيرة السماح له بتأسيس مزرعة للبن، فلم يكن فى حاجة إلى منافسة الإنجليز فى مزارع الشاى التى استأثروا بها، وكان كجل المصريين وقتها من المغرمين بشرب القهوة لا الشاى. حيث تشير الكثير من المصادر إلى دوره فى إدخال القهوة وزراعة البن إلى الجزيرة، ولكن الإدارة البريطانية رفضت السماح له بذلك. هنا أقبل عرابى بكل طاقته على الدور الوحيد المتاح له، والذى حرمه الاستعمار الإنجليزى من القيام به فى وطنه، أى دور الزعيم الوطنى الذى ينهض بأحوال شعبه ويوجهه إلى التقدم والرقى. وقد وجد عرابى فى مسلمى الجزيرة شعبا بديلا إن صح التعبير، أكثر احتفاء به من شعبه المصرى الحقيقى الذى عمل على تحريره من الاستبداد التركى، وأحرص على الإنصات لأفكاره فى الإصلاح والتقدم، وأكثر استعدادا لتبنى كل ما يقترحه عليهم من رؤى وتصورات، كانوا بحق فى حاجة ماسة إليها بعد قرون من الاضطهاد والهوان كأحد أكبر الأقليات التى هبطت بها المقادير الاستعمارية من قمة الثراء والسلطة إلى حضيض النبذ والهوان. وكان عرابى أيضا قد تعلم كثيرا من دروس تجربته القاسية فى مصر، والتى أمضته استقطاباتها المريرة، ناهيك بخياناتها البشعة على أيدى الأعيان والمثقفين على السواء. وتعلم كيف يكون أقل مواجهة مع خصومه، وأكثر مراوغة للوصول إلى هدفه. وقد مكنه وضعه الجديد كمستشار متميز لمسلمى الجزيرة، دون أن يكون واحدا منهم، من أن يلعب هذا الدور السياسى المغاير لذلك الذى كان عليه أن يلعبه فى مصر، ووطنه مهدد بالاحتلال. يقول بلنت عن أحمد عرابى «إن عرابى لسوء حظ الحرية لم يكن رجلا قويا، وإنما كان ذا أمانى إنسانية كبرى ومطامح نبيلة، وكان فى خلقه شىء من العناد والتشبث بالرأى، والرغبة فى تحقيقه. لا يعرف فنون الدبلوماسية أو المساومات السياسية. وكان يجهل أوروبا جهلا تاما، ويجهل أيضا طرق وأساليب السياسة الغربية». لكن هذا الرأى الذى كتبه بلنت عنه فى نهاية أحداث الثورة العرابية، لا بد وأنه تغير مع نهاية فترة النفى التى تعلم فيها كثيرا، وانضجته فيها المحن. بعد أن تحولت الجزيرة من مجرد منفى مؤقت بالنسبة إليه، إلى مكان للإقامة الطويلة الرخية التى امتدت لثمانية عشر عاما. فبالإضافة إلى عروسه المصرية الجديدة التى جاء بها معه من مصر وكان عمرها وقتها سبعة عشر ربيعا، بعدما رفضت زوجته الأولى والتى زوجه إياها الخديو إسماعيل واختارها له من حريم القصر بعدما رقاه إلى رتبة باشا مغادرة مصر معه إلى المنفى. تزوج عرابى أكثر من مرة من نساء الجزيرة، كما تزوج منها ابناه، لأنه حينما عاد لمصر عاد بزوجات أربع. كما صادق كثيرين من رجال الجزيرة، وأصبح ليس واحدا منهم فحسب وقد ناسب كثيرين منهم، وإنما زعيما روحيا إن لم يكن سياسيا لهم. فقد كان هو الذى صاغ لأهل الجزيرة شعارهم الأثير «سيلان للسيلانيين» على وزن شعار زمنه الشهير «مصر للمصريين» الذى صكه أديب إسحق وسليم النقاش وجعلاه عنوانا ثانويا لجريدتهم الشهيرة «المحروسة». ولا يزال كثير من أهل الجزيرة يذكرون له ذلك حتى اليوم. ويعترفون بامتنان بأهمية هذا الشعار فى نهضتهم وفى توحدهم للتحرر من الاستعمار. فلعرابى دون شك دور مهم فى النهوض بمسلمى الجزيرة بعد عصور من التدهور والانحطاط. وقد وجد فى سيدى لبّة، أحد أكثر المسلمين استنارة فى الجزيرة، غايته فى تحقيق كثير من أهدافه الإصلاحية والتحديثية الطموحة. وقد أشرنا من قبل إلى دور عرابى المهم مع سيدى لبّة فى تأسيس المدرسة الشهيرة المعروفة باسم «الكلية الزاهرة»، وفى جعلها حجر الأساس لنظام تعليمى كامل وجديد، ورؤية تربوية وثقافية متفردة حرص على اعتراف الدولة بها وتمويلها لها، لذلك بقيت آثارها حتى الآن. وأصبحت «الكلية الزاهرة»، التى صك اسمها عرابى نفسه، وربطها بالأزهر الذى لا يزال يدفع مرتبات أربعة من مدرسيها للعربية والدين الإسلامى حتى الآن، علامة تجارية مميزة على هذا النظام التعليمى الجديد الذى يرجع إليه فضل النهوض بمسلمى الجزيرة وتحديثهم، بعد أن فاتهم قطار التحديث الذى اقتصر منذ بدايات القرن التاسع عشر على أغلبية السكان من السنهاليين البوذيين، وممن اعتنقوا المسيحية منهم. وما إن حان عام 1900، وقبل مغادرة عرابى لسيلان بعام واحد حتى كانت هناك أربعة مدارس إسلامية للبنين مسجلة مع الحكومة ومعترف بها وممولة نسبيا منها. وثلاث للبنات! ولا شىء أفعل من التعليم فى النهوض بأى مجتمع، لذلك استخدمه عرابى لجمع شمل المسلمين وترقية أفكارهم والنهوض بهم. ولم يقتصر دور عرابى على التعليم، بل كان له دور كبير فى تمثيلهم فى مجلس الحكم بسيلان، وفى مجالس المدن المختلفة فى الوقت الذى عانى فيه التاميل من غياب التمثيل، رغم أنهم يفوقون المسلمين عددا. بل وزعم كثيرون من معارضى تمثيل التاميل فى المجلس بأن المسلمين هم فى حقيقية الأمر تاميل اعتنقوا الإسلام. وكان هناك جدل طويل حول أصل المسلمين العرقى فى سيلان، غيرة مما حققوه بإلهام من عرابى باشا. لذلك كان فى الوقت نفسه موضع مراقبة الشرطة الإنجليزية لمتابعة تأثيره على مسلمى سيلان ومشاعر سكانها الوطنية من السنهاليين أيضا. فلم يكن الإنجليز يريدون لمثل تلك المشاعر أن تتبلور، ناهيك بأن تتفشى بين سكان الجزيرة، ويظهر لها أثرها الواضح فى النهوض بشرائح معينة منهم. صحيح أن من شيم الإنجليز وسياساتهم المراوغة فى الحكم استخدام الفروق الدينية والعرقية لتحقيق سياساتهم فى تفريق خصومهم، وزرع بذور الشقاق بينهم (ولم يقصروا فى فعل ذلك بين الباشوات السبعة فى الجزيرة كما سلف)، كى لا يتوحدوا ضدهم وفق شعارهم الشهير «فرّق تسد»، أو «فرّق تحكم» Divide and Rule. لكن اهتمام عرابى بأهل الجزيرة وتأثيره عليهم لم يصب فى صالح مثل هذا الشعار، وإنما وحدهم وراء الشعار الأعرض «سيلان للسيلانيين»، والذى أصبح فى ما بعد، وعلى المدى الطويل، وبالا على الاحتلال الإنجليزى للجزيرة، لذلك كان ثمة ارتياح ما لدى الإدارة الإنجليزية فى الجزيرة لصدور قرار العفو عن عرابى والسماح له بمغادرتها. صحيح أن عرابى كان حينما جاء هذا القرار فى مايو عام 1901 قد تجاوز الستين من العمر، لكنه تأثيره على مسلمى الجزيرة ومواطنيها ممن ينشدون الحرية لم يهن. وإن وهن العظم منه كما قال لمراسل صحيفة «التايمز» السيلانية: «أنا الآن رجل عجوز فى الواحدة والستين من العمر تقريبا. وكل ما أطلبه هو أن يسمح لى بالموت فى وطنى العزيز، وبأن أدفن فيه كى تستريح عظامى فى ترابه بسلام». (راجع صحيفة Ceylon Times of 25 May 1901) هل استدعى كاتب خطاب مبارك الأخير هذه المقولة العرابية؟! المهم أنه وعلى العكس من على فهمى الذى جاء قرار العفو عنه مع قرار عرابى، فسارع بمغادرة الجزيرة، لم يستطع عرابى أن يغادرها مثله على الفور، لأنه ما إن انتشر الخبر فى كاندى أولا حتى توالت عليه دعوات حفلات توديعه، والتى استغرقت عدة شهور. وكان عليه أن يجد الأموال الكافية لتغطية نفقات رحلة أهل بيته كلهم معه، لأن عرابى الذى جاء إلى الجزيرة ومعه ستة أشخاص (محمد: ولده، وإبراهيم: ولده، وحرمه الجديدة الصغيرة، وعلى عبد الله الطوخى، ومحمد بن أحمد قريش، ومحمد سليمان: خدمه) عاد منها ومعه 29 شخصا (أربع زوجات، وتسعة أبناء، وست بنات، وابن عم/ أو خال ما، وأربع نساء سنهاليات من الخدم، وخمس خدم آخرين من الرجال). ولم أجد كثيرا من المصادر التى تكشف عن كيفية حصول عرابى على الأموال اللازمة لتغطية نفقات رحلة هذا العدد الكبير من المصاحبين له، لكنى وجدت كثيرا عن الحفلات العديدة التى أقيمت لتوديعه فى كل من كاندى وكولومبو. فقد أنفق عرابى الشهور الخمسة الممتدة من تسلمه برقية بلنت التى تهنئه بخبر العفو عنه فى مايو، وإقلاعه من سيلان على متن الباخرة «الأميرة أيرين Princess Irene» التى غادرتها فى الثالثة والنصف ظهر 19 سبتمبر عام 1901، متنقلا بين كاندى وكولومبو، ومن حفلة توديع إلى أخرى. وكانت أولى تلك الحفلات بالطبع هى حفلة العشاء/ التوديع التى نظمتها على شرفه «الكلية الزاهرة»، له ولأسرته فى كاندى. ثم جاءت بعدها عدة حفلات مماثلة فى فى كاندى أيضا ثم فى كولومبو، نظمها له وعلى شرفه مجموعة من أصدقائه المتعددين فيها. فقد سافر عرابى فى شهر يوليو، ومع بداية موسم الأمطار، وزحام الاحتفالات السنوية فى معبد السن المقدسة الذهبى فى كاندى، إلى كولومبو لحضور عدد من الاحتفالات التوديعية التى كانت تنظم على شرفه كل أسبوع تقريبا. واستمر الحال على هذا المنوال طوال شهر أغسطس الذى كان ينظم فيه عملية تصفية بيته فى كاندى وتجهيز أسرته للرحيل. وما إن تقرر أن يسافر فى شهر سبتمبر، وكان قد استطاع التغلب على كل ما واجهه من صعوبات مالية، وحزم حقائبه، وحجز للسفر على إحدى البواخر التى تغادر كولومبو فى 19 سبتمبر، متجهة إلى بريطانيا وعابرة لقناة السويس، حتى انتقل فى النصف الثانى من أغسطس مع أسرته إلى كولومبو، بناء على إلحاح كثيرين من أصدقائه هناك. وقد استضافه فيها حتى موعد الرحيل صديقه الموسر، وأحد أعيان مسلمى سيلان وقتها، كريمجى جعفرجى Careemje Jafferjee التى خصص له أحد ممتلكاته للإقامة فيها وهى فيلا إيساى Villa Essai. فى هذه الفيلا جاءه المصور الإنجليزى الشهير تشارلز كير Charles H. Kerr وصوره عدة صور من بينها تلك الصورة المهمة، وهى أبرز صور عرابى التى لدينا والتى تتصدر هذه المقالات. وعلى امتداد أكثر من شهر كانت إقامته فى كاندى حفلا توديعيا متواصلا. يزور فى الصباح مدرسة ما وينهى اليوم بحضور مأدبة عشاء على شرفه فى بيت أحد أعيان المسلمين أو أحد السياسيين السيلانيين الوطنيين الكبار. ففى يوم ما ذهب فى الصباح إلى مدرسة المادرو ساثول حاميديا «Al-Madro Sathul Hameediya School» والتى تقع فى شارع العرب الجديد «New Moor Street» فى كولومبو. حيث اصطف تلاميذ المدرسة فى استقباله على امتداد الشارع المؤدى إليها يحيونه، وما إن وصل إلى المدرسة حتى صدح ثمانية منهم بنشيد ألفوه خصيصا باللغة العربية من أجله. ثم قدموه له فى نهاية الزيارة تذكارا على تلك المناسبة التاريخية، مناسبة تشريفه لمدرستهم، لكن أهم تلك الزيارات الصباحية جميعا كانت بلا شك زيارته ل«الكلية الزاهرة» فى كولومبو، وهى الكلية التى أسسها قبل مغادرته المدينة للإقامة فى كاندى، وحفل التوديع الذى نظمته له. وتقع هذه الكلية الآن فى الشارع الذى سمى على اسمه فى منطقة مارادانا عام 1983 احتفالا بمرور قرن على وصوله إلى الجزيرة «Orabi Pasha Street». وها هى صورة النشيد الذى كتب خصيصا لهذه المناسبة، بالخط العربى المشكول، والنطق المكتوب أمامه بالحروف اللاتينية. يقول النشيد: بحمدك يا بارئ العالمين * وأنت الرحيم وأنت المعين وإيّاك نعبد فى كل حين * وإيّاك يا ربنا نستعين إذا الصبح أهدى إلينا سنا * عرفنا بشمسك نور الحيا بجدواك نحيا وأنت الإله * تعاليت يا أرحم الراحمين فبارك سرنديب فى علمها * ومعهد آدابها الزاهرة وعال على الدهر ذكر اسمها * وأحسن لأبنائها الآخرة كما كانت أهم المآدب المسائية وأكثرها زحاما بجمهور عريض هى تلك التى أقيمت مساء 14 سبتمبر، وقبل مغادرته بعدة أيام اعترافا بفضله على سكان الجزيرة كلها، هى التى نظمتها له المدينة فى القاعة العامة «Public Hall» فى كولومبو، والتى حضرها كل وجهاء المسلمين، وعدد كبير من سياسيى المدينة وممثلى مجلس مدينتها. وقد تحولت تلك الأمسية إلى سيل من الخطب التى تعترف له بالفضل والامتنان حتى دمعت عيناه. وكانت كل تلك الاحتفالات تنتهى كالعادة بكلمة جميلة يعبر فيها عرابى بدوره عن امتنانه لمنظمى الحفل خاصة، ولسكان الجزيرة عامة. ولا تزال كثير من مصادر تلك الفترة التاريخية تعتز بثناء عرابى على الجزيرة، وعلى حسن ضيافتها له ولصحبه من ثوار مصر. وفى يوم مغادرته وهو يوم 19 سبتمبر، زار المكان الذى يعمل فيه مضيفه كريمجى فى بيتا «Pettah» حيث قوبل بترحاب شديد، وقلده الحضور وشاحا كبيرا من الزهور، وقدمت له باقة من الورود. وما إن انتصف النهار حتى ركب الباخرة «الأميرة أيرين» ابنه محمد وأفراد العائلة. وبعدها أقبلت إلى رصيف الميناء عربة يجرها حصانان، وعلى متنها عرابى باشا الموشح بالورود. وكان هناك على رصيف الميناء أكثر من 500 من المودعين الذين كانوا يحيونه ويلقون عليه الزهور. وكانت هناك فرقة من المغنيات المسلمات اللواتى كن يغنين له أغانى وداعية. ثم أقله قارب موشح هو الآخر بالزهور إلى السفينة التى كانت راسية عن بعد فى الميناء، ومئات الأيادى تلوّح له. فكيف سيكون استقباله فى مصر بعد هذا الوداع الجميل؟ هذا ما سوف نتعرف عليه فى مقال قادم.