انتخابات "النواب" 2025.. "الشباب المصري" يدعو المواطنين إلى المشاركة الواسعة في جولة الإعادة    برعاية السيسي.. وزير التعليم العالي يعلن نتائج مبادرة "تحالف وتنمية" وتوقيع اتفاقيات التحالفات الفائزة    وزير الخارجية يبحث مع أمين عام الأمم المتحدة تطورات الأوضاع في فلسطين    حبس عاطل بتهمة التحرش بفنانة شابة بالنزهة    وزيرة التنمية المحلية والبيئة تعلن الإمساك بتمساح مصرف قرية الزوامل بالشرقية    مصر تتابع مع البنك الدولي إعداد الاستراتيجية الوطنية للاستثمار الأجنبي المباشر    محافظ المنوفية يسلم 45 كرسي متحرك ومساعدات مالية وعينية لذوي الهمم    الهيئة الوطنية للانتخابات تجدد تحذيرها من أي خروقات خلال الانتخابات    الخارجية السورية: إلغاء قانون قيصر يمثل انتصارا    القاهرة الإخبارية: الأمطار والبرد يفاقمان الأزمة الإنسانية في غزة.. وفاة طفلة وغرق آلاف الخيام    أكسيوس: ترامب يخطط لتعيين جنرال أمريكي لقيادة قوة الاستقرار الدولية في غزة    ليفربول يرفض إقامة حفل وداع لمحمد صلاح ويحدد موقفه من انتقاله    منتخب مصر يخوض تدريبا صباحيا استعدادا لأمم أفريقيا    صحيفة.. 24 ساعة تحسم مستقبل صلاح مع ليفربول    ضبط شخص لنقله ناخبين لحثهم على التصويت لصالح مرشح بدائرة حوش عيسى بالبحيرة    تفاصيل السيارة المصرية الكهربائية بمعرض البحوث: سرعتها 70 كم وب200 ألف جنيه    وزارة الداخلية تحبط محاولة سيدتين توزيع أموال بمحيط لجان دير مواس    ضربات أمنية لضبط الإتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي    سقوط طفل من الطابق الخامس ببورسعيد.. وجهود طبية مكثفة لإنقاذ حياته    ضبط شخص ظهر في فيديو يحمل سلاحًا ناريًا بالغربية    أحمد مراد يعتذر: استخدمت كلمة رسول بصيغة عامة.. ولم يكن في نيتي المقارنة أو توجيه إساءة تتعلق بالمقدسات الدينية    مباحثات مصرية - يونانية لتنفيذ برامج سياحية مشتركة    الصحة: للعام الثالث على التوالي مصر تحافظ على خلوها الكامل من الحصبة والحصبة الألمانية    القوات الروسية تسيطر على بلدة بخاركيف    وزير الخارجية يؤكد الرفض القاطع لأي دعوات تستهدف تهجير الفلسطينيين أو تغيير الوضعية الجغرافية لغزة    سباليتي: أداء يوفنتوس أمام بافوس كان محرجا في الشوط الأول    53 مترشحًا يتنافسون على 3 مقاعد فردية فى دوائر أسوان المعاد الاقتراع بها    سعر كرتونه البيض الأبيض والأحمر اليوم الخميس 11ديسمبر 2025 فى أسواق المنيا    «الصحة» تعلن نجاح مصر في القضاء على الحصبة والحصبة الألمانية للعام الثالث على التوالي    شوبير: الأهلي ينجز صفقة يزن النعيمات ويقترب من تجديد عقد حسين الشحات    التراث العربي: إدراج الكشري في قائمة اليونسكو خطوة مبهجة تعزز الهوية الثقافية المصرية    اليوم.. الكنيسة القبطية تحتفي بيوم الصحافة والإعلام في المقر البابوي بالعباسية    الجامعة البريطانية توقع بروتوكول تعاون مع ولفرهامبتون البريطانية    الليلة.. حفل ختام مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي 2025    إغلاق مطار بغداد موقتًا أمام الرحلات الجوية بسبب كثافة الضباب    «أسامة ربيع»: نستهدف تحقيق طفرة في جهود توطين الصناعة البحرية    قرارات النيابة في واقعة اتهام فرد أمن بالتحرش بأطفال بمدرسة شهيرة بالتجمع    يوسف القعيد: نجيب محفوظ كان منظمًا بشكل صارم وصاحب رسالة وتفانٍ في إيصالها    قافلة طبية لجامعة بنها بمدرسة برقطا توقع الكشف على 237 حالة    تايلاند تعلن عن أول قتلى مدنيين عقب تجدد الصراع الحدودي مع كمبوديا    إعتماد تعديل المخطط التفصيلي ل 6 مدن بمحافظتي الشرقية والقليوبية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 11-12-2025 في محافظة الأقصر    «الوطنية للانتخابات» تعلن تخصيص الخط الساخن 19826 لتلقي الشكاوى    تقييم مرموش أمام ريال مدريد من الصحف الإنجليزية    ثلاث مباريات في افتتاح الجولة ال15 لمسابقة دوري المحترفين    بتكلفة 68 مليون جنيه، رئيس جامعة القاهرة يفتتح مشروعات تطوير قصر العيني    طرق الوقاية من الحوداث أثناء سقوط الأمطار    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025    حالة الطقس في السعودية اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025    DC تطرح أول بوستر رسمي لفيلم Supergirl    دعاء الفجر| (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)    توقيت أذان الفجر اليوم الخميس 11ديسمبر 2025.. ودعاء مأثور يُقال بعد الانتهاء من الصلاة    التحضير لجزء ثانٍ من مسلسل «ورد وشوكولاتة»    بانا مشتاق: إبراهيم عبد المجيد كاتب مثقف ومشتبك مع قضايا الناس    التعادل السلبي يحسم موقعة باريس سان جيرمان وأتلتيك بلباو    "الصحة" تكشف عن الفيروس الأكثر انتشارا بين المواطنين حاليا    الأوقاف تختتم فعاليات المسابقة العالمية الثانية والثلاثين للقرآن من مسجد مصر الكبير بالعاصمة    حاسوب القرآن.. طالب بكلية الطب يذهل لجنة التحكيم في مسابقة بورسعيد الدولية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في منفى العرابيين «آلام الغربة وأوجاعها.. البارودي ووحشة المنفى في كاندي»
نشر في التحرير يوم 05 - 04 - 2014

على الرغم من جمال كاندى الطبيعى فقد كانت بالنسبة إلى العرابيين منفى مهما كان جماله، فإنه لا يعوض أبدا عن الوطن، كما يخبرنا محمود سامى البارودى فى كثير من قصائده التى كتبها فيها، والتى يعمرها الحزن والشجن الموجع الرقيق. وكان محمود سامى البارودى (1838-1904) هو أول من وفد إلى كاندى من العرابيين 1888، حيث ترك كولومبو، بعدما نجح الإنجليز بدهائهم السياسى المعهود فى زرع بذور الشقاق بين الباشوات السبعة، بعدما زادوا راتب عرابى الشهرى عن راتبه بشكل ملحوظ، وهو أعلى منه رتبة وأكبر سنا. كما كان تركه لكولومبو ضيقا بضعف بعض رفاقه ونميمتهم، وهربا من تناقلهم لأحاديث الملامة التى يوجهها بعضهم إلى البعض الآخر، ويعتبره مسؤولا عما جرى لهم. فقد كان البارودى أكثرهم حساسية لشاعريته المرهفة من ناحية، ولعلو مكانته وانحداره من أسرة مرموقة من ناحية أخرى. ومما زاد همّه أن زوجته لم ترافقه إلى المنفى، كما فعلت زوجة عرابى. لكنها على العكس من زوجة عرابى التى واصلت فى مصر حياتها فى القصر، سرعان ما ماتت فى مصر مخلفة له ابنا وثلاث بنات عشن حياة اليتم رغم وجود أبيهم بعيدا عنهم، وهو أمر لم تفته مفارقته المؤلمة. وبعد وفاة زوجته فى مصر تزوج البارودى من أمينة، ابنة يعقوب سامى، عام 1888، وانتقل معها للحياة فى كاندى بعيدا عن بقية رفاقه. وقد رزق منها بأربع بنات أُخر، هن قمرية وفاطمة وزينب ومشيرة اللواتى عدن معه إلى مصر، حينما استصدر الإنجليز قرار العفو عنه أو تعليق حرمانه من حق العودة لبلاده إلى أسباب صحية، بعد إصابته برمد حاد كاد يكف بصره، فى يوليو عام 1899. والواقع أن محمود سامى البارودى كان ثانى من عاد من العرابيين إلى مصر لأسباب صحية، فقد أدى تدهور صحة عدد من العرابيين المحلوظ وهم فى شرخ الكهولة إلى جدل واسع فى الدوائر السياسية البريطانية التى كانت تتابع أمور مصر. وقد ناقش مجلس العموم البريطانى، وبناء على استجوابات قدم معظمها نواب على صلة بويلفريد بلنت وبإيعاز منه أو متعاطفين معهم، صحة العرابيين فى أكثر من مناسبة، كما تشير مضابط مجلس العموم عدة مرات فى أعوام 1883، و1887 و1888، و1890، وحتى 1897. وكانت الحكومة البريطانية كما تؤكد مضابط مجلس العموم تنكر على الدوام أنها تلقت أى معلومات تتعلق بعد ملاءمة مناخ الجزيرة لهم صحيا، خصوصا أنه ملائم لعديد من كبار ضباطها وموظفيها الذين يديرون أمور الجزيرة هناك. وكان طلبة باشا عصمت أشدهم معاناة من جو كولومبو الرطب، لأنه كان يعانى من داء الربو المزمن. وقد كتب طبيبه الدكتور وايت White تقريرا فى العام التالى لوصول العرابيين إلى الجزيرة يؤكد فيه أن مناخ الجزيرة لا يلائمه وينصح بنقله إلى مكان آخر أكثر جفافا، مقترحا رأس الرجاء الصالح، بينما اقترح طلبة عصمت جزيرة قبرص. (راجع وثائق مكتب المحفوظات البريطانى SLNA/4/159 Despatch no: 215 of 29 June 1883) وبعد أعوام أخرى طالب الدكتور رايت بضرورة نقله من الجزيرة، لأن جوها الرطب لا يناسب حالة الربو المتفاقمة عنده، مؤكدا أن بقاءه فى سيلان يمثل خطرا حقيقيا على حياته، لكن شكوى جل العرابيين، باستثناء محمود فهمى باشا الذى تعامل مع مصيره برضا قدرى ملحوظ، من رطوبة الجو فى الجزيرة، كانت الحائل دون أخذ شكوى طلبة عصمت مأخذ الجد، على الرغم من أنها كانت مشفوعة بتقارير طبية بريطانية واضحة. لكن إلحاح اللوبى المناصر للعرابيين فى مجلس العموم على تقديم الاستجوابات بشكل دورى، وتقديم بلنت لعدد من أعضاء مجلس العموم ملفا يتضمن التقارير الصحية التى أرسلها عدد من الأطباء إلى الحاكم العسكرى للجزيرة، بعدما حصل على نسخة منه فى زيارته لكاندى عام 1890 دفع السير فيرجسون، وكيل وزارة الخارجية البريطانية، للاعتراف بورود مثل تلك التقارير. وبناء على هذا صدر أمر لمندوب وزارة المستعمرات فى سيلان بتشكيل مجلس طبى لفحص حالة العرابيين الصحية. وتشكل مجلس طبى برئاسة الدكتور و.ر.كينزى W. R. Kynsey رئيس دائرة الطب المدنى، وعضوية كل من الرائد طبيب و.س.روبنسون W. C. Robinson الجراح العسكرى، وجون د.ماكدونالد John D. McDonald الطبيب المقيم بمستشفى كولمبو العام. وقد فحص هذا المجلس كل الشهادات الطبية والتقارير التى كتبها الأطباء المختلفون الذين عالجوا العرابيين حتى هذا التاريخ، والتى أجمعت كلها على أن مناخ الجزيرة لا يلائم كلا من أحمد عرابى وطلبة عصمت وعبد العال حلمى وعلى فهمى ومحمود سامى البارودى، وأنه السبب فى معاناتهم المستمرة من المرض منذ مجيئهم إلى الجزيرة، لكن المجلس الطبى، وبعد أن فحص حالات جل العرابيين قرر أن مناخ الجزيرة لم يؤثر على أى منهم، باستثناء طلبة عصمت الذى يعانى من ربو مزمن تتفاقم أعراضه بسبب رطوبة الجزيرة المرتفعة. والغريب فى الأمر أن محمود فهمى طلب من هذا المجلس الطبى أن يسجل أنه لم يشكُ أبدا من تأثير مناخ الجزيرة على صحته. (راجع الوثائق SLNA /4/315 Despatch no: 6 of 1889 and correspondence of March 1891 فى مكتب الوثائق البريطانية) وراجع أيضا مضابط مجلس العموم فى 21 فبراير إلى 15 مارس 1890. لذلك صدر قرار وكيل وزارة المستعمرات فى لندن، إلى حاكم الجزيرة بإبلاغهم، باستثناء طلبة عصمت، بأن مناخ الجزيرة لم يؤثر على صحتهم، وأن رغبة أى منهم فى تغيير المناخ يمكن تحقيقها بالانتقال إلى مكان آخر فى الجزيرة، وبعيدا عن سواحلها التى ترتفع فيها نسبة الرطوبة. وقد طلب طلبة عصمت نقله إلى عدن أو إلى قبرص، لكن الخارجية البريطانية رفضت طلبه، واقترحت عليه سانت هيلانة التى نفى إليها نابليون، أو الانتقال إلى شيكابور أو كوترى فى السند، لكنه رفض، قائلا إنه لن يجد له أنيسا فى أى من تلك الأماكن، وإنه إذا ما تعذر نقله لبلد عربى أو قريب من مصر كما اقترح، فإنه سيبقى فى الجزيرة، لأنه على الأقل يشعر فيها بقدر من الأمان، لأنه فى صحبة رفاقه، ومع عدد من المسلمين فيها. وهكذا أخفقت المحاولة الأولى لترك الجزيرة بداعى صحية، واستمر الأمر فى طوايا الإهمال لفترة زاد معها إحساس العرابيين بالوحدة والملل. ولم يتحرك الأمر من جديد إلا بعدما توفى عبد العال حلمى فى 19 مارس 1891، ودفن فى كولومبو. وأثارت وفاته الجدل من جديد حول صحة العرابيين فى مجلس العموم البريطانى، دون أن يؤدى هذا إلى أى نتيجة، فقرر عرابى ترك كولومبو والانتقال إلى كاندى أسوة بمحمود سامى البارودى. لكن كاندى لم تدرأ عنهم الملل أو الموت، لأن محمود فهمى سرعان ما وقع فيها وكسرت ساقه ثم مات من مضاعفات هذا الكسر بعد قليل، وبالتحديد فى 17 يونيو عام 1894، ودفن فى كاندى هذه المرة. وأخذت حالة طلبة عصمت المرضية تتفاقم، مما اضطر الإنجليز إلى التدخل لدى الخديوى للعفو عنه، فصدر عنه قرار بالعفو والسماح له بالعودة إلى البلاد فى أول عام 1899. وكتب السيد تشامبرلين، وكيل الخارجية البريطانية وقتها، رسالة إلى ويست ريدجواى West Ridgeway، حاكم الجزيرة فى 6 يناير يطلب منه فيها إبلاغ طلبة عصمت بالعفو الخديوى عنه، والسماح له بالعودة إلى مصر. (راجع الوثيقة SLNA/ 4/ 315 – Dispatch No. 6 on 6 January 1899)، ويطلب منه فى الوثيقة نفسها أن يؤكد لبقية العرابيين بوضوح لا لبس فيه أنه لا أمل فى أن تصدر أى إعفاءات مماثلة بالنسبة لهم، لأن الظروف التى أدت للعفو عن طلبة عصمت لا تنطبق على أى منهم. وقد سارع طلبة عصمت إلى تنفيذ الأمر، وغادر الجزيرة على الباخرة البروسية فى 12 فبراير عام 1899. وقد ترك هذا التأكيد الفظ بأن لا يتوقعوا أى عفو مماثل أثره الشديد على محمود سامى البارودى الذى أصابه الغم، وانتابته الكآبة، ما أثر على نظره الذى كان يضعف باستمرار، لكن معاناته لم تدم طويلا، لأنه سرعان ما تلقى نبأ العفو عنه بعد شهور من مغادرة طلبة عصمت، وبالتحديد فى أوائل يوليو من العام نفسه. وقد صرح محمود سامى البارودى لجريدة «التايمز» السيلانية (راجع Ceylon Times on 12 July 1899) بعد تلقيه النبأ، وكأنه كان يحدس الأمر ببصيرة الشاعر: «مهما يكن ما يقوله الحاكم، فإن الباب قد فتح، لقد عاد طلبة عصمت إلى مصر، وها أنا أستعد للرجوع إليها بعده، وسوف يتبعنى الباقون». ولم يستطع حموه، يعقوب سامى أن يلحق به، لأنه سرعان ما مات بعد ثلاثة أشهر من عودته، وبالتحديد فى 29 أكتوبر 1899، وقبل وفود أمر العفو عنه. ودفن فى كاندى فى قبر إلى جانب قبر محمود فهمى باشا فى مقبرة الجبل الأخضر فى ماهاياوا Green Mount of the Mahiyawa، ولا تزال مقبرتاهما بها حتى الآن. إذن وقبل أن ينتهى القرن التاسع عشر، كان اثنان من العرابيين (طلبة عصمت والبارودى) قد عادا إلى مصر، وثلاثة (عبد العال حلمى، ومحمود فهمى، ويعقوب سامى) قد ماتوا فى الجزيرة ودفن أولهما فى كولومبو، والباقيان فى كاندى. ولم يبق بها إلا على فهمى وأحمد عرابى. لكن قبل التعرف على ما جرى لهما بها طوال عام 1900 وشطرا كبيرا من العام التالى، وحتى عودة عرابى إلى مصر فى 19 سبتمبر 1901، علينا التريث قليلا عن محمود سامى البارودى، رب السيف والقلم لنعرف بعض ما دار له فى الجزيرة وشيئا من تأثيرها الكبير على شعره، لأن شعر محمود سامى البارودى الذى كتبه فى سرنديب، وجمعته زوجته ابنة يعقوب سامى فى ديوانه بعد وفاته، هو الوثيقة الحية على حالة العرابيين النفسية والعقلية فى ذلك المنفى الجميل. فمحمود سامى البارودى هو مؤسس النهضة الشعرية العربية الحديثة، لأنه شاعر أعاد إلى الشعر العربى ألقه وقوته بعد عصور طويلة من الانحطاط لفظا ومعنى. ويعتبره نقاد الشعر العربى مؤسس مدرسة الإحياء أو كلاسيكيته الجديدة، وصاحب المدرسة التى خرج منها أبرز أعلامها من أحمد شوقى وحافظ إبراهيم حتى خليل مطران وإسماعيل صبرى. كما أنه أول من وضع المتن المرجعى Canon للشعر العربى فى العصر الحديث فى (مختارات البارودى) التى لعبت دورا مهما فى تأسيس قواعد هذه المدرسة، وبلورة ذائقتها الجمالية. وقد عانى البارودى كثيرا فى المنفى، وإذا كنا لا نعرف شيئا عن معاناة بقية العرابيين فيه أو عن حالتهم النفسية والوجدانية به، فقد ترك لنا البارودى فى قصائده المؤثرة صورة عما قاساه هو، وما قاسوه مثله، من مشاعر النفى والقهر والحزن. استمع إليه وهو يكتب عن حاله فى الجزيرة فى أبيات مترعة بالشجن الشفيف والمواجد الموجعة. شفّنى وجدى، وأبلانى السهرْ وتغشّتنى سمادير الكدرْ فسوادُ الليل ما إنْ ينقضى وبياض الصبح ما إن يُنتظر لا أنيسٌ يسمعُ الشكوى، ولا خبرٌ يأتى، ولا طيفٌ يَمُر كلما دُرتُ لأقضى حاجةً قالت الظُلمة: مهلاً، لا تَدُر أتقرّى الشىء أبغيه، فلا أجد الشىء، ولا نفسى تَقَر ظلمةٌ ما إن بها من كوكبٍ غير أنفاسٍ ترامى بالشرر فاصبرى يا نفس حتى تَظفرى إن حسن الصبر مفتاحُ الظفر هى أنفاسٌ تَقَضّى، والفتى حيثما كان أسيرٌ للقدر إنه يصور هنا حالة الملل والأرق والكدر التى يعيشها فى الجزيرة كما يعيش السجين فى سجنه، حيث استعارات السجن والظلمة المختلفة تتغلغل القصيدة، حيث لا أنيس يسمع الشكوى، فلم يكن البارودى من الشكائين، ولا خبر يأتى من الوطن الذى تيتم أولاده فيه وهو على قيد الحياة. ويعلل النفس بالصبر، فلا يأس مع الأمل فى التحرر من هذا السجن والعودة إلى الوطن. وقد عرفنا كيف أن الإدارة الإنجليزية للجزيرة قد حظرت على العرابيين العمل بها، ما حرمهم من الانصراف عن مأساتهم بالعمل، وأجبرهم على التفكير باستمرار فى وضعهم الأليم بها. وقد شغل البارودى نفسه أولا بتعلم اللغة الإنجليزية فى بداية الأمر، حتى أجادها، وكان يجيد قبلها التركية والفارسية. واستطاع أن يستعيض بها عن افتقاره إلى مكتبته الكبيرة من الكتب العربية والتركية والفارسية التى تركها خلفه فى القاهرة. وقد منع البارودى كما منع غيره من العرابيين من العمل، فضاق مللا، ولم يكن أمامه مما يفرغ فيه ذا الضيق إلا الشعر بين الفينة والأخرى. صحيح أنه أنفق كثيرًا من وقته فى تعليم مسلمى الجزيرة اللغة العربية، كى يعرفوا لغة دينهم، بل وأسهم كثيرا فى تثقيفهم فى أموره المختلفة، إذ كان يعتلى منبر مسجد كاندى كل جمعة ويشرح لهم تعاليم الإسلام وما تنطوى عليه شعائره من قيم ودلالات. لكن هذا كله لم يدفع عنه الحزن والملل، أو فقدان الأهل والأحباب، أو تأمل تصاريف الأقدار معه. اقرأ هنا إحدى
قصائده فى هذا الغرض: محا البينُ ما أبقتْ عيون المها منى فشِبتُ ولم أقضِ اللُّبانة من سنى عناءٌ، ويأسٌ، واشتياقٌ وغربةٌ ألا، شدَّ ما ألقاه فى الدهر من غبنِ فإن أكُ فارقتُ الديار فلى بها وطن أضلتْهُ عيون المها مِني ولمْ تَمْضِ إلا خَطْرَةٌ، ثم أقلعت بنا عن شطوط الحى أجنِحةُ السُّفْنِ فكم مُهجةٍ من زَفْرَةِ الوجدِ فى لظى وكم مُقلَةٍ مِنْ غزرة الدمع فى دَجْنِ وما كنتُ جربتُ النوى قبل هذه فلما دهتنى كِدتُ أقضى من الحزن ولكننى راجعتُ حِلْمِى ، وردنى إلى الحَزْمِ رأى لا يحومُ على أَفْنِ فقد تُورِقُ الأغصان بعد ذبولها ويبدو ضياء البدر فى ظلمةِ الوَهنِ فلا خيْرَ فى الدنيا إذا المرءُ لم يعشْ مهيبًا، تراه العينُ كالنار فى دغْنِ وقد عاش البارودى بحق مهيبا تراه العين كالنار فى دغن، حتى جاءه نبأ السماح له بالعودة، فحزم حقائبه وعاد مع أسرته الجديدة ليلم شملها مع تلك التى خلفها وراءه، ووصل القاهرة فى أغسطس عام 1899. ومن مفارقات القدر أن ظل الظلم يلاحقه حتى وخديو مصر الجديد ينصفه، لأن رب السيف والقلم، وصاحب الأسلوب البليغ الرفيع، وقد عاد إلى وطنه بناء على العفو الصحى الذى أصدره الإنجليز عنه، كان لا يزال فى حاجة إلى أن يستصدر الخديو قراره بالسماح له باسترداد أملاكه والتصرف فيها كى يرعى أسرته، وفى 17 مايو 1900، أى بعد عشرة شهور من عودته، أصدر الخديو عباس حلمى أمره الركيك: «بناء على الإنهاء المرفوع لنا من محمود سامى بالتماس الإحسان عليه بالتمتع بالحقوق الوطنية، قد اقتضت مكارمنا منح المومى إليه التمتع بالحقوق الوطنية. وعلى ذلك فيجوز له من الآن امتلاك أى نوع كان فى الأقطار المصرية بطريق الإرث أو الهبة أو البيع أو بأى طريقة كانت الذى كان محروما منه بمقتضى الأمر العالى الصادر فى 14 من ديسمبر سنة 1882 (30 من صفر 1300)، وأصدرنا هدا لعطوفتكم لإجراء مقتضاه». لكننى لا أريد أن اختتم الحديث عن البارودى بكلمات الخديو الركيكة، وإنما بأبيات من قصيدته البليغة الجميلة التى كتبها عقب وصوله إلى مصر: أَبَابِلُ رَأْىَ العَيْنِ أَمْ هَذِهِ مِصْر فَإِنِّى أَرَى فِيهَا عُيُونَا هِىَ السِّحْرُ نَوَاعِسَ أَيْقَظْنَ الهَوْى بِلَوَاحِظٍ تَدِينُ لَهَا بِالفَتْكَة البِيضُ وَالسُّمْرُ فَلَيْسَ لِعَقْلٍ دُونَ سُلْطَانِهَا حِمَىً وَلاَ لِفُؤَادٍ دُونَ غِشْيَانِهَا سِتْرُ فَإِنْ يَكُ مُوسَى أَبْطَلَ السِّحْرَ مَرَّةً فَذَلِكَ عَصْرُ المُعْجِزَاتِ، وَذَا عَصْرُ فَأَيُّ فُؤَادٍ لاَ يَذُوبُ صَبَابَةً وَمُزْنَةِ عَيْنٍ لاَ يَصُوبُ لَهَا قَطْرُ؟ بِنَفْسِى -وَإِنْ عَزَّتْ عَلَىَّ- رَبِيبَةٌ مِنَ العِينِ فِى أَجْفَانِ مُقْلَتِهَا فَتْرُ فَتَاةٌ يَرِفُّ البَدْرُ تَحْتَ قِنَاعِهَا وَيَخْطِرُ فِى أَبْرَادِهَا الغُصُنُ النَّضْرُ تُرِيكَ جُمَانَ القَطْرِ فِى أُقْحُوَانَةٍ مُفَلَّجَةِ الأَطْرَافِ، قِيلَ لَهَا ثَغْرُ تَدِينُ لِعَيْنَيْهَا سَوَاحِرُ «بَابِلٍ» وَتَسْكَرُ مِنْ صَهْبَاءِ رِيقَتِهَا الخَمْرُ رَضِيتُ مِنَ الدُّنْيَا بِحُبِّكِ عَالِمًا بِأَنَّ جُنُونِى فِى هَوَاكِ هُوَ الفَخْرُ هَوَىً كَضَمِيرِ الزِنْدِ لَوْ أَنَّ مَدْمَعِى تَأَخَّرَ عَنْ سُقْيَاهُ لاَحْتَرَقَ الصَّدْرُ إِذَا مَا أَتَيْتُ الحَىَّ فَارَتْ بِغَيْظِهَا قُلُوبُ رِجَالٍ حَشْوُ آمَاقِهَا الغَدْرُ يَظُنُّونَ بِى شَرًّا، وَلَسْتُ بِأَهْلِهِ وَظَنُّ الفَتَى مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وِزْرُ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ إِنْ تَرَنَّمَ شَاعِرٌ بقَافِيَةٍ لاَ عَيْبَ فِيهَا، وَلاَ نُكْرُ؟ أَفِى الحَقِّ أَنْ تَبْكِى الحَمَائِمُ شَجْوَهَا وَيُبْلَى فَلاَ يَبْكِى عَلَى نَفْسِهِ حُرُّ؟ وَكَيْفَ أَسُومُ القَلْبَ صَبْرَاً عَلَى الهَوَى وَلَمْ يَبْقَ لِىْ فِى الحُبِّ قَلْبٌ وَلاَ صَبْرُ وَإِنِّى امْرُؤٌ تَأْبَى لِىَ الضَّيْمَ صَوْلَةٌ مَوَاقِعُهَا فِى كُلِّ مُعْتَرَكٍ حُمْرُ أَبِىٌّ عَلَى الحِدْثَانِ، لاَ يَسْتَفِزُّنِى عَظِيمٌ، وَلاَ يَأْوِى إِلَى سَاحَتِى ذُعْرُ إِذَا صُلْتُ صَالَ المَوْتُ مِنْ وَكَرَاتِهِ وَإِنْ قُلْتُ أَرْخَى مِنْ أَعِنَّتِهِ الشِّعْرُ

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.