شهدت السويس رحيل زعماء الثورة العرابية إلي منفاهم، إذ كان قد صدر في 3 من ديسمبر 1882 حكم المحكمة العسكرية علي أحمد عرابي باشا بالإعدام، ثم صدر في نفس اليوم أمر خديوي بتعديل الحكم إلي النفي المؤبد، وفي 7 من ديسمبر صدر الحكم بإعدام كل من طلبة عصمت باشا وعبد العال حلمي أبو حشيش باشا، ومحمود سامي البارودي باشا، وعلي فهمي الديب باشا، ثم تلا رئيس المحكمة في نفس الجلسة أمرا خديويا بتعديل هذه الأحكام إلي النفي المؤبد من الأقطار المصرية وملحقاتها، ووقع اختيار الحكومة البريطانية علي جزيرة سيلان لتكون منفي للزعماء الأبطال. واجتمع الزعماء السبعة في سجن الدائرة الثانية يوم 13 من ديسمبر 1882 ليتباحثوا في إعداد معدات رحيلهم عن الوطن، وفي 25 من ديسمبر نفذ في الزعماء السبعة الأمر الخديوي الصادر في 21 من ديسمبر بتجريدهم من جميع رتبهم وألقابهم وعلامات الشرف التي كانوا حائزين لها، فجمعوا في الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم في ساحة قصر النيل، وقرأ علي غالب باشا وكيل وزارة الحربية أمر التجريد ثم أعيدوا إلي السجن "والأهالي مصطفون في الطريق يبكون وينتحبون. أما والدة الخديو توفيق فكانت في عربتها خارج قصر النيل لتشمت بنا". وفي مساء 27 من ديسمبر أعدت الحكومة المصرية قطارا خاصا وقف في ثكنات قصر النيل واستقله الزعماء السبعة مع من اختاروهم من الأقارب والخدم وقد بلغ عددهم جميعا 48 فردا، ولم يكن في وداعهم علي رصيف القطار سوي رجلين إنجليزيين هما المستر برودلي Broadley أحد المحاميين اللذين توليا الدفاع عن عرابي أمام المحكمة العسكرية، والسير شارل ويلسن Charles Wilson مندوب السلطة الإنجليزية الذي حضر جلسات التحقيق مع عرابي. وتحرك القطار بالزعماء الأبطال في الساعة العاشرة مساء من ثكنات قصر النيل إلي السويس، وكانت السلطات العسكرية البريطانية تخشي أن يتجمهر أهل عرابي وعشيرته في محطة الزقازيق عند مرور القطار بها، ولذلك حرصت علي أن يمر القطار بمحطة الزقازيق في منتصف الليل وأن تسافر معهم في القطار فصيلة من الجنود الإنجليز فضلا عن قوة من الجنود المصريين، ورافقهم إلي السويس المستر نابير Napeir المحامي الإنجليزي الثاني الذي تولي الدفاع عن عرابي، وبلغ القطار ميناء السويس في الساعة الثامنة من صباح يوم 28 ديسمبر 1882م. وكانت الحكومة المصرية قد استأجرت _ في مقابل ستة آلاف جنيه إنجليزي _ باخرة إنجليزية صغيرة تسمي مريوط Mareotis حمولتها 1392 طنا لنقل الزعماء الأبطال وحاشيتهم إلي منفاهم، وفي الساعة العاشرة صباحا دخلت هذه الباخرة ميناء السويس فصعد إليها الزعماء وأقلعت بهم في الساعة الواحدة بعد الظهر إلي ثغر كولومبو ميناء سيلان، وعهدت الحكومة المصرية إلي الكولونيل موريس بك وهو ضابط إنجليزي في خدمة الحكومة _ أن يرافقهم في السفر إلي المنفي، واصطحبهم أيضا ضابط برتبة رائد في البحرية المصرية يسمي علي عباس أفندي ومعه شرذمة من الجنود بصفة حرس علي الزعماء أثناء الرحلة، كما سافر معهم لهذا الغرض سليم عطا الله، وأخذ الزعماء معهم مترجما علي نفقتهم هو نجيب ابكاريوس أفندي. وعندما ابتعدت السفينة عن ميناء السويس ولي الزعماء الأبطال وجوههم شطر البر ينظرون في أسي إلي أرض الوطن الذي أبعدوا عنه، ويقول عرابي "يا كنانة الله صبرا علي الأذي، حتي يأتي الله لك بالنصر" أما محمود سامي البارودي فجادت قريحته عند تحرك السفينة من السويس بقصيدة نذكر منها هذه الأبيات: محا البين ما أبقت عيون المها مني فشبت ولم أقض اللبانة من سني عناء ويأس واشتياق وغربة ألا شد ما ألقاه في الدهر من غبن فإن أك فارقت الديار فلي بها فؤاد أضلته عيون المها عني بعثت به يوم النوي إثر لحظة فأوقعنا المقدار في شرك الحسن ولما وقفنا للوداع وأسبلت مدامعنا فوق الترائب كالمزن أهبت بصبري أن يعود فبزني وناديت حلمي أن يثوب فلم يفن وما هي إلا خطرة ثم أقلعت بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن فكم مهجة من زفرة الشوق في لظي وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن وما كنت جربت النوي قبل هذه فلما دهتني كدت أقضي من الحزن ولكنني راجعت حلمي وردني إلي الحزم رأي لا يحوم علي أفن وكانت هذه الرحلة أول سفرية للسفينة مريوط في البحر الأحمر والمحيط الهندي لأنها من السفن الصغيرة، وكانت تقطع في الساعة الواحدة 11 ميلا كأنها تسير في النيل وحيتان البحر تحيط بها وتسابقها في السير، ومكث الزعماء علي هذه الحالة المملة أربعة عشر يوما حتي بلغوا ثغر كولومبيا في غروب يوم 9 من يناير 1883، وألقت السفينة مرساها وحضر إليهم وكيل حكومة سيلان لتحيتهم، وأمضوا الليل في الباخرة، وفي صباح 10 يناير نزلوا إلي البر فوجدوا رصيف الميناء مزدحما بالمسلمين من أهل الجزيرة وجاوه والهند والملايو وأعيان أهل البلاد من أتباع مذهب بوذا وتوجهوا إلي المنازل التي أعدت لهم حيث عاشوا في هذه الجزيرة النائية سنين عددا حياة ملؤها البؤس والشقاء، والألم من المصير الذي آلت إليه حياتهم، وانقطعت صلتهم بالمصريين ولم يكترث لهم أحد، وطال اغترابهم عن الوطن وساءت صحتهم لعدم ملاءمة جو الجزيرة لهم. احتفال أهالي السويس بعرابي عند عودته من المنفي : دارت اتصالات سياسية بين الحكومة البريطانية والحكومة المصرية في مستهل 1901 لإطلاق سراح أحمد عرابي وعلي فهمي الزعيمين اللذين بقيا علي قيد الحياة في الجزيرة إلي ذلك الوقت، وتحت ضغط الحكومة البريطانية صدر في 11 من يونيو 1901 عفو الخديو عباس حلمي علي هذين الزعيمين، وأبرق إليهما حاكم الجزيرة بأنه قادم إلي "كندي" ليحمل إليهما شخصيا هذه البشري وفي أغسطس 1901 بارح علي فهمي جزيرة سيلان وعاد إلي القاهرة في أول سبتمبر 1901، وفي 4 سبتمبر غادر عرابي "كندي" في صالون الحاكم وقد ألحق بالقطار المتجه إلي كولومبو، واحتفل الأهالي في المدينتين بعرابي وانتظر قوم الباخرة الألمانية "البرنس هنري" من الصين وفي يوم الرحيل قدم أهالي الجزيرة الهدايا إلي عرابي وأقلعت به السفينة فوصلت ميناء السويس في غروب 29 من سبتمبر 1901، وفي الصباح غادر السفينة إلي أرض الوطن بعد نفي استطال تسعة عشر عاما، ونزل في مدينة السويس في منزل الشيخ النجاري، وكتب عرابي إلي مصطفي ماهر بك محافظ السويس وكان من تلاميذ عبد الله نديم ومعروفا بحب الحرية "فأنكرنا وأعرض عنا ولم يتنازل إلي الرد علينا" فبعث عرابي برقية إلي فخري باشا قائمقام الخديو عباس. فكتب إلي مصلحة السكك الحديدية بتخصيص صالون في القطار الذي يقوم من السويس إلي الإسماعيليةفالزقازيق فبنها فالقاهرة علي حساب الحكومة المصرية، وكان عدد أفراد أسرته وحاشيته 21 فردا. وفي أول أكتوبر استقل عرابي وصحبه القطار من السويس، وازدحم أهالي المدينة علي رصيف المحطة لوداع عرابي. ومن الجدير بالذكر أنه قد توفي من الزعماء في جزيرة سيلان كل من عبد العال حلمي في كولومبو (19 مارس 1891) ثم محمود فهمي في كندي عاصمة الجزيرة (17 يوليو 1894) ثم يعقوب سامي في 1 أكتوبر 1900 وأذنت الحكومة المصرية لطلبة عصمت في العودة إلي مصر لتدهور صحته فعاد إلي مصر ومات في نفس السنة كما صدر أمر بالعفو عن محمود سامي البارودي لأنه كان قد فقد نور عينيه فعاد إلي مصر في سبتمبر 1900 ورد إليه الخديو أملاكه وحصل علي متجمد إيراداتها من ديوان الأوقاف ومنحه حقوقه المدنية. ولكن لم يعد إليه بصره وجاز إلي ربه في ديسمبر 1904 .