مجلس النواب يوافق على استقالة عبد الهادي القصبي ويعلن خلو مقعده    حلقات ذكر ومديح وانشاد في الليلة الختامية لمولد "السيد البدوي" بمدينة طنطا    النواب يوافق على تأجيل تطبيق قانون الإجراءات الجنائية الجديد لمدة عام    جامعة بني سويف في المركز السابع محليًا وال99 عربيًا بتصنيف «QS» العالمي    العنف ضد المرأة وآثاره النفسية والاجتماعية في ندوة بكلية التمريض جامعة بنها    استقرار وانخفاض طفيف في أسعار الحديد بأسواق المنيا اليوم الخميس 16 أكتوبر 2025    أسعار الذهب الآن في مصر ب الجنيه المصري    وزير الخارجية يلتقي رئيس مجموعة شركات Sun الهندية    «النواب» يحيل 9 اتفاقيات دولية و5 مشروعات قوانين من الحكومة إلى اللجان المختصة    نائب محافظ القاهرة يتابع إجراءات التصالح على مخالفات البناء بحي الأميرية ويوجه بسرعة البت فيها    إسرائيل: موعد فتح معبر رفح أمام حركة الأشخاص سيتم الإعلان عنه في وقت لاحق    رئيس مجلس النواب: قمة شرم الشيخ أكدت ريادة مصر كجسر للسلام    ب«زاد العزة» ال51.. الهلال الأحمر يدفع ب10 آلاف طن مساعدات إغاثية عاجلة إلى غزة (تفاصيل)    "إكسترا نيوز" تكشف تفاصيل دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة    حصاد زيارة الشرع لروسيا.. ومصير الأسد في يد بوتين    بعثة الأهلي تغادر مطار القاهرة إلى بوروندي استعدادًا لمواجهة إيجل نوار في دوري أبطال إفريقيا    «رجال يد الأهلي» يتحفز لتخطي «البوليس الرواندي» في بطولة أفريقيا    صفقة تبادلية بين الزمالك وبيراميدز؟ شوبير يكشف الحقيقة    اعرف حالة الطقس اليوم الخميس 16-10-2025 في بني سويف    ضبط 4 تجار مخدرات بحوزتهم هيروين وحشيش في حملة أمنية موسعة بشبرا    ضبط شخصين بتهمة استخدام أحد التطبيقات الهاتفية للترويج لممارسة أعمال الفجور بالجيزة    صدر الآن| قرار جمهوري من الرئيس السيسي والجريدة الرسمية تنشره    ب8 ملايين جنيه.. «الداخلية» توجه ضربات أمنية ل«مافيا الاتجار بالدولار» في المحافظات    ضبط 11 طن دقيق «مدعم وحر» في حملات تموينية على الأسواق    بعد توقف 7 سنوات.. انطلاق الدورة الرابعة من معرض الأقصر للكتاب    الفيلم العراقي كعكة الرئيس يفوز بجائزة مهرجان هامبتونز الأمريكي    مجلس الوزراء يكشف اللمسات الأخيرة قبل افتتاح المتحف المصري الكبير    الصور الأولى من تحضيرات غادة عبد الرازق لمسلسل "عاليا" مع محمد رياض وصبري فواز    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 16اكتوبر 2025 فى محافظة المنيا    شوقي علام: سأنضم للجنة الشئون الدينية بالشيوخ لمواصلة الجهد الوطني في مجال الدعوة    الصحة تنصح بتلقي لقاح الإنفلونزا سنويًا    وزير الصحة يبحث مع نظيره السعودي تعزيز التعاون الصحي المشترك وتوطين الصناعات الدوائية    الهرم الغذائي السليم.. استشاري تغذية يوضح مفهوم الغذاء المستدام    فنزويلا تدين العمليات السرية الأمريكية: انتهاك للقانون الدولي    شبكة بريطانية تحذر منتخبات كأس العالم 2026 من ثنائية محمد صلاح ومرموش    سياسي ألماني: نزع سلاح حماس شرط أساسي لتحقيق السلام في غزة    محافظ الجيزة يتابع استعدادات انطلاق المهرجان الدولي الثامن للتمور المصرية بالواحات البحرية    رئيس الوزراء يصدر قرارًا بإسقاط الجنسية المصرية عن 4 أشخاص    وزير المالية يزف أخبارًا سعيدة للمستثمرين لتخفيف الأعباء | فيديو    السيطرة على حريق نشب فى بدروم بقنا    سعد شلبي: لا ديون على الأهلي ونسعى لفرع جديد.. ونستهدف عقود الرعاة بالدولار    الصحة: فحص 19.5 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    أغذية الشتاء الذهبية.. 10 أطعمة تمنحك الطاقة والمناعة والدفء    «الري»: مشروع مشترك بين مصر والأردن وتونس والمغرب لتحلية المياه لإنتاج الغذاء    كوريا الجنوبية.. عودة خدمة "يوتيوب" للعمل بشكل طبيعي بعد انقطاع مؤقت    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 16كتوبر 2025    تجهيزات مسرح النافورة لفعاليات مهرجان «الموسيقى العربية» ال33    محسن صالح: شخصية الخطيب ستتغير في الولاية المقبلة للأهلي    في العمرة.. سهر الصايغ تشارك جمهورها أحدث ظهور لها أمام الكعبة    دوري المحترفين.. «وي» يواجه الترسانة في الجولة التاسعة    ننشر أسماء مرشحي انتخابات النواب 2025 بالفيوم بعد غلق باب الترشح    مشكلة الميراث    بعض المهام المتأخرة تراكمت عليك.. حظ برج الدلو اليوم 16 أكتوبر    أسعار التذاكر بعد حفل افتتاح المتحف المصري الكبير    أوسكار يجتمع مع حكام تقنية الفيديو بعد عودته من تشيلي    أحمد الجندي: هدفي ذهبية أولمبياد لوس أنجلوس.. وظروف طارئة منعتني من التواجد بقائمة أسامة أبوزيد في نادي الشمس    .. ورضي الله عن أعمال الصالحين الطيبين لاغير    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 15-10-2025 في محافظة الأقصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلنت وكرومر.. وتردد الإنجليز الحذر إزاء عودة عرابى
نشر في التحرير يوم 12 - 04 - 2014

بعد أن ترك محمود سامى البارودى كاندى عائدا إلى مصر فى يوليو 1899، لم يبق بها سوى أحمد عرابى وعلى فهمى ينتظران أمر العفو عنهما والرجوع إلى مصر. وهو أمر طال انتظاره بحق، فقد مرّ عام 1900 كله دون أن يسمع أى منهما خبرا عن إمكانية عودته إلى مصر. وكان مرور أكثر من عام ونصف على رحيل البارودى دون أى خبر عن نبوءته الملهمة بأن يتبعه الآخرون سببا فى المزيد من الغم والحزن. لكن عرابى فى ما يبدو كان يتحمل مصيره بجلد وكبرياء، بالصورة التى دفعت البعض إلى إشاعة أنه رفض العفو عنه. وكان راضيا إلى حد كبير عما حقق فى الجزيرة، وما فعل لأهلها. وكان يثق فى قدرة صديقه الوفى، ويلفريد بلنت، بعدما عزّت الصداقة وندر الوفاء، على عمل كل ما يمكن عمله من أجل استصدار قرار العفو عنه، والسماح بعودته إلى مصر من جديد. والواقع أنه بينما تخلى الجميع عنه فى مصر، ولم يعد يذكره أحد فيها بغير السوء، والناس عبيد من غلب، ظل بلنت وحده وفيا له مؤمنا بعدالة قضيته، وقضية مصر من ورائه. فقد كان نموذجا للمثقف المثالى ولكل إيجابيات العصر الفيكتورى، وهو ما أثار حفيظة كرومر الذى كان يصرّف الأمور فى مصر عليه. فقد كانت كل المقالات والخطابات التى يكتبها بلنت إلى رئيس الوزراء، جلادستون، أو إلى الحكومة الإنجليزية تحوّل إلى كرومر، ويُطالَب بالرد عليها. كما كانت تحوّل إليه كل الاستجوابات التى يوعز إلى أصدقائه فى مجلس العموم بتقديمها بشأن القضية المصرية. ومن يقرأ كتاب كرومر (مصر الحديثة) يدرك مدى كراهيته لبلنت. إذ ينقم كرومر على بلنت مثاليته، وعدم تحليه بالدهاء السياسى، وحثه النواب المصريين على الاتحاد مع الجيش إبان الثورة العرابية، بدلا من بث الفرقة بين الاثنين عملا بمبدأ «فرق تسد» الإنجليزى العتيد، وتحذيره لهم من أن غياب هذا الاتحاد سيؤدى إلى استيلاء أوروبا على بلادهم، كما تكشف عنه رسائله لهم. فيقول كرومر «ولو وجد فى هذا الوقت سياسى حصيف فى مكان مستر بلنت، لاستشف هذه الحقيقية بالبداهة. لكن الرجل كان عاطلا من حلية السياسة، متحمسا لخطته القائمة على مجرد أحلام عن قرب قيام دولة خيالية مستقلة للعرب، كأسطورة دولة يوتوبيا فى القرون الوسطى». وحمل عليه حملة شعواء، واصفا إياه بأنه من الجهلاء المجردين من الخبرة، عدا إلمام يسير بالأوضاع الدستورية، وأنه كم مهمل فى ميزان الرأى العام الإنجليزى، لأنه انحاز إلى جانب العصاة، كما يراهم كرومر. لأن كرومر هو من يمثل روح تاريخ طويل لتلمظ بريطانيا على مصر يمتد من حملة فريزر 1807، وموقعة نفارين وتدمير بريطانيا الأسطول المصرى بها عام 1824، ثم معاهدة لندن 1840 التى قيدت الجيش المصرى وكبلته. فلم ينس الإنجليز، وذاكرتهم التاريخية حادة ومرهفة، حملة فريزر عام 1807 فى بداية عصر محمد على، وكيف أحاط المصريون بعسكرها الذين تجاوز عددهم سبعة آلاف فى رشيد، بقيادة محافظ رشيد على بك السلانكلى، وأبادوا عددا كبيرا منهم، واضطر الباقون للفرار. وكيف حرصت بريطانيا على تحقيق انتقامها بتقييد مصر أولا بمعاهدة 1840 التى كانت وبالا عليها لا يقل عن وبال معاهدة كامب ديفيد المشؤومة التى قيدها بها السادات. ثم باحتلالها ثانيا بعد هزيمة الثورة العرابية، تماما كما احتلت أمريكا إرادتنا الوطنية وقرارنا السياسى منذ كامب ديفيد المشؤومة. والواقع أن أحد أهم ما خرجت به من شهور البحث التى أمضيتها منذ عودتى من سريلانكا منقبا فى كل ما كتب عن الثورة العرابية وأبطالها، هو ضرورة أن نعرف المزيد عن بلنت: المثقف والشاعر والإنسان. وأن ندرك دوره المهم فى دعم القضية المصرية التى وضعها، ومن ورائها قضايا التحرر والاستقلال فى أيرلندا والهند، على خريطة الوعى الإنجليزى. لأن من يقرأ مثلا سيرة بلنت المهمة التى كتبتها إليزابيث لونجفورد بعنوان تصعب ترجمته لأنه ينطوى على كلمة Passion التى تصف مدى إيمانه القوى بما يدافع عنه من قضايا مثالية، يوشك الإيمان بها أن يكون قريبا من إيمان الحجاج بدينهم، وأقرب ترجمة له هى (حج غلّاب: حياة ويلفريد سكاون بلنت Elizabeth Longford: A Pilgrimage of Passion: The Life of Wilfrid Scawen Blunt, London, Granada, 1982)، من يقرأ هذه السيرة المهمة التى أرجو أن يتاح لها من يترجمها إلى العربية يدرك كم كان بلنت مثاليا وإنسانيا فى أفكاره المناهضة للاستعمار، ومخلصا فى دفاعه عن مطامح أحمد عرابى فى مستقبل أفضل لبلاده تحقق فيه الاستقلال للوطن والعدالة الاجتماعية لبنيه. ومؤمنا بدور المثقف فى مواجهة السلطة بالحقيقة، وفى ضرورة أن تتحلى القوة بالموقف الأخلاقى الأعلى، وغيرها من القيم التى تجعل الإنسانية جديرة بإنسانيتها. يقول يوجين روجان، المؤرخ الأمريكى المتخصص فى التاريخ العربى: «كان ويلفريد سكاون بلنت واحدا من رجال العصر الفيكتورى الذين آمنوا أن لديهم أفكارا لحل مشكلات العالم، وكان لديه من أوقات الفراغ ما يسمح له بوضع أفكاره تلك موضع التطبيق، كان رجال من أمثال بلنت يمثلون كابوسا لوزارة الخارجية البريطانية، وإدارة المستعمرات فيها». والواقع أن بلنت، وقد كان له فضل إنقاذ العرابيين من حبل المشنقة التى أراد الخديو توفيق أن يعلقهم منها، ظل يمثل كابوسا لوزارة الخارجية البريطانية حتى النهاية. لأنه لم يخذل عرابى أبدا طوال سنوات المنفى التى امتدت لتسعة عشر عاما. بل كان أحد اثنين ممن يعرفهم عرابى قبل النفى (الثانية هى ليدى جريجورى وزوجها) الذى تردد عليه أكثر من مرة فى منفاه زائرا. كما كان هو أول من بشر عرابى فى رسالة تلغرافية، فى مايو 1901، بخبر العفو عنه والسماح له بالعودة إلى مصر. لكن قبل صدور نبأ العفو، كان بلنت هو الذى أصر، لما عرف بزيارة دوق كورنوول المرتقبة للجزيرة فى أبريل عام 1901، على ضرورة أن يلتقى فى تلك الزيارة بكل من عرابى وعلى فهمى، وأن يكتب تقريرا عن لقائه بهما للحكومة الإنجليزية عند عودته. فقد كان بلنت على وعى بحذر الحكومة الإنجليزية وخشيتها من عرابى من ناحية، وبالتقارير المسمومة التى يزودها بها كرومر، وتقاوم أى اقتراح بالسماح له بالعودة لمصر من ناحية أخرى. وقد كان للقاء دوق كورنوويل بهما تأثيره الكبير عليه، وعلى مصيرهما معا. فقد التقى رجلان هدهما التقدم فى العمر، واستل المنفى من حياتهما الألق، وأى قدرة على تشكيل خطر على الإمبراطورية. فما كان يهمه فى ذلك اللقاء، ليس عدالة قضيتهما كما هو الأمر مع بلنت، ولا ضرورة إنصافهما مما حاق بهما من ظلم على يدى بريطانيا أو الخديو الذى لم تعد بريطانيا تأبه به، فقد رأينا كيف صدر العفو عن البارودى، وعاد إلى مصر قبل أن يصدر عباس حلمى قراره بهذا الشأن. إنما مدى الخطر الذى يمكن أن تشكله عودتهما على إدارة بريطانيا لمصر. صحيح أنه وافق على مقابلتهما بناء على إلحاح من بلنت الذى كان وراء وضع هذا اللقاء على أجندة زيارته للجزيرة. لكنه وبسبب حساسية وضعه السياسى، وعلاقة التاج المعقدة بالحكومة فى بريطانيا، لم يوافق على مقابلتهما، أو بالأحرى استجوابهما، إلا بعد الحصول على إذن الحكومة بذلك. فقد كان اللفظ الإنجليزى المتعلق بهذا الأمر محددا، Interview وهو ليس مجرد مقابلة للدردشة، بل أقرب ما يكون إلى الاستجواب، لذلك كان لا بد من استشارة الحكومة وإذنها، والحصول منها على العناصر المختلفة التى تريد معرفتها منهما أو عنهما، كى تقرر ما تراه بشأنهما. فالمقابلة بهذا المعنى، هى مهمة رسمية. وفى هذا السياق تختلف عن اللقاء Meeting الحر، وتتطلب عادة أجندة تنطوى على العناصر التى يجب تغطيتها فيها، واستجوابهما بشأنها وتقدير أوزانها النسبية فى التقرير الذى طلبت الحكومة منه تقديمه عنهما. وكان أكثر ما حرصت الحكومة البريطانية على معرفته منه وطلبت منه تقديره هو: هل فى نية أى منهما العودة للعمل بالسياسة بعد رجوعه؟ وهل باستطاعته لو نوى ذلك أن يشكل خطرا على حكم الإنجليز لمصر، أو يسبب لهم فيها المشكلات؟ كما طلبت منه الحرص، إذا ما وجد أن الجواب عن هذا السؤال بالنفى، على أن يؤكد له أحمد عرابى خاصة، وبشكل واضح لا لبس فيه، أنه لن يعود للاشتغال بالسياسة عقب رجوعه. فقد كانت لا تزال تعمل لدوره وشعبيته ألف حساب. وأن يحصل منه على تعهد واضح، تعهد رجل لرجل، وليس تعهدا مكتوبا، أنه يريد العودة كى يقضى بقية أيامه بسلام فى بلده، يموت بها ويدفن فى ترابها، كما كان يقول لهما بلنت. وقد أدرك عرابى بذكائه السياسى الملحوظ أن الحصول على مثل هذا التعهد هو هدف لقاء دوق كورنوول به، وقد أخبره بلنت مقدما بأهمية هذا اللقاء، بينما كانت باخرته فى الطريق إليه. لذلك حرص عرابى على أن يفضى به لمن أجرى معه حديثا ونشره فى جريدة «التايمز» السيلانية، عقب صدور قرار الإفراج عنه. وهذا ربما سر وجود نسخة من هذا الحديث الصحفى ضمن إضبارة عرابى فى هذا الشأن بدار المحفوظات البريطانية (SLNA/Ceylon Times, 25 May 1901). ويبدو أن تقرير دوق كورنوويل بعد عودته عنهما قد أرضى الحكومة البريطانية وهدهد مخاوفها عندما قدمه لها فى مايو التالى بعد عودته، فصدر على إثره قرار العفو عنهما، عقب عودته إلى لندن مباشرة. وكان بلنت هو أول من سمع بالقرار وفرح به، وأبرق لصديقه به يهنئه بصدوره. لكن الأمر لم يكن يسيرا بالنسبة لعرابى، كما كان بالنسبة لغيره ممن سبقوه، أو حتى بالنسبة لعلى فهمى الذى صدر قرار العفو عنه مع قرار عرابى. كان عرابى وقتها فى الستين من عمره، وهى سن كبيرة فى هذا الزمن. وقد نقل عنه قوله فى لقاء مع جريدة «التايمز» السيلانية «إننى رجل عجوز، دخلت عامى الواحد والستين، وكل ما تصبو إليه نفسى هو أن يسمح لى بالعودة كى أموت ببلدى، وترتاح عظامى فى ترابه فى سلام» (راجع وثيقة المحفوظات البريطانية SLNA – Ceylon Times, 25 May 1901). وقد استطاع على فهمى العودة إلى مصر فى الشهر التالى لصدور هذا القرار مباشرة، أما عرابى فقد كان الأمر بالنسبة له جد مختلف. صحيح أن على فهمى، وكل واحد من الباشوات السبعة، سواء من قضوا نحبهم فى الجزيرة ودفنوا فيها، أو من عادوا إلى مصر فى صمت، مثل طلبة عصمت والبارودى، يستحق أن نكتب عنه بالتفصيل، وأن نقدره، ونستقى الدروس من سيرته. ولو كانت ثقافتنا تعتنى بذاكرتها التاريخية والوطنية لصدر عن كل منهم كتاب لا يقل أهمية وطولا عن تلك السيرة المهمة التى كتبتها إليزابيث لونجفورد عن بلنت، التى تقع فى 480 صفحة من القطع الكبير، أو تلك التى كتبها روجر أوين عن اللورد كرومر، التى تماثلها أهمية واستفاضة (راجع: Roger Owen, Lord Cromer: Victorian Imperialist, Edwardian Proconsul, Oxford, 2004)، إذ تبلغ عدد صفحاتها 436 صفحة من القطع الكبير. لكن الجزيرة فى ما يبدو كانت طوال ثمانية عشر عاما قد لخصت العرابيين، أو بالأحرى اختصرتهم فى أحمد عرابى. لذلك لم يكن باستطاعة عرابى أن يغادر الجزيرة فى صمت، كما فعل رفاقه الثلاثة الذين غادروها قبله لأمرين: أولهما أن الجزيرة التى استقبلته عند وصوله استقبال الفاتحين، أرادت أن لا يقل توديعها له أهمية عن هذا الاستقبال. ذلك لأن سكانها، خصوصا عددا كبيرا من أبرز أعيانها ومسلميها، أرادوا أن يعبروا له عن امتنانهم لما فعل فى جزيرتهم، وما خلفه فيها من آثار باقية. أما الأمر الثانى فمرتبط إلى حد ما بهذا الأمر الأول، وهو أن دور عرابى الكبير فى الجزيرة كان يتم على حساب دخله المحدود، الذى كان عليه أن ينفق الكثير منه على الزوار، وأن يحتفى بهم سواء فى بيته، أو حتى فى «فندق الملكة» فى كاندى مما كان يكلفه الكثير. وبدلا من أن يوفر شيئا من هذا الدخل كما فعل رفاقه يمكنه من دفع تكاليف رحلة العودة الباهظة الثمن، خصوصا أن عليه أن يصطحب معه فيها كل عائلته وما يلحق بهم من خدم وحشم. وقد عرفنا حينما آن أوان الرحيل أن عددهم بلغ 29 شخصا، لم يكن معه ما يمكنه من دفع تلك التكاليف، وقد اقتضى أمر توفير تكاليف رحلة العودة أكثر من أربعة أشهر. وقبل الحديث عن تكرار تلك المفارقة الأليمة فى حياة عرابى، بين تعامل جزيرة سرنديب/ سيلان معه بكرم غامر وامتنان كبير، فى استقباله وفى توديعه، وبين جحود ذويه من المصريين واستقبالهم الردىء له عندما عاد، الذى لا يقل خزيا عن امتناعهم عن وداعه عند الرحيل، أريد أن أتوقف قليلا أمام واحدة من أهم المؤسسات التى تركها عرابى فى الجزيرة،
وأثرها الباقى فيها حتى اليوم، وأحدث القارئ عن زيارتى لفرعها فى كاندى: ألا وهى «الكلية الزاهرة». وقد حدثت القارئ عنها فى فصل سابق، حينما ذهبت لها فور وصولى لكاندى، ووجدتها مغلقة، بسبب عطلة نهاية الأسبوع. وقد طلبوا منى الرجوع للقاء مديرها يوم الإثنين. وقد فعلت ذلك بعد انتهائى من زيارة بيت عرابى فى اليوم نفسه. ووجدت المدير وقد حدثوه عن وفود زائر من مصر، بلد أحمد عرابى، قد استعد لاستقبالى، وأصدر أوامره لبوابة المدرسة بأن أوجه إلى مكتبه فورا عند وصولى لأنه فى انتظارى. وجهز الكثير من الملفات المتعلقة بتاريخ المدرسة ودور أحمد عرابى فى تأسيسها. والمدرسة الزاهرة فى كولومبو، كما تعلن عن نفسها فى موقعها الآن على الإنترنت بالعربية والإنجليزية معا، هى أول مدرسة خاصة للمسلمين فى سريلانكا، وقد أسسها عام 1892، اثنان من أعيان مسلمى الجزيرة، بتشجيع من أحمد عرابى باشا ورعايته وتوجيهه العلمى لها، ويعرف الموقع زواره به على أنه مصرى شهير كان منفيا فى الجزيرة فى ذلك الوقت. وكان هو من سماها ب«المدرسة الزاهرة» تيمنا باسم الأزهر الشريف. وقد أصبحت المدرسة الآن أكبر المؤسسات التعليمية الإسلامية فى سريلانكا، إذ تضم فى مركزها الرئيسى فى كولومبو، أكثر من خمسة آلاف تلميذ، و250 مدرسا، ثلاثة منهم يوفدهم الأزهر الشريف لتدريس قواعد الإسلام وأصول الفقه الصحيح فيها. وقد بنيت المدرسة المركزية لهذه المؤسسة التعليمية، التى تقع فى قلب العاصمة كولومبو على أرض كانت ملحقة بمسجد مارادانا، وهو أحد أقدم المساجد بالعاصمة، ولا يزال الآن ملحقا بالمدرسة. وقد حرصت المدرسة أن تزين قاعتها الأساسية «قاعة غافور» لوحة زيتية كبيرة لأحمد عرابى، استغلت المدرسة زيارة أول مسؤول مصرى كبير للجزيرة بعد ثورة 1952، وهو الدكتور محمود فوزى وزير خارجية مصر وقتها، الذى زار الجزيرة عام 1955 لإزاحة الستار عنها، فى 17 مايو عام 1955. وكانت هذه المدرسة هى بداية انتشال مسلمى الجزيرة من وهاد التخلف، خصوصا أنها حرصت من البداية كما حرص عرابى نفسه فى تعليمه لأبنائه وأبناء زملائه، على وضع نظام تعليم حديث يضاهى ما يرسل له الإنجليز أنفسهم أولادهم، ويستخدم لغتهم، لكنه يهتم فى الوقت نفسه بتدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية. وأسس عرابى المدرسة الزاهرة على هذا الأساس، وحرص كى لا تظل مدرسة جالية مختلفة يمكن تهميشها، على ضرورة اعتمادها من وزارة التعليم واعتراف الوزارة بها، وتمويلها لها باعتبار حصول مسلمى الجزيرة على تعليم راق كأفضل ما توفره الوزارة لمواطنيها من الأغلبية السنهالية، لكنه يراعى خصوصيته المسلمين ويعزز وعيهم المعرفى بثقافتهم. وما أن حان عام 1900، وقبل مغادرة عرابى لسيلان بعام واحد حتى كانت هناك أربع مدارس إسلامية للبنين مسجلة مع الحكومة ومعترف بها وممولة نسبيا منها. وثلاث للبنات! تندرج كلها تحت تلك المؤسسة العريضة «الكلية الزاهرة». وقد زرت فرعها فى كاندى الذى بدأ أيام عرابى كمدرسة صغيرة ملحقة بمسجد المدينة، وكان بها 41 تلميذا فقط. واستمرت هذه المدرسة الصغيرة فى النمو، حتى تبرع لها الحاج رؤوف بثلاثة هكتارات من الأرض (أى ما يعادل 24 ألف متر مربع) بنيت عليها المدرسة الزاهرة الضخمة التى زرتها بملاعبها الكثيرة وحديقتها الواسعة. وبها الآن أكثر من 900 تلميذ معظمهم من المسلمين، وإن كان ضمنهم 76 تلميذا من غير المسلمين، حيث تدفع سمعتها التعليمية الراقية الكثيرون من غير المسلمين للالتحاق بها. يدرسون بها ابتداءً من المرحلة الابتدائية وحتى المرحلة الثانوية التى تنتهى بحصولهم على GCE التى تؤهلهم للالتحاق بأى من الجامعات فى الجزيرة، أو حتى فى بريطانيا نفسها. ويتم فيها التدريس باللغتين الرسميتين: السنهالية والتامل، لكن لا بد لكل تلميذ أن يجيد معهما الإنجليزية والعربية.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.