رابط نتيجة الصف الأول الابتدائي بالقاهرة 2025 وخطوات الاستعلام عبر بوابة التعليم الأساسي    السعودية توجه تحذير شديد اللهجة لمن يحاول الحج دون ترخيص    أمريكا ترفع العقوبات عن سوريا وتشمل الشرع والخطاب    «ترامب» ردًا على هدايا حماس.. إرهاصات رؤية لمستقبل غزة ومزيد من العداء لنتنياهو وليس لإسرائيل    فلسطين.. 75 شهيدًا جراء القصف الإسرائيلي على قطاع غزة منذ فجر الجمعة    ملف يلا كورة.. توابع أزمة القمة في المحكمة الرياضية.. وتتويج الأهلي    السيطرة على حريق هائل بورشة لتقطيع الرخام بسوهاج    حملات أمنية لردع الخارجين عن القانون في العبور| صور    رابط نتيجة الصف الأول الثانوي الأزهري الترم الثاني 2025.. رابط مباشر وخطوات الاستعلام    العناية الإلهية تُنقذ مستشار من حادث سير مروع بقنا    تامر حسني يقدم تجربة موسيقية تفاعلية غير مسبوقة في القاهرة    حرب شائعات.. المستشار الإعلامي لمجلس الوزراء ينفي معلومات مغلوطة بشأن تصدير المانجو    ضبط 2.5 طن أعلاف مخلوطة بالقمح المحلي في التل الكبير بالإسماعيلية    10 سنوات على انطلاق البرنامج.. أفكار الخبراء لتطوير «تكافل وكرامة»    اليوم.. نظر دعوى الفنانة انتصار لزيادة نفقة أبنائها    أسماء المقبولين بمسابقة 30 ألف معلم.. تعليم الشرقية تعلن النتائج    نشرة التوك شو| الاتحاد الأوروبي يدعم مصر ماليا بسبب اللاجئين.. والضرائب تفتح "صفحة جديدة" مع الممولين    خبيرة أسرية: البيت بلا حب يشبه "بيت مظلم" بلا روح    الفيلم الفلسطينى كان ياما كان فى غزة يفوز بجائزة أفضل ممثل بمهرجان كان    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    اليونيسف: دخول 107 شاحنات لغزة أمر لا يكفي مطلقا إزاء الوضع الكارثي بالقطاع    واشنطن ترفع العقوبات عن موانئ اللاذقية وطرطوس والبنوك السورية    ردا على من يشكك في دور مصر.. خبير عسكري ل"أهل مصر": امتلاك الاقتصاد والمال لا يعني النفوذ والتأثير بالمنطقة    اليوم.. منتدى القاهرة ل«التغير المناخى» يحتفل بمرور 100 عام على فعالياته بين مصر وألمانيا    بن شريفة: بنتايج من أفضل لاعب في مركزه.. ومصدق مستقبل الدفاع المغربي    حلمي طولان: تراجعنا عن تعيين البدري مدربًا للمنتخب لهذا السبب    الضرائب: أي موظف يستطيع معرفة مفردات المرتب بالرقم القومي عبر المنظومة الإلكترونية    النسخة الأفضل مِنكَ    هزة أرضية جديدة تضرب جزيرة "كريت" اليونانية    استشارية أسرية: الحب مجرد تفاعل هرموني لا يصمد أمام ضغوط الحياة    أسماء المقبولين في مسابقة 30 ألف معلم الدفعة الثالثة بالشرقية (مستند)    وول ستريت تهبط بعد تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبى    بالأسماء.. «تعليم الإسكندرية» تعلن قائمة المقبولين بمسابقة ال30 ألف معلم    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 24 مايو 2025    الأرصاد الجوية: طقس الغد شديد الحرارة نهارا والعظمى بالقاهرة 37 درجة    مصر تعيد 71 مواطنا مصريًا من ليبيا    وفاة 3 شباب إثر حادث سير أليم بكفر الشيخ    وزير الزراعة: صادرات مصر الزراعية إلى السعودية تتجاوز 12% من إجمالي صادراتها للعالم    "الظروف القهرية يعلم بها القاصي والداني".. بيراميدز يوضح تفاصيل شكواه للمحكمة الرياضية بشأن انسحاب الأهلي أمام الزمالك    يوريشتش يستقر على تشكيل بيراميدز أمام صن داونز.. يجهز القوة الضاربة    صلاح سليمان: مباراة بتروجت مهمة للزمالك لاستعادة الانتصارات قبل نهائى الكأس    القيعي: الأهلي لم يحضر فقط في القمة.. وقرارات المسابقة «توصيات»    عمرو أديب: الناس بتقول فيه حاجة مهمة هتحصل في البلد اليومين الجايين (فيديو)    بعد وفاة زوجها.. كارول سماحة لابنتها: هكون ليكي الأمان والسند والحضن لآخر لحظة من عمري    "الثقافة" تصدر "قراءات في النقد الأدبي" للدكتور جابر عصفور    تعرف على نتائج المصريين فى اليوم الثانى لبطولة بالم هيلز المفتوحة للإسكواش    ننشر أسماء المقبولين في وظيفة «معلم مساعد» بالمنوفية| صور    نصائح لتجنب الارتجاع المريئي، و7 أطعمة تساعد على تخفيف أعراضه    ارتفاع حالات الحصبة في الولايات المتحدة وسط مخاوف من انتشار واسع    أخبار × 24 ساعة.. حصاد 3.1 مليون فدان قمح وتوريد أكثر من 3.2 مليون طن    وفقا للحسابات الفلكية.. موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى 2025    ما حكم الكلام فى الهاتف المحمول أثناء الطواف؟.. شوقى علام يجيب    انطلاق امتحانات العام الجامعي 2024–2025 بجامعة قناة السويس    حزب الإصلاح والنهضة: نؤيد استقرار النظام النيابي وندعو لتعزيز العدالة في الانتخابات المقبلة    هل يحرم على المُضحّي قصّ شعره وأظافره في العشر الأوائل؟.. أمين الفتوى يوضح    إيفاد قافلتين طبيتين لمرضى الغسيل الكلوي في جيبوتي    خطيب المسجد النبوى يوجه رسالة مؤثرة لحجاج بيت الله    بحضور انتصار السيسي، "القومي لذوي الهمم" ينظم احتفالية "معًا نقدر"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في منفى العرابيين «آلام الغربة وأوجاعها.. البارودي ووحشة المنفى في كاندي»
نشر في التحرير يوم 05 - 04 - 2014

على الرغم من جمال كاندى الطبيعى فقد كانت بالنسبة إلى العرابيين منفى مهما كان جماله، فإنه لا يعوض أبدا عن الوطن، كما يخبرنا محمود سامى البارودى فى كثير من قصائده التى كتبها فيها، والتى يعمرها الحزن والشجن الموجع الرقيق. وكان محمود سامى البارودى (1838-1904) هو أول من وفد إلى كاندى من العرابيين 1888، حيث ترك كولومبو، بعدما نجح الإنجليز بدهائهم السياسى المعهود فى زرع بذور الشقاق بين الباشوات السبعة، بعدما زادوا راتب عرابى الشهرى عن راتبه بشكل ملحوظ، وهو أعلى منه رتبة وأكبر سنا. كما كان تركه لكولومبو ضيقا بضعف بعض رفاقه ونميمتهم، وهربا من تناقلهم لأحاديث الملامة التى يوجهها بعضهم إلى البعض الآخر، ويعتبره مسؤولا عما جرى لهم. فقد كان البارودى أكثرهم حساسية لشاعريته المرهفة من ناحية، ولعلو مكانته وانحداره من أسرة مرموقة من ناحية أخرى. ومما زاد همّه أن زوجته لم ترافقه إلى المنفى، كما فعلت زوجة عرابى. لكنها على العكس من زوجة عرابى التى واصلت فى مصر حياتها فى القصر، سرعان ما ماتت فى مصر مخلفة له ابنا وثلاث بنات عشن حياة اليتم رغم وجود أبيهم بعيدا عنهم، وهو أمر لم تفته مفارقته المؤلمة. وبعد وفاة زوجته فى مصر تزوج البارودى من أمينة، ابنة يعقوب سامى، عام 1888، وانتقل معها للحياة فى كاندى بعيدا عن بقية رفاقه. وقد رزق منها بأربع بنات أُخر، هن قمرية وفاطمة وزينب ومشيرة اللواتى عدن معه إلى مصر، حينما استصدر الإنجليز قرار العفو عنه أو تعليق حرمانه من حق العودة لبلاده إلى أسباب صحية، بعد إصابته برمد حاد كاد يكف بصره، فى يوليو عام 1899. والواقع أن محمود سامى البارودى كان ثانى من عاد من العرابيين إلى مصر لأسباب صحية، فقد أدى تدهور صحة عدد من العرابيين المحلوظ وهم فى شرخ الكهولة إلى جدل واسع فى الدوائر السياسية البريطانية التى كانت تتابع أمور مصر. وقد ناقش مجلس العموم البريطانى، وبناء على استجوابات قدم معظمها نواب على صلة بويلفريد بلنت وبإيعاز منه أو متعاطفين معهم، صحة العرابيين فى أكثر من مناسبة، كما تشير مضابط مجلس العموم عدة مرات فى أعوام 1883، و1887 و1888، و1890، وحتى 1897. وكانت الحكومة البريطانية كما تؤكد مضابط مجلس العموم تنكر على الدوام أنها تلقت أى معلومات تتعلق بعد ملاءمة مناخ الجزيرة لهم صحيا، خصوصا أنه ملائم لعديد من كبار ضباطها وموظفيها الذين يديرون أمور الجزيرة هناك. وكان طلبة باشا عصمت أشدهم معاناة من جو كولومبو الرطب، لأنه كان يعانى من داء الربو المزمن. وقد كتب طبيبه الدكتور وايت White تقريرا فى العام التالى لوصول العرابيين إلى الجزيرة يؤكد فيه أن مناخ الجزيرة لا يلائمه وينصح بنقله إلى مكان آخر أكثر جفافا، مقترحا رأس الرجاء الصالح، بينما اقترح طلبة عصمت جزيرة قبرص. (راجع وثائق مكتب المحفوظات البريطانى SLNA/4/159 Despatch no: 215 of 29 June 1883) وبعد أعوام أخرى طالب الدكتور رايت بضرورة نقله من الجزيرة، لأن جوها الرطب لا يناسب حالة الربو المتفاقمة عنده، مؤكدا أن بقاءه فى سيلان يمثل خطرا حقيقيا على حياته، لكن شكوى جل العرابيين، باستثناء محمود فهمى باشا الذى تعامل مع مصيره برضا قدرى ملحوظ، من رطوبة الجو فى الجزيرة، كانت الحائل دون أخذ شكوى طلبة عصمت مأخذ الجد، على الرغم من أنها كانت مشفوعة بتقارير طبية بريطانية واضحة. لكن إلحاح اللوبى المناصر للعرابيين فى مجلس العموم على تقديم الاستجوابات بشكل دورى، وتقديم بلنت لعدد من أعضاء مجلس العموم ملفا يتضمن التقارير الصحية التى أرسلها عدد من الأطباء إلى الحاكم العسكرى للجزيرة، بعدما حصل على نسخة منه فى زيارته لكاندى عام 1890 دفع السير فيرجسون، وكيل وزارة الخارجية البريطانية، للاعتراف بورود مثل تلك التقارير. وبناء على هذا صدر أمر لمندوب وزارة المستعمرات فى سيلان بتشكيل مجلس طبى لفحص حالة العرابيين الصحية. وتشكل مجلس طبى برئاسة الدكتور و.ر.كينزى W. R. Kynsey رئيس دائرة الطب المدنى، وعضوية كل من الرائد طبيب و.س.روبنسون W. C. Robinson الجراح العسكرى، وجون د.ماكدونالد John D. McDonald الطبيب المقيم بمستشفى كولمبو العام. وقد فحص هذا المجلس كل الشهادات الطبية والتقارير التى كتبها الأطباء المختلفون الذين عالجوا العرابيين حتى هذا التاريخ، والتى أجمعت كلها على أن مناخ الجزيرة لا يلائم كلا من أحمد عرابى وطلبة عصمت وعبد العال حلمى وعلى فهمى ومحمود سامى البارودى، وأنه السبب فى معاناتهم المستمرة من المرض منذ مجيئهم إلى الجزيرة، لكن المجلس الطبى، وبعد أن فحص حالات جل العرابيين قرر أن مناخ الجزيرة لم يؤثر على أى منهم، باستثناء طلبة عصمت الذى يعانى من ربو مزمن تتفاقم أعراضه بسبب رطوبة الجزيرة المرتفعة. والغريب فى الأمر أن محمود فهمى طلب من هذا المجلس الطبى أن يسجل أنه لم يشكُ أبدا من تأثير مناخ الجزيرة على صحته. (راجع الوثائق SLNA /4/315 Despatch no: 6 of 1889 and correspondence of March 1891 فى مكتب الوثائق البريطانية) وراجع أيضا مضابط مجلس العموم فى 21 فبراير إلى 15 مارس 1890. لذلك صدر قرار وكيل وزارة المستعمرات فى لندن، إلى حاكم الجزيرة بإبلاغهم، باستثناء طلبة عصمت، بأن مناخ الجزيرة لم يؤثر على صحتهم، وأن رغبة أى منهم فى تغيير المناخ يمكن تحقيقها بالانتقال إلى مكان آخر فى الجزيرة، وبعيدا عن سواحلها التى ترتفع فيها نسبة الرطوبة. وقد طلب طلبة عصمت نقله إلى عدن أو إلى قبرص، لكن الخارجية البريطانية رفضت طلبه، واقترحت عليه سانت هيلانة التى نفى إليها نابليون، أو الانتقال إلى شيكابور أو كوترى فى السند، لكنه رفض، قائلا إنه لن يجد له أنيسا فى أى من تلك الأماكن، وإنه إذا ما تعذر نقله لبلد عربى أو قريب من مصر كما اقترح، فإنه سيبقى فى الجزيرة، لأنه على الأقل يشعر فيها بقدر من الأمان، لأنه فى صحبة رفاقه، ومع عدد من المسلمين فيها. وهكذا أخفقت المحاولة الأولى لترك الجزيرة بداعى صحية، واستمر الأمر فى طوايا الإهمال لفترة زاد معها إحساس العرابيين بالوحدة والملل. ولم يتحرك الأمر من جديد إلا بعدما توفى عبد العال حلمى فى 19 مارس 1891، ودفن فى كولومبو. وأثارت وفاته الجدل من جديد حول صحة العرابيين فى مجلس العموم البريطانى، دون أن يؤدى هذا إلى أى نتيجة، فقرر عرابى ترك كولومبو والانتقال إلى كاندى أسوة بمحمود سامى البارودى. لكن كاندى لم تدرأ عنهم الملل أو الموت، لأن محمود فهمى سرعان ما وقع فيها وكسرت ساقه ثم مات من مضاعفات هذا الكسر بعد قليل، وبالتحديد فى 17 يونيو عام 1894، ودفن فى كاندى هذه المرة. وأخذت حالة طلبة عصمت المرضية تتفاقم، مما اضطر الإنجليز إلى التدخل لدى الخديوى للعفو عنه، فصدر عنه قرار بالعفو والسماح له بالعودة إلى البلاد فى أول عام 1899. وكتب السيد تشامبرلين، وكيل الخارجية البريطانية وقتها، رسالة إلى ويست ريدجواى West Ridgeway، حاكم الجزيرة فى 6 يناير يطلب منه فيها إبلاغ طلبة عصمت بالعفو الخديوى عنه، والسماح له بالعودة إلى مصر. (راجع الوثيقة SLNA/ 4/ 315 – Dispatch No. 6 on 6 January 1899)، ويطلب منه فى الوثيقة نفسها أن يؤكد لبقية العرابيين بوضوح لا لبس فيه أنه لا أمل فى أن تصدر أى إعفاءات مماثلة بالنسبة لهم، لأن الظروف التى أدت للعفو عن طلبة عصمت لا تنطبق على أى منهم. وقد سارع طلبة عصمت إلى تنفيذ الأمر، وغادر الجزيرة على الباخرة البروسية فى 12 فبراير عام 1899. وقد ترك هذا التأكيد الفظ بأن لا يتوقعوا أى عفو مماثل أثره الشديد على محمود سامى البارودى الذى أصابه الغم، وانتابته الكآبة، ما أثر على نظره الذى كان يضعف باستمرار، لكن معاناته لم تدم طويلا، لأنه سرعان ما تلقى نبأ العفو عنه بعد شهور من مغادرة طلبة عصمت، وبالتحديد فى أوائل يوليو من العام نفسه. وقد صرح محمود سامى البارودى لجريدة «التايمز» السيلانية (راجع Ceylon Times on 12 July 1899) بعد تلقيه النبأ، وكأنه كان يحدس الأمر ببصيرة الشاعر: «مهما يكن ما يقوله الحاكم، فإن الباب قد فتح، لقد عاد طلبة عصمت إلى مصر، وها أنا أستعد للرجوع إليها بعده، وسوف يتبعنى الباقون». ولم يستطع حموه، يعقوب سامى أن يلحق به، لأنه سرعان ما مات بعد ثلاثة أشهر من عودته، وبالتحديد فى 29 أكتوبر 1899، وقبل وفود أمر العفو عنه. ودفن فى كاندى فى قبر إلى جانب قبر محمود فهمى باشا فى مقبرة الجبل الأخضر فى ماهاياوا Green Mount of the Mahiyawa، ولا تزال مقبرتاهما بها حتى الآن. إذن وقبل أن ينتهى القرن التاسع عشر، كان اثنان من العرابيين (طلبة عصمت والبارودى) قد عادا إلى مصر، وثلاثة (عبد العال حلمى، ومحمود فهمى، ويعقوب سامى) قد ماتوا فى الجزيرة ودفن أولهما فى كولومبو، والباقيان فى كاندى. ولم يبق بها إلا على فهمى وأحمد عرابى. لكن قبل التعرف على ما جرى لهما بها طوال عام 1900 وشطرا كبيرا من العام التالى، وحتى عودة عرابى إلى مصر فى 19 سبتمبر 1901، علينا التريث قليلا عن محمود سامى البارودى، رب السيف والقلم لنعرف بعض ما دار له فى الجزيرة وشيئا من تأثيرها الكبير على شعره، لأن شعر محمود سامى البارودى الذى كتبه فى سرنديب، وجمعته زوجته ابنة يعقوب سامى فى ديوانه بعد وفاته، هو الوثيقة الحية على حالة العرابيين النفسية والعقلية فى ذلك المنفى الجميل. فمحمود سامى البارودى هو مؤسس النهضة الشعرية العربية الحديثة، لأنه شاعر أعاد إلى الشعر العربى ألقه وقوته بعد عصور طويلة من الانحطاط لفظا ومعنى. ويعتبره نقاد الشعر العربى مؤسس مدرسة الإحياء أو كلاسيكيته الجديدة، وصاحب المدرسة التى خرج منها أبرز أعلامها من أحمد شوقى وحافظ إبراهيم حتى خليل مطران وإسماعيل صبرى. كما أنه أول من وضع المتن المرجعى Canon للشعر العربى فى العصر الحديث فى (مختارات البارودى) التى لعبت دورا مهما فى تأسيس قواعد هذه المدرسة، وبلورة ذائقتها الجمالية. وقد عانى البارودى كثيرا فى المنفى، وإذا كنا لا نعرف شيئا عن معاناة بقية العرابيين فيه أو عن حالتهم النفسية والوجدانية به، فقد ترك لنا البارودى فى قصائده المؤثرة صورة عما قاساه هو، وما قاسوه مثله، من مشاعر النفى والقهر والحزن. استمع إليه وهو يكتب عن حاله فى الجزيرة فى أبيات مترعة بالشجن الشفيف والمواجد الموجعة. شفّنى وجدى، وأبلانى السهرْ وتغشّتنى سمادير الكدرْ فسوادُ الليل ما إنْ ينقضى وبياض الصبح ما إن يُنتظر لا أنيسٌ يسمعُ الشكوى، ولا خبرٌ يأتى، ولا طيفٌ يَمُر كلما دُرتُ لأقضى حاجةً قالت الظُلمة: مهلاً، لا تَدُر أتقرّى الشىء أبغيه، فلا أجد الشىء، ولا نفسى تَقَر ظلمةٌ ما إن بها من كوكبٍ غير أنفاسٍ ترامى بالشرر فاصبرى يا نفس حتى تَظفرى إن حسن الصبر مفتاحُ الظفر هى أنفاسٌ تَقَضّى، والفتى حيثما كان أسيرٌ للقدر إنه يصور هنا حالة الملل والأرق والكدر التى يعيشها فى الجزيرة كما يعيش السجين فى سجنه، حيث استعارات السجن والظلمة المختلفة تتغلغل القصيدة، حيث لا أنيس يسمع الشكوى، فلم يكن البارودى من الشكائين، ولا خبر يأتى من الوطن الذى تيتم أولاده فيه وهو على قيد الحياة. ويعلل النفس بالصبر، فلا يأس مع الأمل فى التحرر من هذا السجن والعودة إلى الوطن. وقد عرفنا كيف أن الإدارة الإنجليزية للجزيرة قد حظرت على العرابيين العمل بها، ما حرمهم من الانصراف عن مأساتهم بالعمل، وأجبرهم على التفكير باستمرار فى وضعهم الأليم بها. وقد شغل البارودى نفسه أولا بتعلم اللغة الإنجليزية فى بداية الأمر، حتى أجادها، وكان يجيد قبلها التركية والفارسية. واستطاع أن يستعيض بها عن افتقاره إلى مكتبته الكبيرة من الكتب العربية والتركية والفارسية التى تركها خلفه فى القاهرة. وقد منع البارودى كما منع غيره من العرابيين من العمل، فضاق مللا، ولم يكن أمامه مما يفرغ فيه ذا الضيق إلا الشعر بين الفينة والأخرى. صحيح أنه أنفق كثيرًا من وقته فى تعليم مسلمى الجزيرة اللغة العربية، كى يعرفوا لغة دينهم، بل وأسهم كثيرا فى تثقيفهم فى أموره المختلفة، إذ كان يعتلى منبر مسجد كاندى كل جمعة ويشرح لهم تعاليم الإسلام وما تنطوى عليه شعائره من قيم ودلالات. لكن هذا كله لم يدفع عنه الحزن والملل، أو فقدان الأهل والأحباب، أو تأمل تصاريف الأقدار معه. اقرأ هنا إحدى
قصائده فى هذا الغرض: محا البينُ ما أبقتْ عيون المها منى فشِبتُ ولم أقضِ اللُّبانة من سنى عناءٌ، ويأسٌ، واشتياقٌ وغربةٌ ألا، شدَّ ما ألقاه فى الدهر من غبنِ فإن أكُ فارقتُ الديار فلى بها وطن أضلتْهُ عيون المها مِني ولمْ تَمْضِ إلا خَطْرَةٌ، ثم أقلعت بنا عن شطوط الحى أجنِحةُ السُّفْنِ فكم مُهجةٍ من زَفْرَةِ الوجدِ فى لظى وكم مُقلَةٍ مِنْ غزرة الدمع فى دَجْنِ وما كنتُ جربتُ النوى قبل هذه فلما دهتنى كِدتُ أقضى من الحزن ولكننى راجعتُ حِلْمِى ، وردنى إلى الحَزْمِ رأى لا يحومُ على أَفْنِ فقد تُورِقُ الأغصان بعد ذبولها ويبدو ضياء البدر فى ظلمةِ الوَهنِ فلا خيْرَ فى الدنيا إذا المرءُ لم يعشْ مهيبًا، تراه العينُ كالنار فى دغْنِ وقد عاش البارودى بحق مهيبا تراه العين كالنار فى دغن، حتى جاءه نبأ السماح له بالعودة، فحزم حقائبه وعاد مع أسرته الجديدة ليلم شملها مع تلك التى خلفها وراءه، ووصل القاهرة فى أغسطس عام 1899. ومن مفارقات القدر أن ظل الظلم يلاحقه حتى وخديو مصر الجديد ينصفه، لأن رب السيف والقلم، وصاحب الأسلوب البليغ الرفيع، وقد عاد إلى وطنه بناء على العفو الصحى الذى أصدره الإنجليز عنه، كان لا يزال فى حاجة إلى أن يستصدر الخديو قراره بالسماح له باسترداد أملاكه والتصرف فيها كى يرعى أسرته، وفى 17 مايو 1900، أى بعد عشرة شهور من عودته، أصدر الخديو عباس حلمى أمره الركيك: «بناء على الإنهاء المرفوع لنا من محمود سامى بالتماس الإحسان عليه بالتمتع بالحقوق الوطنية، قد اقتضت مكارمنا منح المومى إليه التمتع بالحقوق الوطنية. وعلى ذلك فيجوز له من الآن امتلاك أى نوع كان فى الأقطار المصرية بطريق الإرث أو الهبة أو البيع أو بأى طريقة كانت الذى كان محروما منه بمقتضى الأمر العالى الصادر فى 14 من ديسمبر سنة 1882 (30 من صفر 1300)، وأصدرنا هدا لعطوفتكم لإجراء مقتضاه». لكننى لا أريد أن اختتم الحديث عن البارودى بكلمات الخديو الركيكة، وإنما بأبيات من قصيدته البليغة الجميلة التى كتبها عقب وصوله إلى مصر: أَبَابِلُ رَأْىَ العَيْنِ أَمْ هَذِهِ مِصْر فَإِنِّى أَرَى فِيهَا عُيُونَا هِىَ السِّحْرُ نَوَاعِسَ أَيْقَظْنَ الهَوْى بِلَوَاحِظٍ تَدِينُ لَهَا بِالفَتْكَة البِيضُ وَالسُّمْرُ فَلَيْسَ لِعَقْلٍ دُونَ سُلْطَانِهَا حِمَىً وَلاَ لِفُؤَادٍ دُونَ غِشْيَانِهَا سِتْرُ فَإِنْ يَكُ مُوسَى أَبْطَلَ السِّحْرَ مَرَّةً فَذَلِكَ عَصْرُ المُعْجِزَاتِ، وَذَا عَصْرُ فَأَيُّ فُؤَادٍ لاَ يَذُوبُ صَبَابَةً وَمُزْنَةِ عَيْنٍ لاَ يَصُوبُ لَهَا قَطْرُ؟ بِنَفْسِى -وَإِنْ عَزَّتْ عَلَىَّ- رَبِيبَةٌ مِنَ العِينِ فِى أَجْفَانِ مُقْلَتِهَا فَتْرُ فَتَاةٌ يَرِفُّ البَدْرُ تَحْتَ قِنَاعِهَا وَيَخْطِرُ فِى أَبْرَادِهَا الغُصُنُ النَّضْرُ تُرِيكَ جُمَانَ القَطْرِ فِى أُقْحُوَانَةٍ مُفَلَّجَةِ الأَطْرَافِ، قِيلَ لَهَا ثَغْرُ تَدِينُ لِعَيْنَيْهَا سَوَاحِرُ «بَابِلٍ» وَتَسْكَرُ مِنْ صَهْبَاءِ رِيقَتِهَا الخَمْرُ رَضِيتُ مِنَ الدُّنْيَا بِحُبِّكِ عَالِمًا بِأَنَّ جُنُونِى فِى هَوَاكِ هُوَ الفَخْرُ هَوَىً كَضَمِيرِ الزِنْدِ لَوْ أَنَّ مَدْمَعِى تَأَخَّرَ عَنْ سُقْيَاهُ لاَحْتَرَقَ الصَّدْرُ إِذَا مَا أَتَيْتُ الحَىَّ فَارَتْ بِغَيْظِهَا قُلُوبُ رِجَالٍ حَشْوُ آمَاقِهَا الغَدْرُ يَظُنُّونَ بِى شَرًّا، وَلَسْتُ بِأَهْلِهِ وَظَنُّ الفَتَى مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وِزْرُ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ إِنْ تَرَنَّمَ شَاعِرٌ بقَافِيَةٍ لاَ عَيْبَ فِيهَا، وَلاَ نُكْرُ؟ أَفِى الحَقِّ أَنْ تَبْكِى الحَمَائِمُ شَجْوَهَا وَيُبْلَى فَلاَ يَبْكِى عَلَى نَفْسِهِ حُرُّ؟ وَكَيْفَ أَسُومُ القَلْبَ صَبْرَاً عَلَى الهَوَى وَلَمْ يَبْقَ لِىْ فِى الحُبِّ قَلْبٌ وَلاَ صَبْرُ وَإِنِّى امْرُؤٌ تَأْبَى لِىَ الضَّيْمَ صَوْلَةٌ مَوَاقِعُهَا فِى كُلِّ مُعْتَرَكٍ حُمْرُ أَبِىٌّ عَلَى الحِدْثَانِ، لاَ يَسْتَفِزُّنِى عَظِيمٌ، وَلاَ يَأْوِى إِلَى سَاحَتِى ذُعْرُ إِذَا صُلْتُ صَالَ المَوْتُ مِنْ وَكَرَاتِهِ وَإِنْ قُلْتُ أَرْخَى مِنْ أَعِنَّتِهِ الشِّعْرُ

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.