أسعار الدولار اليوم السبت 18 مايو 2024.. 46.97 جنيه بالبنك المركزي    أسعار الخضراوات والفاكهة اليوم السبت 18مايو 2024.. البطاطس ب11 جنيهًا    225 يوما من العدوان.. طائرات الاحتلال الإسرائيلي تركز قصفها على رفح    المستشار الأمني للرئيس بايدن يزور السعودية وإسرائيل لإجراء محادثات    البيت الأبيض: أطباء أميركيون يغادرون قطاع غزة    موناكو وجالاتا سراي يتنافسان على التعاقد مع محمد عبد المنعم    مؤتمر صحفي ل جوميز وعمر جابر للحديث عن نهائي الكونفدرالية    مواعيد مباريات اليوم السبت 18 مايو 2024 والقنوات الناقلة.. الأهلي ضد الترجي    بعد قليل، أولى جلسات محاكمة الفنانة انتصار بتهمة الشهادة الزور    شاومينج يزعم تداول أسئلة امتحان اللغة العربية للشهادة الإعدادية بالجيزة    حنان شوقى: الزعيم عادل إمام قيمة وقامة كبيرة جدا.. ورهانه عليا نجح فى فيلم الإرهابي    «الأرصاد»: طقس السبت شديد الحرارة نهارا.. والعظمى بالقاهرة 39 درجة    زيلينسكي: أوكرانيا بحاجة إلى 120 إلى 130 طائرة إف-16 لتحقيق التكافؤ الجوي مع روسيا    إرشادات وزارة الصحة للوقاية من ارتفاع ضغط الدم    حظك اليوم وتوقعات برجك 18 مايو 2024.. مفاجآة ل الدلو وتحذير لهذا البرج    محمد سامي ومي عمر يخطفان الأنظار في حفل زفاف شقيقته (صور)    تشكيل الترجي المتوقع لمواجه الأهلي ذهاب نهائي دوري أبطال أفريقيا    أوما ثورمان وريتشارد جير على السجادة الحمراء في مهرجان كان (صور)    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 18 مايو    ناقد رياضي: الترجي سيفوز على الأهلي والزمالك سيتوج بالكونفدرالية    موعد مباراة الأهلي والترجي في ذهاب نهائي دوري أبطال أفريقيا    عاجل - تذبذب جديد في أسعار الذهب اليوم.. عيار 14 يسجل 2100 جنيه    عادل إمام.. تاريخ من التوترات في علاقته بصاحبة الجلالة    ذوي الهمم| بطاقة الخدمات المتكاملة.. خدماتها «مش كاملة»!    لبلبة تهنئ عادل إمام بعيد ميلاده: الدنيا دمها ثقيل من غيرك    نوح ومحمد أكثر أسماء المواليد شيوعا في إنجلترا وويلز    كاسترو يعلق على ضياع الفوز أمام الهلال    خالد أبو بكر: لو طلع قرار "العدل الدولية" ضد إسرائيل مين هينفذه؟    حماية المستهلك يشن حملات مكبرة على الأسواق والمحال التجارية والمخابز السياحية    تفاصيل قصف إسرائيلي غير عادي على مخيم جنين: شهيد و8 مصابين    رابط مفعل.. خطوات التقديم لمسابقة ال18 ألف معلم الجديدة وآخر موعد للتسجيل    حلاق الإسماعيلية: كاميرات المراقبة جابت لي حقي    إصابة 3 أشخاص في تصادم دراجة بخارية وعربة كارو بقنا    مفتي الجمهورية: يمكن دفع أموال الزكاة لمشروع حياة كريمة.. وبند الاستحقاق متوفر    الأول منذ 8 أعوام.. نهائي مصري في بطولة العالم للإسكواش لمنافسات السيدات    مذكرة مراجعة كلمات اللغة الفرنسية للصف الثالث الثانوي نظام جديد 2024    بعد عرض الصلح من عصام صاصا.. أزهري يوضح رأي الدين في «الدية» وقيمتها (فيديو)    مصطفى الفقي يفتح النار على «تكوين»: «العناصر الموجودة ليس عليها إجماع» (فيديو)    عمرو أديب عن الزعيم: «مجاش ولا هيجي زي عادل إمام»    لبنان: غارة إسرائيلية تستهدف بلدة الخيام جنوبي البلاد    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    سعر العنب والموز والفاكهة بالأسواق في مطلع الأسبوع السبت 18 مايو 2024    هل مريضة الرفرفة الأذينية تستطيع الزواج؟ حسام موافي يجيب    مؤسس طب الحالات الحرجة: هجرة الأطباء للخارج أمر مقلق (فيديو)    طرق التخفيف من آلام الظهر الشديدة أثناء الحمل    البابا تواضروس يلتقي عددًا من طلبة وخريجي الجامعة الألمانية    «البوابة» تكشف قائمة العلماء الفلسطينيين الذين اغتالتهم إسرائيل مؤخرًا    هاني شاكر يستعد لطرح أغنية "يا ويل حالي"    مفاجأة في عدد أيام عطلة عيد الأضحى المبارك لعام 2024    إبراشية إرموبوليس بطنطا تحتفل بعيد القديس جيورجيوس    دار الإفتاء توضح حكم الرقية بالقرأن الكريم    أستاذ علم الاجتماع تطالب بغلق تطبيقات الألعاب المفتوحة    ب الأسماء.. التشكيل الجديد لمجلس إدارة نادي مجلس الدولة بعد إعلان نتيجة الانتخابات    سعر اليورو اليوم مقابل الجنيه المصري في مختلف البنوك    أكثر من 1300 جنيه تراجعا في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 18 مايو 2024    دراسة: استخدامك للهاتف أثناء القيادة يُشير إلى أنك قد تكون مريضًا نفسيًا (تفاصيل)    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معاناة العرابيين فى المنفى.. وسياسة الإنجليز لوأد شعبيتهم د. صبرى حافظ
نشر في التحرير يوم 01 - 02 - 2014

حانت الفرصة بعد الشهور الأولى للعرابيين فى سيلان لحاكم الجزيرة، سير جون لانجدون/ دوجلاس لأن يطبق هذا الشعار الاستعمارى العتيد على العرابيين فى منفاهم
الثورة المضادة تعى حقيقة أن خروج «جنى» الثورة من القمقم هو نفسه دليل استحالة إعادته إليها
شهادة المفتش العام للشرطة المرسلة إلى وزير المستعمرات فى لندن تؤكد مدى ضألة مخصصات المنفيين
غواية الاستئثار وما يدعوه الإسلامجية ب«التمكين» أبرز غرائز الضعف البشرى
لم يكن عدم الاستقرار فى المسكن بسبب ضيق ذات اليد أساسا من نصيب عرابى وحده. فقد نال كل من الباقين حظهم منه
اضطر عرابى بعد أربعة أشهر فى «بيت البحيرة» إلى الانتقال إلى بيت أصغر فى حى أبسط
كان عرابى وصحبه موضع مراقبة الشرطة الإنجليزية لمتابعة تأثيرهم على مسلمى سيلان
كلما قرأت عما جرى للعرابيين بعد ثورتهم المظفرة فى مصر، وفرضهم إرادة التقدم والتغيير فى وقفة عابدين الشهيرة على الخديو، وكيف تحول هذا الانتصار الباهر بمؤامرات الخديو والإنجليز إلى خيانات وهزيمة انتهت إلى نفيهم، أو بعد استقبالهم فى المنفى وكأنهم من الأبطال الفاتحين فى سيلان، واحتفاء السكان بهم والتفافهم حولهم، وكيف تفرق شملهم، وتحولت هذه الشعبية إلى عزلة وشقاق، كلما هتفت: ما أشبه الليلة بالبارحة! تأكد لى أن داء الثقافة العربية العضال هو فقدان الذاكرة التاريخية التى تمكننا من تعلم دروس الماضى وتحول دون تكرار الأخطاء. وهو ما عبر عنه نجيب محفوظ فى رائعته «أولاد حارتنا» بأن «آفة حارتنا النسيان»، لأن أدوات الثورة المضادة التى استخدمت ضد العرابيين بشق صفهم وزرع الشقاق بينهم هى نفسها التى شقت صف الثورة المصرية النبيلة فى 25 يناير بخيانة الإسلامجية لها، وهى فى ذروة احتدامها، وذهابهم للتفاوض مع عمر سليمان ضدها، ثم ركوبهم موجتها واستئثارهم بثمارها، لا لتحقيق مشروعها، بل مشروعهم الذى أخفق طوال ثمانين عاما فى تحقيق شىء مما حققته، أو جمع شمل المصريين على التغيير كما فعلت. وها هى الشقوق فى صف الثورة تتسع وتتحول إلى حروب تسيل فيها دماء المصريين الغالية، دون إدراك أى من الفرقاء لحقيقتين ناصعتين: أولاهما أن عظمة الثورة فى وحدتها ونبل أهدافها، وتمسكها بالموقف الأخلاقى الأعلى. وثانيتهما أن لا أمل فى أن يركب أى فريق موجتها لإجهاضها، لأن جنّى الثورة الذى خرج من القمقم لن يعود إليه.
والواقع أن الثورة المضادة على مر التاريخ تعى هاتين الحقيقتين جيدا، خصوصا الحقيقة الثانية التى تقول بأن خروج جنى الثورة من القمقم هو نفسه دليل استحالة إعادته إليه. وتسليمها بهذه الحقيقة التى يبدو أن كثيرين ممن يريدون ركوب موجتها والحكم باسمها لا يدركونها، هى التى تدفع قوى الثورة المضادة إلى استنفاد قوة هذا الجنى فى الشقاق والصراعات الداخلية، لوعيها بأنها لن تستطيع ترويضه أو القضاء عليه. فتعمل على تشتيت بوصلة الثورة نفسها، كى تفصم عرى العلاقة الوثيقة بين نبل أهدافها والموقف الأخلاقى الأعلى الذى يوفر لها أهم أرصدتها، وهو شعبيتها والتفاف الجماهير حول أهدافها. ثم توجه سهامها بعد ذلك إلى وحدة الصف الثورى فتزرع الإحن والضغائن والخلافات بين فرقائها، وتوهم بعضهم بأن باستطاعتهم الاستئثار بكل شىء دون الآخرين. وغواية الاستئثار وما يدعوه الإسلامجية ب«التمكين» أبرز غرائز الضعف البشرى، لأنها تدرك جيدا، بسبب حدّة ذاكرتها التاريخية التى تعانى الثورات من فقدانها، الدرس الذى تعلمته من أسلافها فى التجربة الاستعمارية: درس «فرّق تَسُد»!
وإذا كنا قد تعرفنا على بعض فصول الدهاء الإنجليزى فى محاربة الثورة العرابية طوال العام الذى امتد من انتصارة وقفة عابدين فى سبتمبر 1881 حتى احتلال مصر فى سبتمبر 1882، فإن تجليات هذا الدهاء لم تنته بإدارة الإنجليز الماكرة لسياقات محاكماتهم، ولا حتى لطريقة نفيهم كيلا يتحولوا إلى أبطال أو شهداء، وإنما استمرت بعد نفيهم. وشهدت حياتهم فى الجزيرة بعض تجليات استمرار مؤامرات الثورة المضادة ضدهم. فقد لاحظ حاكم الجزيرة، سير جون لانجدون/ دوجلاس Sir John Langdon / Douglas، أن شعبيتهم التى وطد نفسه على أنها موجة حماس سرعان ما تتآكل وتتبدد بعد أن ينقشع ألق الجدة الذى أثار حماس السيلانيين لهم، لم تتآكل، بل توطدت. وأخذ قادة المسلمين فى الجزيرة يستعيدون، بفضل تعرفهم على خطاب العرابيين الوطنى ونزعاتهم الاستقلالية، شيئا من أهميتهم القديمة. ويعدون أبناءهم، بتعليم جديد رسم عرابى أهم ملامحه، يستخدم لغة المستعمِر ويدعم فى الوقت نفسه هوية المستعمَر بالتركيز على تعليم العربية، لغة دينهم ومصدر قسم مهم من ثقافتهم، للقيام بأدوار جديدة فى مجتمعهم لا يرحب الدهاء الإنجليزى بها بأى شكل من الأشكال. وهذا ما جعله يستشعر بعض الخطر منهم على السلام الاجتماعى فى الجزيرة التى يحكمها لصالح إمبراطورية بلاده التى لا تغيب عنها الشمس فى ذلك الوقت. وهو الأمر الذى دفعه إلى شحذ أدوات الدهاء الاستعمارى و«فرِّق تَسُد» ضدهم، كى يبث بذور الخلاف والشقاق بينهم من ناحية، وبينهم وبين مسلمى الجزيرة من ناحية أخرى.
وقد حانت الفرصة بعد الشهور الأولى للعرابيين فى سيلان لحاكم الجزيرة، سير جون لانجدون/ دوجلاس لأن يطبق هذا الشعار الاستعمارى العتيد على العرابيين فى منفاهم، كى يجهز على شعبيتهم المتنامية فى الجزيرة. خصوصا أنهم اشتكوا له عدم كفاية مرتباتهم فى لقائهم الرسمى الأول معه. ومعرفته بأنه قد منع عليهم العمل فى الجزيرة أو كسب أى نقود فيها. وقد كانت مخصصاتهم ما يعادل بالعملة المحلية 4350 روبية للباشوات الستة أو ما يعادل ثلاثين جنيها إسترلينيا فى الشهر، وستة آلاف روبية لعرابى باشا، أى ما يزيد قليلا على أربعين جنيها إسترلينيا فى الشهر. وحتى ندرك قيمتها بالنسبة إلى السياق المحلى والتاريخى معا، علينا أن نعرف أن مرتب عقيد فى الجيش كان 5400 روبية، ومرتب المهندس 5 آلاف روبية، وعضو المجلس المحلى 4 آلاف روبية، ومرتب المقدم بالجيش 4800 روبية، وراتب موظف حكومى بسيط هو 3750. ولاحظ الحاكم بالفعل الآثار الفعلية لضيق ذوات أيديهم بعد هذا اللقاء بأسابيع قليلة. فما إن مرت ثلاثة أشهر على الزعماء السبعة فى المنفى حتى بدأ بعضهم فى البحث عن مساكن أرخص للانتقال إليها بدلا من المساكن الراقية الفخمة التى وفرها لهم الإنجليز بشكل مؤقت. وهو الأمر الذى يكشف عن أن تصور الإنجليز للمستوى الجدير بأن يعيشوا فيه، كان بالقطع أفضل كثيرا من ذلك الذى وفرته لهم رواتبهم المصرية. حيث كان كل منهم يوظف عديدا من الخدم فى بيته، وهو الأمر الذى كشفت عنه قائمة ركاب السفينة التى أقلتهم إلى منفاهم، حيث كان عدد الخدم فى كل أسرة يفوق عدد أفرادها.
وقد اضطر عرابى بعد شهور أربعة فى «بيت البحيرة» الرحب إلى الانتقال إلى بيت أصغر فى حى أبسط، هو حى مارادانا الذى يقع فيه المسجد فى مايو 1883، ثم انتقل بعده إلى بيت آخر فى منطقة المنظر الجميل Belle Vue فى حى موتوال Mutwal، بعدما أخفق فى استئجار بيت أكبر وبإيجار معقول يملكه بنك الادخار. وانتهى به الأمر للاستقرار فى «بيت إليزابيث Elizabeth House» فى ميدان هورتون بحى حدائق القرفة الشهير، وهو البيت الذى عاش فيه لعدة سنوات حتى انتقل إلى مدينة «كاندى» عام 1893. ولم يكن عدم الاستقرار فى المسكن بسبب ضيق ذات اليد أساسا من نصيب عرابى وحده. فقد نال كل من الباقين حظهم منه.
حيث انتقل عبد العال حلمى من «بيت البحيرة» إلى «المستراح The retreat» ومنه إلى بيت أصغر هو «بيت بريمير Braemar» فى منطقة حدائق القرفة التى انتقل إليها عرابى، وظل فيه حتى فاجأته ذبحة صدرية أى سكتة دماغية Apoplexy أودت بحياته فى 19 مارس عام 1891، ودفن فى مقبرة المسلمين فى كولومبو، ولا يزال قبره متميزا فيها حتى اليوم. أما محمود فهمى، وكان أكثرهم عزلة عن رفاقه، فقد انتقل من «بيت سترون Struan House» إلى «مستراح Retreat» آخر فى منطقة ماتكوليا Mattakkuliya، ومنه إلى بيت معزول نسبيا عن المدينة فى منطقة سانت هيلين St Helen فى بوريللا Borella، لكنه كان قريبا من كلية الطب التى التحق بها ابنه. وهو البيت الذى بقى فيه حتى وافته المنية عام 1894 ودفن هو الآخر فى المقبرة نفسها، وغير بعيد عن قبر عبد العال حلمى. أما رب السلاح والقلم، محمود سامى البارودى، فقد انتقل من «بيت سترون Struan House» الذى كان يقيم فيه مع محمود فهمى إلى بيت فى منطقة ولفيندال Wolfendhal، ثم إلى بيت صغير آخر فى منطقة ويست Whist، حتى استقر نسبيا فى «بيت ذروة المنظر Peak View» فى منطقة حدائق القرفة إلى أن ترك المدينة برمتها، وانتقل إلى بيت جميل فى شارع ترينكومالى Trincomalee Street بمدينة «كاندى» عام 1888 بعد زواجه من كريمة يعقوب سامى، الذى لحق به بدوره إلى كاندى بعدما تنقل بين عدة بيوت فى كولومبو، واستأجر منزلا فى نفس الشارع كى يكون قريبا من ابنته وزوجها الجديد.
أما على فهمى الذى جاء معه بزوجته الشركسية التى لفت جمالها وبياض بشرتها وفخامة ملابسها أنظار السيلانيين منذ وصولها إلى الجزيرة، كما ذكرت، فقد استأثرت حالته باهتمام كبير نقرأ بعض أصدائه فى المراجع الإنجليزية. حيث كتبت الليدى جريجورى رسالة مؤثرة بالنيابة عنها لرئيس الوزراء البريطانى وقتها تقول فيها «إن هذه المرأة المسكينة تنحدر من أسرة عريقة واسعة الثراء فى مصر، وإننى أتحدث عنها من خلال معرفة شخصية حميمة بها وزيارتى لبيتها قبل النفى. وهى زوجة فاضلة حفيّه بأسرتها، وقد ربت أبناءها على خير وجه. لذلك يتمزق قلبها وهى ترى زوجها وأبناءها يعانون من الفقر والعوز، بصورة تدعو إلى اليأس، وتجعلها تفكر فى أن تترك زوجها وأبناءها وتعود، فهى الوحيدة فى أسرتها التى تملك حرية حق العودة، كى توفر لهم نفقاتها. لكن قلبها لا يطاوعها على ترك أسرتها.» (راجع وثائق دار المحفوظات البريطانية SNLA/ 4/ 165 –Dispatch No. 385، 19 December 1884).
لكن وصف زوجة على فهمى نفسها لما عانته فى الغربة، والموجود مع نفس حزمة الوثائق، أشد تأثيرا. حيث تقول فى رسالة بعثت بها إلى الليدى أوجستا جريجورى «لقد تخليت عن ممتلكاتى، وبعت كل متعلقاتى بأقل من قيمتها. وليس لدى أى مصدر للدخل أو الإنفاق غير مخصصات زوجى، وقد اضطرتنى إلى البقاء مع أولادى داخل البيت، لأنه ليس لدى ما يمكننى من شراء ملابس مناسبة لنفسى أو لأولادى. وقد اضطررت إلى التخلص من كثير من متاعى وليس لدى ولا لدى أى من بناتى ملابس مناسبة يمكننا أن نظهر بها خارج المنزل. فالثلاثون جنيها إسترلينيا المخصصة لنا شهريا لا تكفى بالكاد لإطعام 14 شخصا لمدة عشرين يوما، ناهيك بشهر كامل». وقد أضافت الليدى جريجورى لتلك الرسالة شهادتها فى تعليق إضافى بأنها وقد أتيح لها فى زيارتها الأخيرة لسيلان، التى كان زوجها سير وليام جريجورى حاكما لها من قبل، أن ترى منزل على فهمى من الداخل فيها، وتشهد بأنه مثال على الفقر والعوز، ولا علاقة له بما سبق أن شاهدته من بذخ وعزّ فى منزلهم بالقاهرة، قبل النفى. (راجع الوثيقة SNLA/ 4/ 162 –Dispatch No. 189، 19 May 1884) كما أضاف زوجها السير وليام جريجورى فى شهادته هو الآخر بأن منزل على فهمى فى سيلان يفتقر إلى كثير من الأثاث الضرورى، وأنه ينطق بالفقر والحاجة. (راجع الوثيقة SNLA–Dispatch No. 189، 19 May 1884).
والواقع أن شهادة المفتش العام للشرطة والمرسلة إلى وزير المستعمرات فى لندن تؤكد هى الأخرى مدى ضآلة مخصصاتهم وما تسببه لهم من معاناة وحرج على المستوى الاجتماعى فى الجزيرة، خصوصا أن جل أهل الجزيرة، خصوصا المسلمين منهم، كانوا ينظرون لهم بقدر كبير من التقدير والإجلال. حيث يقول «إنه بعد دراسة تفصيلية لأحوالهم، ومراقبة لأسلوب حياتهم، يمكن القول إنهم يعيشون حياة هادئة لا إسراف فيها، بل فيها شىء من الضنك والتقتير. فمستوى معيشتهم لا يزيد على مستوى معيشة مقدم فى الجيش الإنجليزى يرأس فوجا من الجنود هنا. فهل يمكن أن يعد ذلك المستوى لائقا بحق لمن كانوا باشوات سابقين ووزراء ولواءات قبل الحرب؟ ولا بد هنا من القول إن عقيدا فى أول السلم الوظيفى يحصل على مرتب أعلى من مخصصات كل من الباشوات الستة، وإنه لا بد من زيادة مرتبات الباشوات الستة إلى 5 آلاف روبية لكل منهم على الأقل. أما عرابى فيمكن أن يترك على ما هو عليه وهو ستة آلاف روبية» (راجع الوثيقة SNLA/ 6/ 7763 –Letter of the Inspector General of Police to the Colonial Secretary، 17 September 1885).
وقد سبق وتابعنا من قبل كيف أن الحكومة الإنجليزية قد تلكأت فى استخدام نفوذها أو فرض أوامرها على الحكومة المصرية لزيادة مخصصاتهم، ولم تتحرك بشكل فعّال فى هذا المجال إلا بعدما تعددت الاستجوابات فى مجلس العموم بهذا الشأن. وحينما تقررت تلك الزيادة المحدودة وهى ما يعادل خمسمئة جنيه إسترلينى فى العام، أى أقل من خمسين جنيها فى الشهر توزع على الباشوات السبع، ترك أمر توزيعها بينهم لتقديرات حاكم الجزيرة الإنجليزى. رغم أن انجلترا لم تدفع مليما فى هذه الزيادة، وإنما جاءت كلها من الخزينة المصرية. وهو الأمر الذى أحسن الحاكم استخدامه لصالح تصوره لأمن الجزيرة، ووفق أولويات الثورة المضادة التى لم تتغير منذ ذلك الزمن البعيد، وهى العمل على شق الصف وزرع بذور الشقاق والخلاف كما قلت بين الثوار، خصوصا أن حاكم الجزيرة كان قد أرسل إلى وزارة المستعمرات أكثر من تقرير عن تأثير العرابيين على جماعة المسلمين فى سيلان. وكيف أنهم لعبوا دورا رئيسيا فى استنهاض همة المسلمين فيها، وإرهاف وعيهم بعد عصور من التدهور والانحطاط. فقد وجد عرابى فى سيدى لبّة غايته وأداته فى تحقيق الكثير من أهدافه التحديثية الطموحة، التى كان ينوى تحقيقها فى مصر. وجمع المسلمين ونهض بهم، بل كان له دور فى تمثيلهم فى مجلس الحكم بسيلان فى الوقت الذى عانى فيه التامل الذين يفوقونهم عددا من غياب التمثيل، بل وزعم كثيرون من معارضى تمثيل التامل فى المجلس بأن المسلمين هم فى حقيقة الأمر تامل اعتنقوا الإسلام. وكان هناك جدل طويل حول أصل المسلمين العرقى فى سيلان، غيرة مما حققوه بإلهام من عرابى باشا، لذلك كان عرابى وصحبه موضع مراقبة الشرطة الإنجليزية لمتابعة تأثيرهم على مسلمى سيلان، وعلى مشاعر سكانها الوطنية من السينهاليز أيضا.
فماذا فعل السير جون دوجلاس حاكم المدينة بهذه الزيادة. لقد قرر استخدامها فى زيادة راتب عرابى بما يعادل عشرين جنيها إسترلينيا فى الشهر، بحجة فقر عرابى وتحمله لكثير من نفقات الاستضافات التى لم يتوقف توافدها على بيته. وهو ما يستهلك نصف الزيادة المصرية وهى 500 جنيه إسترلينى فى السنة. بينما زاد رواتب البعض الآخر بما يعادل سبعة جنيهات فى الشهر، دون أى زيادة لمرتب محمود سامى البارودى، بناء على تقرير بأن لزوجته التى تركها وراءه فى القاهرة دخلا يعادل ثلاثمئة جنيه إسترلينى فى السنة. وهو الأمر الذى أدى إلى زرع بذور الشقاق بين عرابى والبارودى، خصوصا أن البارودى كان يشعر فعلا بالضيم، وقد تقرر له دخل شهرى يقل عن دخل عرابى من البداية، وهو الذى كان رئيسا له فى أكثر من وزارة فى مصر، وفى الأقدمية العسكرية على السواء. وقد أدى هذا إلى شق صف الثوار السبعة فانضم كل من عبد العال حلمى وعلى فهمى إلى صف عرابى، وعملوا بحماس معه فى أكثر من مشروع من مشروعاته للنهوض بمسلمى سيلان. بينما انضم كل من يعقوب سامى وطلبة عصمت إلى جانب محمود سامى البارودى، ونأى محمود فهمى بنفسه عن خلافات الفريقين، وبقى معزولا وحده بعيدا عنهما. وسرعان ما أدى الانقسام إلى رحيل مجموعة محمود سامى البارودى عن كولومبو واستقرارها فى «كاندى»، بينما ظل عرابى مع مجموعته فى كولومبو وحدهم. حيث احتدم العمل الجدى فى تأسيس «الكلية الزاهرة» والارتقاء بكل أجنة النظام التعليمى الجديد الذى أسسه عرابى فى الجزيرة من مدارس بسيطة كى تصبح نظاما تعليميا جديدا ومتكاملا، يحظى باعتراف الحكومة المحلية والإدارة الاستعمارية على السواء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.