رئيس برلمانية مستقبل وطن يكشف ملامح تعديلات قوانين انتخابات النواب والشيوخ    قرار جديد من القضاء بشأن معارضة نجل الفنان محمد رمضان على إيداعه بدار رعاية    السيسي يفتتح المرحلة الأولى من مدينة مستقبل مصر الصناعية بمحور الشيخ زايد بالجيزة    أسعار العملات العربية والأجنبية مقابل الجنيه بختام تعاملات اليوم 21 مايو 2025    53655 شهيدا، آخر إحصاء لضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة    بينهم ممثلون عن مصر.. إطلاق نار إسرائيلي يستهدف وفدًا دبلوماسيًا خلال زيارة لمخيم جنين    أردوغان: الفلسطينيون يعيشون الجحيم في غزة    موقف الدبيس وعطية الله من لقاء فاركو    تقارير: جنابري يقترب من العودة لمنتخب ألمانيا    إصابة 11 عاملا في انقلاب سيارة بالطريق الإقليمي في القاهرة الجديدة    سكارليت جوهانسون تتألق في جلسة تصوير فيلم Eleanor the Great بمهرجان كان    تصعيد دموي جديد في بلوشستان يعمق التوتر بين باكستان والهند    قومى المرأة بالبحر الأحمر تطلق مبادرة معا بالوعي نحميها بمشاركة نائب المحافظ    رواج في شراء الأضاحي بالوادي ىالجديد.. والبيطري يحدد الشروط السليمة لاختيارها    «يرافقني أينما ذهبت».. تصرف مفاجئ من محمود فايز بعد ارتباطه ب الأهلي (تفاصل)    بيراميدز يكشف سبب غياب إيجولا عن مواجهة صنداونز في نهائي أفريقيا    جوارديولا يهدد إدارة مانشستر سيتي بالاستقالة بسبب الصفقات    «الإسكان الاجتماعي» يبدأ إتاحة كراسة شروط «سكن لكل المصرين7»    القبض على صيدلي هارب من 587 سنة سجن بمحافظة القاهرة    مقتل نائب أوكراني سابق مقرب من روسيا بإطلاق نار قرب مدريد    ولي عهد الفجيرة: مقتنيات دار الكتب المصرية ركيزة أساسية لفهم التطور التاريخي    أفلام موسم عيد الفطر السينمائي تحقق 217 مليون و547 ألف جنيه في 7 أسابيع عرض    نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة يستجيب لاستغاثة مواطن طفله يعاني من عيوب خلقية في القلب    طرح أول لقاح فى العالم ضد مرض "السيلان" بالمملكة المتحدة    وزير الشباب يستقبل بعثة الرياضيين العائدين من ليبيا في العاصمة الإدارية    محافظ القليوبية يَشهد إحتفالية ختام الأنشطة التربوية بمدرسة السلام ببنها    إزالة 12 مخالفة بناء بمدينة الطود ضمن أعمال الموجة 26    تحرير 151 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    العثور على جثة حارس عقار داخل وحدة سكنية في قنا    مباحث تموين المنوفية تضبط كيانات مخالفة لإنتاج وتوزيع منتجات غذائية    الرئيس السيسى ل الحكومة: ليه ميتعملش مصنع لإنتاج لبن الأطفال في مصر؟    «بنسبة 100%».. شوبير يكشف مفاوضات الأهلي مع مدافع سوبر    لمواليد برج الحمل.. اعرف حظك في الأسبوع الأخير من مايو 2025    طلاب الاعدادية الأزهرية يختتمون امتحانات الفصل الدراسي الثاني بالمنيا    بوتين في كورسك.. رمزية استعادة الأرض ودور كوريا الشمالية    السيسي: تمهيد الأراضي الزراعية أمام القطاع الخاص لدفع التنمية    نائب وزير الإسكان يتفقد مصنع "شين شينج" الصيني لمواسير الدكتايل    "هندسة بني سويف الأهلية" تنظم زيارة لمركز تدريب محطة إنتاج الكهرباء بالكريمات    توفير فرص عمل لذوي الهمم في القطاع الخاص بالشرقية    خلال 24 ساعة.. ضبط 49941 مخالفة مرورية متنوعة    بعد زواج 26 عاماً.. أحمد السقا يعلن انفصاله عن مها الصغير    رئيس إذاعة القرآن الكريم الأسبق: أيام الحج فرصة عظيمة لتجديد أرواح المسلمين.. فيديو    فتاوى الحج.. دليلك في حالة المرض    ضبط شركة سياحية غير مرخصة بتهمة النصب والاحتيال على المواطنين    قبل أيام من حلوله.. تعرف على أبرز استعدادات السكة الحديد ل عيد الأضحى 2025    اليوم العالمي للشاي.. قصة اكتشافه وأساطير متعلقة به في الثقافة الصينية    استخراج جسم معدني خطير من جمجمة طفل دون مضاعفات بمستشفى الفيوم الجامعي    محافظ أسيوط يتفقد مدرسة النيل الإعدادية ويكرم المتفوقين رياضيًا – صور    بالصور- محافظ أسيوط ينقل مريضة بسيارته الخاصة لاستكمال علاجها    هل يجوز سفر المرأة للحج بدون مَحْرَم؟..الأزهر للفتوى يجيب    وزير الخارجية الأمريكي: لم نناقش ترحيل الفلسطينيين إلى ليبيا    بوتين: نخوض حرباً ضد النازيين الجدد    موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2025    المستشار محمود فوزي: قانون الإجراءات الجنائية اجتهاد وليس كتابا مقدسا.. لا شيء في العالم عليه إجماع    الإيجار القديم.. محمود فوزي: الملاك استردوا استثماراتهم.. الشقة كانت تُباع بألف وتُؤجر ب15 جنيهًا    ملحن آخر أغنيات السندريلا يفجّر مفاجأة عن زواج سعاد حسني وعبدالحليم حافظ سرا    عاجل.. الأهلي يقترب من التعاقد مع عمر فايد    تفسير حلم أكل اللحم مع شخص أعرفه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استقبال العرابيين فى كولومبو.. وبداية حياة جديدة د. صبرى حافظ
نشر في التحرير يوم 11 - 01 - 2014

لا نعرف على وجه الدقة هل كان أحمد عرابى يعرف شيئا من اللغة الإنجليزية قبل نفيه أم أنه بدأ يتعلمها وهو على ظهر السفينة «ماريوت»
كثيرا من المعلومات والتفاصيل عما جرى للعرابيين كانت قد وجدت طريقها إلى جزيرة سليان قبيل وفودهم
تجمع المستقبلون حول عرابى وأخذوا يقبلون يديه وقدميه
لم يقتصر زحام المستقبلين على مسلمى سيلان وقتها وإنما كان فيهم كثيرون من السنهاليين البوذيين والهندوس من التاميل توافد البشر من كل بقاع سيلان إلى ميناء كولومبو لمشاهدة العرابيين القادمين من مصر
كما نعرف أن أكثر الزعماء السبعة تعليما وثقافة كان محمود سامى البارودى الذى كان يجيد التركية والعربية، ويعرف شيئا من الفرنسية، وكان من أبرز شعراء عصره حتى حظى بلقب «رب السيف والقلم». كما كان البارودى أكبر من عرابى سنًّا، فقد كان فى السادسة والأربعين وقتها، وكان محمود فهمى فى نفس عمره، ولا يكبرهما عمرا إلا يعقوب سامى الذى كان أكبرهم جميعا إذ بلغ عند النفى الثامنة والأربعين. بينما كان الباشوات الأربعة الباقون، بمن فيهم عرابى نفسه، فى الثانية والأربعين من العمر، وهو ما ينبهنا إذا ما تذكرنا أيضا أن جمال عبد الناصر كان فى الرابعة والثلاثين حينما قام بثورته عام 1952، إلى أن الثوار يكونون دائما فى شرخ الشباب أو سمت الكهولة، لا كما هو الحال فى من ركب موجة الثورة المصرية الراهنة من العواجيز من العسكر والإسلامجية. وركوب العواجيز على الثورة عندى هو سر تخبُّطها، ولو تركوها للشباب لكان حالها وحال مصر أفضل.
وكنت منذ وصلت إلى كولومبو وأفطرت فى شرفة الفندق الشرقى الكبير المطلة من الدور الثالث على الميناء، كل صباح، لا أتوقف عن تأمل مبناه الحالى وهو نفس المبنى الذى خرج منه عرابى إلى حياته الطويلة فى كولومبو، قبل أن يغادرها بعد سنوات ليستقر به المقام فى كاندى. وأخذت أبحث عن كل المصادر التى يمكن أن أعثر فيها على وصف هذا الهبوط، بعدما قرأت عنه فى بعض المصادر السريلانكية المكتوبة باللغة الإنجليزية. وكلما جمعت المعلومات عنه تتابعت الأسئلة فى داخلى: هل كان ممكنًا أن تكون المفارقة بين الرحيل من الوطن بليل وفى تكتم شديد، ودون أى مودعين غير الحرس أو السجانين، والهبوط فى هذا المنفى البعيد الذى استُقبِل فيه العرابيون استقبال الأبطال، أكبر مما حدث؟ وكيف كان وقع المفارقة عليهم؟ هل لا بد فى نهاية المطاف من تعويض عن الظلم؟ وهل لا يصح دائما إلا الصحيح، مهما انتصر الجور والظلم وتَفَشَّت الخيانة؟
فحينما رست السفينة «ماريوت» قبيل المغرب فى الساعة الخامسة مساءً يوم الثلاثاء 9 يناير 1883 فى ميناء كولومبو، كان الميناء غاصًّا بالبشر الذين توافدوا من كل بقاع الجزيرة لاستقبال العرابيين، بصورة لم تعرفها هذه الجزيرة من قبل، ولم يتوقعها حكامها الإنجليز، لأن كثيرين منهم جاؤوا من مدن بعيدة، إذ كان عدد كبير قد وفد إلى الميناء من مدينة كاندى. على الرغم من أن الصحافة السيلانية، والتابعة إلى حد ما للإنجليز أو على الأقل المراقبة منهم، كانت قد نشرت عند مغادرة سفينة العرابيين للسويس قبل أسبوعين عدة تقارير سلبية عنهم. وكان أكثر المستقبلين من المسلمين، وكان عددهم فى ذلك الوقت فى سيلان كلها 198 ألف نسمة (أصبح الآن قرابة مليونين)، وكان يعيش منهم فى كولومبو وقتها 32 ألفا (أصبحوا الآن أكثر من ربع مليون) قيل إن أغلبهم وفد إلى الميناء لاستقبال العرابيين. وهم من أنشط سكان الجزيرة، وقد شعروا بأن أواصر الدين والعرق تربطهم بالوافدين الجدد، إذ يزعم كثير منهم أنهم ينحدرون من أصول عربية وفارسية، وأنهم استقروا فى الجزيرة قبل وفود الإنجليز إليها بزمن طويل. ويسميهم البعض بالهنود العرب «Indian Moors» ويجعلهم هذا الإحساس بأصولهم العربية يشعرون بأنهم أرقى عرقيا على الأقل من بقية السكان. وقد استدعى تزايد عددهم بشكل غير مسبوق قيام مدير الشرطة المفتش هولاند Inspector Holland ووكيله الرائد ترانشيل Captain Tranchell بالإشراف بنفسيهما على الأمن فى الميناء.
فلم يقتصر زحام المستقبلين على مسلمى سيلان وقتها، وإنما كان فيهم كثيرون من السنهاليين البوذيين والهندوس من التاميل. وكان الزحام على الميناء كبيرا إذ جاء كثيرون بعائلاتهم كاملة، بصورة حالت دون الشرطة وإخلاء ممر لطبيب الميناء (الدكتور جارفن Dr Garvin) لفحص ركاب السفينة قبل السماح لهم بمغادرتها، حسب الأعراف المتبعة فى ذلك. ولم يستطع الطبيب اعتلاء السفينة إلا بعد أكثر من ساعة من رسوها، وفى الساعة السابعة مساءً مصحوبا بمدير الميناء الكابتن دونان Captain Donnan. وتبعه عدد من الضباط الإنجليز الذين بقوا على ظهرها ما يقرب من الساعة، ثم عادوا مع الطبيب بنبأ مفاده أن ركاب السفينة على ما يرام، ولكنهم سيبيتون على متنها هذه الليلة، ولن ينزلوا منها إلا فى صباح اليوم التالى، يوم الأربعاء، على أمل أن يؤدى هذا الأمر إلى تبدد زحام المستقبلين. ولكن هيهات. فقد بقى أغلبهم حتى الصباح. وكان كل ما شاهده المتجمهرون من ركاب السفينة فى تلك الليلة هو الجنود المصريين على ظهرها بلباسهم الرسمى. وكان عدد من المستقبلين قد نزلوا إلى الميناء فى قوارب صغيرة وأحاطوا بسفينة العرابيين أملا فى رؤية أى منهم دون جدوى.
وقد أفاد الطبيب المحتشدين بأن صحة الركاب جميعا بخير، باستثناء حالة واحدة من ضيق التنفس، وهى الحالة التى كان يشكو منها عبد العال حلمى، رجعها الطبيب إلى دوار البحر أو عواقبه، وأنه سيسمح لهم جميعا بمغادرة الباخرة فى الصباح. وفى صباح اليوم التالى كان حشد المستقبلين لا يزال على كثرته. وكان المسلمون كما تقول التقارير أكثر المحتشدين حماسا لرؤية أحمد عرابى باشا وصحبه. وكان المفروض إنزالهم من السفينة فى السابعة صباحًا، ولكن الزحام كان شديدا، وأنذرت الشرطة المحتشدين بأنهم إن لم يتراجعوا بعيدا عن الميناء قليلا فلن ينزل العرابيون من السفينة. وفى السابعة والنصف صباحا وفد الحاكم الإنجليزى لجزيرة سيلان: السير جون دوجلاس Sir John Douglas ومعه رئيس مجلس مدينة كولومبو ج.ت.أوبراين G.T.O'Brien، وصعدا إلى السفينة، واجتمعا مع الباشوات السبعة اجتماعا طويلا، شرح لهم فيه ما أعده لاستقبالهم من استئجاره عدة بيوت لسكناهم بشكل مؤقت، على أن يختار كل منهم فى ما بعد أى سكن يريده حسب رغبته، سواء فى مدينة كولومبو أو فى غيرها من المدن. وأبلغهم أنه مسموح لهم بالإقامة فى أى مكان من الجزيرة ما عدا المقاطعتين الشمالية والشرقية لصعوبة الاتصال المنتظم بهاتين المقاطعتين، خصوصًا أن المقاطعة الشمالية التى تسكنها أغلبية من التاميل كانت دائما ولا تزال من مناطق الخلافات والصراعات المستمرة. ويكشف هذا الاستثناء عن رغبة الحكومة الإنجليزية فى أن يظل العرابيون تحت عينيها أو بالأحرى موضع مراقبتها، وإن لم تقل لهم ذلك صراحة. كما أبلغهم الحاكم بأنه ليس مسموحا لأى منهم القيام بأى عمل أو نشاط سياسى فى المدينة، فقد أجرت الحكومة المصرية عليهم راتبا شهريا سيحوله البنك العثمانى كل شهر إلى سيلان.
ولم تبدأ عملية نزول أى منهم من السفينة إلا بعد أكثر من ساعة من صعود الحاكم الإنجليزى إليها. ويكشف وصف الصحف السيلانية المفصل لعملية إنزالهم عن أن رصيف الركاب الكبير الذى أطل عليه كل صباح من شرفة فندقى (فندق الشرق الكبير) لم يكن قد بنى بعد، فى ما يبدو. وكان الركاب يتوافدون من السفن الكبيرة الراسية على مبعدة من الرصيف إلى الميناء فى قوارب صغيرة. تصل بهم إلى مبنى الميناء المحفوف الآن برصيفين كبيرين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره يسمحان برسو السفن الكبيرة عليهما مباشرة. وقد بدأ نزولهم فى العاشرة صباحا، وكان أولَ من وصل منهم إلى الشاطئ قارب صغير يُقِلّ على فهمى، وأفراد أسرته وحاشيته وعددهم 15 شخصا، عشرة منهم من الحريم ما بين زوجات ووصيفات وخدم. وقد أثار نزوله لغطًا كبيرًا إذ ظن كثيرون أنه أحمد عرابى باشا، كما أن ملابس النساء الثمينة، وكان بعضها من الحرير الخالص، قد أثارت انتباه المحتشدين، كما أثار اهتمامهم أن إحداهن رفعت خمارها عن وجهها فبان أبيض صبوحا يسر الناظرين. وقد أثار بياضها الذى يناظر بياض الأوروبيين تعليقات الصحف يومها، كما أثار طول الزعماء/الضباط المصريين تعليقات مماثلة، بخاصة أن سمرة السريلانكيين داكنة، كما أن قاماتهم تميل إلى القصر.
وأقلت مجموعة من العربات على فهمى وأفراد أسرته إلى إقامة برايبروك Braybrooke Lodge ثم وفد بعده القارب الثانى إلى الشاطئ وكان على متنه الزعيمان محمود سامى البارودى -لم يكن بصحبته غير شخصين: خادم وطباخ- ومحمود فهمى الذى صحب ثمانية معه بينهم ثلاثة من أبنائه، وتوجهت بهم العربات إلى بيت سترون Struan House حسب توجيهات السيد أوبراين فى ما يبدو، ومعرفته بسعة البيوت التى استُؤجِرت لهم. وأخذ المحتشدون يتساءلون أيهم عرابى، ويحتارون فى ما إذا ما كان عليهم تتبع من ينزل، أم الانتظار كى يحظوا بشرف رؤية عرابى باشا نفسه. ولم تطأ أقدام عرابى، واسطة عقد المنفيين ورابع من نزل منهم إلى الميناء، أرض الشاطئ إلا فى الساعة الواحدة بعد الظهر، ومعه ستة من أفراد أسرته وخدمه. وما إن علم المستقبلون أنه عرابى حتى تجمعوا عليه يقبّلون يديه وقدميه. وكان الرجل، كما تصفه المصادر السيريلانكية نفسها، طويلا شامخا عريض المنكبين مرفوع الرأس له مهابة الزعماء، وكان يلوح للمستقبلين كأنه يستقبل المهنئين بعد مظاهرة قصر عابدين المظفرة. وقد أخذته العربات إلى بيت البحيرة Lake House. ودبت الحيرة بين جماهير المحتشدين، هل يتبعون عرابى، وهو هدف مجيئهم إلى الميناء، أم أن عليهم الانتظار لمشاهدة بقية الزعماء؟ فلحق جزء كبير من الحشود به فى رحلته إلى بيت البحيرة، وصاحبت الحشود فى «زفّة» كبيرة المركبتين اللتين تقلاه مع أفراد أسرته إلى البيت طوال الطريق الذى يمتد لأكثر من كيلومتر.
لكن حب الاستطلاع أبقى عددا لا بأس به من المستقبلين، مع أن آلافًا تتبعوا عرابى إلى المسكن الذى سينزل فيه. فلم يكن استقبال الزعماء الثلاثة الباقين أقل حماسة من الثلاثة الذين نزلوا قبل عرابى. فقد تبع عرابى قارب به طلبة عصمت ومعه 14 شخصا، فأخذتهم العربات إلى بيت البحيرة الذى نزل به عرابى. وآخر به يعقوب سامى ومعه 17 شخصا، وقد دفعته حرارة اللقاء إلى الإقبال على المستقبلين يصافحهم واحدا واحدا، فظنه بعضهم لأنه أكبرهم سنا أحمد عرابى، ولكنه أخبرهم أن عرابى باشا قد نزل من السفينة قبله بأكثر من ساعة. وأخذته العربات هو وأسرته إلى بيت هارلم Haarlem House. وكان آخرهم عبد العال حلمى ومعه 12 شخصا، وكان أكثرهم إرهاقا وقد بدا عليه الحزن، فظن المستقبلون أنه مريض، وأخذوا يقدمون له ثمار جوز الهند التى يعتقدون أن شرابها الطازج الذى يعبونه من الثمرة مباشرة بعد أن يثقبوها ترياق لكل الأمراض. فتقبلها منهم شاكرا. وأخذته العربات إلى بيت البحيرة الذى نزل به عرابى وطلبه عصمت من قبله، لأنه كان أكبر البيوت وأكثرها رحابة وتحيط به حديقة كبيرة تزيد مساحتها على عشرين فدانا. وكانت الشرطة قد عينت «كونستبلا» مسلما لحراسة كل بيت من هذه البيوت والسهر على رعاية سكانه.
الغريب أن التقرير الذى نشرته أحد الصحف السيلانية عن وصولهم، ذكر أن صحفى الجريدة قد علم أن زوجة عرابى المفضلة لم تجئ معه، وهو أمر مثير حقا أن تكون مثل تلك المعلومات قد وصلت إلى الصحف السيلانية فى ذلك الوقت (راجع عدد «الأوبزيرفر» الأسبوعى The Weekly Ceylon Observer يوم 11 يناير 1883)، ويعنون بذلك زوجته الأولى ابنة مرضعة إلهامى باشا، وأخت زوجة الخديوى توفيق فى الرضاعة، التى تقول المصادر الإنجليزية إن الليدى جريجورى، التى كانت صديقة مقربة لها، قد تدخلت لدى السلطات الإنجليزية لاستثنائها من النفى الذى رُئِىَ وقتها على أنه نوع شديد من العقاب على نساء لا ذنب لهن ولا جريرة. والواقع أن كثيرا من المعلومات والتفاصيل عما جرى للعرابيين كانت قد وجدت طريقها إلى جزيرة سيلان قبيل وفودهم. فقد أرسل الإنجليز نسخة من الإقرار الذى وقعه كل منهم قبيل المحاكمة بقبول النفى وينص على «أقسم أنا الموقع أدناه بالله وعلى قرآنه الكريم، وبشرفى الشخصى بقبول الذهاب إلى المنفى الذى تحدده لى الحكومة وأنا أبقى فيه». وقد تم توثيق كل تعهد على حدة أمام موثق جلالة الملكة فى القدس السيد نويل تمبل Noel Temple الذى استدعاه اللورد دوفرين لمصر لهذا الغرض وكان ملحقا به. وكانت هذه الإقرارات قد أودعت فى وزارة الداخلية البريطانية وأرسلت نسخة منها لوزارة المستعمرات، لتبعث بدورها نسخة لمندوبها المكلف بجزيرة سيلان.
وقد تم تفسير هذا الإقرار فى سيلان على أنهم سيبقون فيها إلى أجل غير مسمى، وقد وجدت الحكومة الإنجليزية فى الجزيرة أن عليها أن تتعامل بحذر معهم، لأنها تصورت أن كل ما ستفعله معهم ستصل أخباره إلى لندن. وهذا ما حدث بالفعل. فلم تمض أيام قليلة على وصولهم إلى كولومبو حتى قدم أول استجواب بشأنهم فى مجلس العموم. لكن دعنا نؤجل الآن ما كان يدور فى بريطانيا، لنتتبع ما عاشه الزعيم وصحبه عقب وصولهم إلى البيوت الأربعة المستأجرة لهم. فلم يتوقف سيل الزوار القادمين لتهنئتهم بسلامة الوصول طوال يوم وصولهم، الأربعاء. وتواصل نفس الأمر طوال اليوم التالى الخميس. وكان عرابى هو محط اهتمام كل الزوار، فهو الاسم الذى سمع به الجميع، وجاؤوا ساعين لمشاهدته والحديث معه. كما كان البيت الذى أقام فيه «بيت البحيرة» هو أكبر البيوت، ولكنه كان فى نفس الوقت أشدها ازدحاما إذ نزل به ثلاثة من العرابيين وأسرهم: عرابى وعبد العال حلمى وطلبة عصمت. فكان مجموع من يقيمون به خمسة وثلاثين شخصا. وقد بقى المترجم سليم عطا الله معهم بسبب تدفق الزوار المستمر على «بيت البحيرة» والحاجة المستمرة إليه.
ولم يتغير الأمر قليلا إلا يوم الجمعة 12 يناير 1883 حينما قرر عرابى مع ضحى الجمعة الذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة. فصحبه موكب كبير من المسلمين إلى مسجد مارادانا Maradana Mosque القريب، بصورة لم يشهد المسجد لزحامها من قبل مثيلا، حتى ضاق لأول مرة عن استيعاب المصلين. ولم يعرف المسؤولون عن المسجد ماذا يفعلون، فاقترح عليهم عرابى، وكان إمام المسجد يتحدث قليلا من العربية، أن يفرشوا الحصر حول المسجد من الخارج، كى يتمكن المصلون الذين لا يستوعبهم المسجد من الصلاة مع المصلين. وأن هذا الأمر يحدث دائمًا فى مصر التى يزداد فيها عدد المصلين يوم الجمعة عن مساحات المساجد. وكان هذا أمرًا جديدًا عليهم، ليس فقط لأن جو سيلان مغاير لمناخ مصر، وأن بها شهورا تتواصل فيها الأمطار ليل نهار، فالسنة مقسَّمة عندهم لا إلى الفصول الأربعة التى نعرفها من شتاء فربيع فصيف فخريف. وإنما إلى فصول أربعة أخرى، اثنان منها ممطران Rainy Seasons يتواصل فيهما المطر لشهور، واثنان جافان Dry Seasons. لكن هذا اليوم الذى ذهب فيه عرابى لصلاة أول جمعة له فى كولومبو كان صحوا، مما مكنه من اقتراح هذا الحل المصرى. هنا اكتشف المسلمون لأول مرة الكثير الذى يمكنهم تعلمه من عرابى، فبدأ زعماؤهم فى التوافد عليه، ونصّبوه بالتدريج زعيما لهم يأخذ بأيديهم، لا إلى طريق الهداية فى شؤون دينهم فحسب، ولكن إلى طريق التطور والتقدم فى شؤون دنياهم كذلك. وهو الأمر الذى لم يكن سهلا، كما سنرى!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.