انتهينا فى الحلقة الأولى من سرد وقائع المذبحة بين الإنجليز والمصريين بالإسكندرية وقد دكت معظم الحصون والطوابى وقتل عشرات المصريين ودفنوا تحت الأنقاض بينما لم تصب سفن الأسطول الإنجليزى إلا بأضرار بسيطة لا يرهبون الموت. ونستكمل فى هذه الحلقة الشهادات الأجنبية على بسالة الجنود المصريين. شهد العديد من القادة الإنجليز والأمريكان على مدى بسالة المصريين فى الدفاع عن مدينتهم ومنها ماقاله القومندان (جودريتش) من رجال البحرية الأمريكية وكان على متن السفينة الحربية الأمريكية لانكاستر فى تقريره الذى رفعه إلى حكومته وقال فيه إن جنود المدفعية المصرية جاوبوا نيران الأسطول الإنجليزى مجاوبة لم تكن منتظرة بتاتا وأظهروا بسالة عجيبة رغم التفاوت الجسيم بينهم وبين الإنجليز من حيث عدد المدافع وعيارها وقد كانت البارجة أنفليكسيبل تطلق مقذوفاتها التى تزن 1700 رطل على حصن الفنار وتصطدم بساتره فتثير الغبار والشظايا والجنود المصريون فى مواقفهم يطلقون القنابل على خصمهم الرهيب. وقال البارون دى كيوزل بك وكيل مصلحة الجمارك المصرية الذى كان على متن السفينة تنجور فى كتابه ذكريات رجل إنجليزى عن مصر أن جنود المدفعية المصرية أثبتوا بسالة أمام نيران المدرعات الإنجليزية وظلوا يلقون القنابل باستمرار فتصيب أهدافها من هذه البوارج فليس هناك ريبة فى بطولة الجنود المصريين. وقد نشر السائح الألمانى الشهير شوينفورث فى إحدى الجرائد السكندرية الأجنبية مذكراته عن الفترة العصيبة حيث كان يقيم فى بيت فى قلب المدينة الساخنة أما عبدالله النديم خطيب الثورة فقام بإذاعة بعض الأخبار الكاذبة على صفحات جريدته الطائف التى كانت لسان حال الثورة العرابية فى ذلك الوقت فكانت تصدر وعلى صدر صفحاتها شعارات كاذبة من نوعية (ياثأر الإسكندرية يامجد عرابى ياشرف الوطن). وعلى الرغم من هذه الحرب غير المتكافئة التى كانت بين سفن وقطع حربية إنجليزية من جانب وجنود مصرية من جانب آخر إلا أن ذلك لم يمنع المصريين من المشاركة ومد يد المساعدة. وقد أطلق السكندريون البسطاء الأغانى الطريفة مثل ياسميور ياوش القملة مين قالك تعمل دى العملة مدد يامرسى يا أبو العباس.. مدد. وقد أختلطت الأهالى بالجند وتزاحمت على القلاع لمساعدة العسكر، فكثير من أهل الطرق الصوفية وقفت على الساحل بالببيارق والأعلام والطبول وهم يصيحون (يالطيف.. يالطيف) فماهى إلا لحظات وحولت المدافع فوهاتها إلى الجموع المحتشدة وأطلقت القنابل التى لم تفرق بين الجنود والأهالى ومزقنهم تمزيقا شديدا. وقد قال محمود باشا فهمى أحد أهم رجال عرابى أن الأهالى رجالا ونساء وأطفالا كانوا يساعدون الجنود بالذخائر وخراطيش البارود والمقذوفات. وهو ما أكده عرابى فى مذكراته من تطوع كثير من الر جال والنساء فى خدمة المجاهدين. وقد ذكر عرابى أن النار قد اشتعلت فى ذلك اليوم من تأثير مقذوفات العمارة الإنجليزية فى سراى رأس التين وكثير من بيوت الإسكندرية وقد ذكر عرابى فى مذكراته أن الخديو توفيق حتى الساعة السابعة مساء لم يكن يعرف أى تطورات عن الحرب أو نتيجتها وقد قرر مجلس الخديو رفع العلم الأبيض والاستسلام على الحصون إذا أستأنف الإنجليز الضرب فى اليوم التالى وما هو إلا وقت قصير حتى رفعت الإعلام البيضاء على حصون (الأطه وقايتباى ورأس التين). بعدها طلب الأميرال سيمور النزول إلى البر واحتلال ثلاث قلاع هى العجمى والدخيلة والمكس ولكن الخديو قال لايحق لمصر أن ترخص لنزول جنود أجنبية إلى البر بدون الرجوع للسلطان العثمانى باعتبار مصر جزءا من السلطنة العثمانية واستأنفت البوارج الإنجليزية الضرب على قلعة المكس ورفعت الأعلام البيضاء على القلاع وكان الاستسلام التام. وقد وصفت الكاتبة حالة الشتات بين الخديو وعرابى، فما أن بدأ الضرب حتى هرب كل منهما إلى جهة تاركين الشعب السكندرى يواجه مصيره، فقد هرب الخديو إلى قصر الملك وهرب عرابى إلى طابية كوم الدكة بحجة التباحث مع الجنود. وقد قال الشيخ محمد عبده أنه كان هناك نحو 150 ألفا من سكان مجردين من كل شىء أخذوا فى الحركة هاربين مهاجرين وما زاد من فزع السكان ورغبتهم فى الفرار بأى شكل هو ما حدث بعد ظهر يوم 12 يوليو حيث انتشر المنادون فى الأحياء العربية والحارات والأسواق يطلبون من السكان الهجرة والرحيل من المدينة فورا حيث سيتم حرقها بعد ساعة وهرب الأهالى ولم يبق إلا البدو واللصوص من الأجانب. وقد خطب آلاى سليمان سامى بن داوود فى الجنود قائلا: إن العدو يريد استسلام المدينة بالقوة ولكننا نحن عزمنا على إخلاء المدينة من الناس وعلى إحراقها حتى لا يستطيع العدو أن ينتفع بشىء منها وعلى الرغم من اعتراض بعض الجنود إلا أنه لم يهتم وأعطى أوامره لبقية الجنود ثم أخذ يهتم بإعداد المواد اللازمة للحريق وهى عبارة عن صفائح مملوءة بزيت البترول وكان سليمان سامى يستشيط غضبا إذا أشار عليه أحد بالعدول عن حرق المدينة. وانتقلت الكاتبة إلى نقطة مهمة وهى رحلة الخديو توفيق إلى قصر رأس التين ومشاق الرحلة مستشهدة بما ذكره سليم النقاش عن معاناة إحدى أميرات الأسرة المالكة وهى الأميرة توفيدة التى كانت حاملا وسقط حملها من الخطر والخوف بعد الحريق ثم توفيت فراحت شهيدة لبغى العرابيين. خسائر حريق الإسكندرية هو عنوان مقالة نشرها داود بركات حيث استمرت من الساعة الثانية بعد ظهر 12 يوليو واستمرت حتى مساء 18 يوليو وأسفرت عن خسائر تقدر ب26750175 فرنكا للأملاك وللأثاث 24625050، فرنكا وللبضائع 43395061 أما التعويضات التى دفعت فقد وصلت قيمتها إلى 106820236فرنكا. وتتابعت الأحداث سريعا فى بر مصر، فبينما كانت الإسكندرية تحاول مداواة جروحها بعودة سكانها وتنشيط حركة التشييد والبناء لإعادة إعمارها كان عرابى ورجال جيشه قد تقهقروا إلى كفر الدوار وتحصنوا فيها وبدأوا فى مواجهة الجيش الإنجليزى ولكن الأحداث تصاعدت سريعا حيث أرسل الخديو توفيق من مكمنه فى قصر رأس التين بالإسكندرية تلغرافا إلى عرابى يوم 17 يوليو يأمرة بالكف عن الاستعدادات الحربية ويحمله تبعية ضرب الإسكندرية ويدافع عن حسن مقاصد الأنجليز ويأمره بالحضور لسراى رأس التين، فما كان من عرابى إلا أن أرسل للخديو تلغرافا يشرح فيه وجهه نظره التى تخالف وجهة نظر الخديو وتؤكد على ضرورة الاستمرار فى الدفاع عن البلاد وبدأ كل واحد منهم فى العمل منفردا وقد أرسل عرابى تلغرافا شديد اللهجة إلى جميع المديريات والمحافظات يتهم الخديو ببيع مصر للإنجليز وحذر الجميع من اتباع أوامره وبدأ يؤلب عليه الأمة ويتهمه بالخيانة وأصدر الخديو قرارا بعزل عرابى من نظارة الجهادية لمخالفته أوامره وعلق منشورا فى شوارع الإسكندرية بأسباب عزله ولم يكترث عرابى بذلك ودعا لعقد جمعية عمومية حضر فيها 500 عضو وقررت بقاءه فى منصبه للدفاع عن البلاد وألمحت الجمعية لعزل الخديو والتشكيك فى شرعية حكمه. وقد عسكر عرابى بجيشه فى كفر الدوار وأخذت طلائع جيشه تناوش الإنجليز وكان عدد الجيش الإنجليزى 3686 مقاتلا جاءهم مدد قوامه 1108 مقاتلين من مالطة وجبل طارق. وقد حدد عرابى خمسة مواقع للدفاع فى كفر الدوار وأبى قير ورشيد وبحيرة البرلس ودمياط والصالحية وقد أظهر المصريون بسالة فى موقعة كفر الدوار حتى تمكنوا من رد الإنجليز لفترة لاتقل عن 6 أسابيع وفى معارك الرمل وعزبة خورشيد وبينما كان القتال دائرا على أشده فاجأ السلطان العثمانى البلاد بخبر حل كالصاعقة على رءوس الجيش فقد أصدر السلطان مرسوما بعصيان عرابى فقد كان المرسوم نكبة ففتر التفاف الجنود والشعب حول عرابى. وقد صدر مرسوم يقضى بالترخيص للجيش البريطانى باحتلال القناة وأن قائدى الجيوش البريطانية أتيا إلى مصر لإعادة الأمن والنظام إليها ومن ثم قد سمحنا لهما باحتلال جميع الأمكنة التى يساعد احتلالها على قمع العصيان ومن يخالف ذلك ينزل عليه أشد العذاب ومرت أيام قاسية على عرابى لم يكن يزيد عدد الجنود المصريين على 19 ألفا مما دعى عرابى إلى محاولة تجنيد عدد من الخفراء بلغ عددهم 25 ألفا ولكنهم لم يكونوا على دراية بأمور الحرب كما أن عدم ثقة عرابى بديليسيبس الخائن وعدم إغلاق قناة السويس ورشوة بعض جنود الجيش المصرى ومنشورات الخديو ضد عرابى أضعفت عرابى وجعلته هو ورجاله لقمة سائغة فى فم الإنجليز. واحتل الإنجليز القناة والإسماعيلية وانتقل عرابى إلى موقعة التل الكبير وهناك التف الناس حوله. وقد تراجع الجيش المصرى فى موقعة القصاصين نتيجه لخيانة أحد الضباط «على بك يوسف خنفس» على الرغم من أنها كانت أشد معركة بشهادة عرابى وجاءت الكارثة الكبرى فى معركة التل الكبير وهى التى حسمت الأمر لصالح الإنجليز فقد خان جيش العربان عرابى ودلوا الإنجليز على طريق عرابى فهجموا عليهم وهم نائمون وأطلقوا عليهم القنابل والبنادق حتى قيل أن 200 قتلوا قبل أن يصلوا للخنادق وانسحب عرابى وبعد الهزيمة عاد للقاهرة وبعد اجتماعات مكثفة عن أحوال الجيش استقر الأمر على الاستسلام وكتابة عريضة للخديو يلتمس فيها عرابى وأعوانه الصفح ولكن الخديو رفض ما جاء بها. وفى يوم 14 سبتمبر دخل قائد الجيوش الإنجليزية القاهرة على رأس كتيبة من الفرسان وعسكر فى العباسية وانتهت هوجة عرابى بتسليم نفسه للأعداء وسجن عرابى وطلبة عصمت فى 16 سبتمبر وفى 28 سبتمبر شكلت عدة محاكم عسكرية لمحاكمة زعماء الثورة العرابية وقد صدر الحكم على عرابى فى 3 ديسمبر بعد جلسة محاكمة لم تستمر لأكثر من 5 دقائق حيث اعترف عرابى بالعصيان الخديوى فنالوا حكم الإعدام ثم صدر بعد ذلك مرسوم خديوى بتخفيف الحكم إلى النفى المؤبد ومصادرة أملاكهم وبيعها لسداد التعويضات وتم تجريده هو وسبعة من الزعماء من الرتب والنياشين والامتيازات ومحو أسمائهم من سجلات الجيش المصرى نهائيا وتم نفى الزعماء السبعة إلى جزيرة سيلان.