ليست مجرد تواريخ وأيام للاحتفال, فكل تاريخ يحمل وراءه الكثير من الذكريات, وكل عيد يروي حكاية كتبها المصريون بدمائهم وأرواحهم ليرسموا لنا صورة لما ينبغي أن تكون عليه ملامح البطولة والفداء. جسدوا لنا في صفحات التاريخ أن المصري حين يهب للدفاع عن أرضه ووطنه وعرضه وتاريخه وتراثه لا تحركه انتماءات دينية أو عرقية ولا يرهبه فارق القوة والعتاد, فبندقية ومدفع في يد المعتدي تسقط أمام فأس و نبوت في يد المدافع عن حقه وكرامته, وجبروت وطغيان محتل غاصب لا مفر من إنكسارهما أمام إرادة التحدي المصرية التي جسدها الشاعر بقوله إذا المصري يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر. وحين نستغرق في سطور وحكايات الأعياد القومية لمحافظات الصعيد تطالعنا ملامح رئيسية تربط بين تلك الأعياد برابط خفي أولها أنها في معظمها سجلت حدوتة مصرية للصمود والتحدي في وجه الاستعمار علي مختلف العصور سواء كان ذلك الإستعمار, فرنسيا خلال فترة الحملة الفرنسية علي مصر18011798 م, حيث ارتبطت تواريخ الأعياد القومية لمحافظات أسيوط وسوهاج وقنا بمعارك دارت بين المصريين وقوات الاحتلال الفرنسي التي أرادت بسط سيطرتها الكاملة علي مصر وسيرت حملات نحو الصعيد في الفترة من يناير إلي أبريل من عام1799 م, فيما ارتبطت أعياد محافظات بني سويفوالفيوموالمنيا بذكري ثورة1919 والتي امتدت من القاهرة إلي مختلف محافظات مصر حيث شهدت خروج أهالي بني سويفوالمنيا في ثورة كبري ضد قوات الاحتلال الإنجليزي في مارس1919 م. وبرغم أن عيد أسوان القومي الذي يأتي في15 يناير من كل عام بعيد عن فترة الاحتلال الاستعماري لمصر, فهو مرتبط بفترة السبعينات من القرن الماضي وبالتحديد عام1970 الذي شهد الانتهاء من بناء السد العالي, فإنه يجسد أيضا معركة انتصر فيها المصريون علي الاستعمار, معركة السد التي أبت قوي الاستعمار الغربية وعلي رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية القوة الاستعمارية الناشئة في ذلك الوقت إلا أن تضع العوائق أمام المصريين في طريق بنائه من خلال رفض تمويله, وهو الرفض الذي كان السبب الرئيسي في اتخاذ الرئيس جمال عبدالناصر قرار تأميم قناةالسويس لتكون عوائدها وسيلة التمويل لبناء السد. وبالنظر إلي تلك الأعياد وتواريخها وقصصها نجد أنها اتسمت بكونها شتوية في معظمها حيث تتركز في الفترة من نوفمبر إلي أبريل من كل عام وتخلو منها شهور الصيف, وكأن الصعايدة اختاروا تلك الشهور بعيدا عن حرارة الصيف الشديدة لكي يكون انتصارهم خالصا لهم ولبسالتهم وإرادتهم دون أن يسلبهم سلاح الحر الشديد أي جزء من هذا الانتصار وينسبه لنفسه. كما اتسمت تلك الأعياد في كونها شهدت تنافسا بين الغريمين التقليديين إنجلترا وفرنسا ولكنه لم يكن تنافسا في الانتصارات وتوسيع المستعمرات بقدر ما كان تنافسا في الانكسارات والهزائم التي لحقت بقوي الدولتين العظميين أمام ثورات شعبية ومعارك غير متكافئة مع أهالي الصعيد غير المسلحين في القري والنجوع. معارك غير متكافئة, كتبت حكايات وبطولات في مختلف أنحاء الصعيد, بطولات جسدها المصريون البسطاء من أبناء الصعيد الذين تحركوا بدافع الوطنية ليدافعوا عن تراب الأرض فإما النصر أو الشهادة, فلم يكن محمد شحاته زعيري الكبير أول شهداء ثورة1919 في بني سويف ومعه ثاني الشهداء رفيقه محمد إبراهيم ميهوب يبحثون عن شهرة حين خرجوا لقيادة المظاهرات في15 مارس1919, أو يدركون أن تاريخ استشهادهم في تلك المظاهرات سيتحول إلي عيد قومي تحتفل به محافظة بني سويف في كل عام. وما حدث في بني سويف تكرر أيضا في الفيوموالمنيا حيث خرج أهالي الفيوم من فلاحين وبدو يوم15 مارس تحت قيادة حمد باشا الباسل وقاموا بالهجوم علي نقاط البوليس التي كانت في أغلبها إنجليزية وكبدوها خسائر فادحة واستشهد منهم ما يقرب من ال400 شهيد كتبوا بدمائهم تاريخ العيد القومي لمحافظة الفيوم, وفي المنيا خرجت الجماهير الغاضبة في مظاهرة كبري ضد الإنجليز في يوم18 مارس الذي جعلته عيدا قوميا لها واستطاعوا تكبيد القوات الإنجليزية في المنيا خسائر فادحة كان أشدها وطأة قتل الضابط الإنجليزي بوب بمدينة ديرمواس. ومثلما ذاق الإنجليز مرارة الإنكسار من أهل مصر والصعيد في1919 م تجرع الفرنسيون أيضا نفس المرارة ولكن قبل ذلك ب120 عاما حين تخيلوا أنهم بقضائهم علي المماليك وطردهم إياهم إلي الحدود الجنوبية في أسوان دانت لهم السيطرة علي الصعيد وتمكنوا منه, فما كان من أهل الصعيد إلا أن لقنوهم درسا بأن حرب المماليك شيء والسيطرة علي الصعايدة أصحاب الأرض شيء آخر. ولم تكن ثورة بني عدي في أسيوط تحت قيادة الشيخ حسن الخطيب في18 أبريل1799 وهو التاريخ الذي تحتفل فيه المحافظة بعيدها القومي كل عام سوي درس قاس في سلسلة الدروس التي تعلمها الفرنسيون في حملتهم إلي الصعيد التي عادوا منها مطأطئي الرؤوس في النهاية. وقد ضرب أهالي بني عدي- التي تقع علي طرف الصحراء الغربية لمركز منفلوط وعلي الطريق المؤدي إلي الوادي الجديد- في ذلك اليوم مثلا رائعا في البطولة والفداء حيث اجتمع فيها ما يزيد علي ثلاثة آلاف من الأهالي تحت زعامة الشيخ حسن الخطيب والشيخ محمد المغربي والشيخ أبو العدوي, وانضم إليهم450 من الأعراب المصريين و300 من المماليك لمواجهة القوات الفرنسية التي سارت إليهم بقيادة الجنرال دافو بهدف الاستيلاء علي بني عدي. وحين وصل الجنرال دافو وجنوده إلي بني عدي وجدوا الأهالي جميعا يحملون السلاح, وقد استبسل الأهالي في تلقي هجمات الجيش الفرنسي واشتبك الفريقان في معركة حامية في طرقات بني عدي وفي بيوتها التي حصنها الأهالي و جعلوا منها شبه قلاع, وحين شعر الفرنسيون بالعجز شرعوا في حرق القرية وأضرموا النار في بيوتها لتتحول إلي شعلة من النار, وبهذه الوسيلة نجح الفرنسيون في الدخول إلي بني عدي بعد أن أصبحت رمادا واحتلوا ما بقي من بيوتها وسلبوا ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم من أموال و كنوز. ولم تتوقف معارك الفرنسيين مع أهالي الصعيد عند أسيوط بل امتدت أيضا إلي سوهاج, والتي تحتفل بعيدها القومي في10 أبريل من كل عام تخليدا لذكري تصدي أبناء سوهاج للحملة الفرنسية التي هاجمت عدة مدن وقري في سوهاج عام1799, لتدور معارك طاحنة استبسل فيها أهالي طهطا والصوامعة وبرديس وجرجا وشكلوا درعا مانعا أمام تعزيزات الحملة الفرنسية القادمة من أسيوط لمعركة جهينة التي قهر فيها أهالي سوهاج القوات الفرنسية مما أجبر الحملة كاملة علي التراجع من مدن وقري المحافظة. وفي قنا كانت الحملة الفرنسية مع درسها الأقسي والذي أثبت لها أن دخول الصعيد وإن كان سهلا فإنه طريق ذو اتجاه واحد, دخول دون خروج, وذهاب من غير رجعة, فدرس الهزيمة- الذي تلقاه الفرنسيون في3 مارس1799 م والذي تحتفل فيه المحافظة بعيدها القومي تخليدا لذكري انتصار أهالي نجع البارود علي القوات الفرنسية- كان قد بدأ قبل ذلك بانتصار زائف للفرنسيين في22 يناير من العام ذاته في معركة سمهود إحدي قري مركز أبو تشت والتي انتصر فيها الجنرال الفرنسي ديزيه علي قوات مراد بك وأنهي فيها آخر دور للمماليك في مقاومة الحملة ليبدأ الدور الحقيقي للمقاومة المصرية الخالصة. ولم يكن طريق العودة لديزيه بعد تعقبه لفلول المماليك حتي إسنا في جنوبقنا وإدفو في أسوان, بنفس سهولة طريق الذهاب الذي لم يلق فيه من المماليك مقاومة تذكر حيث اكتفوا بالمناوشات الخاطفة علي مؤخرة الجيش والفرار في المواقع التي انتهت بغلبة القوات الفرنسية, ولم يكد ديزيه يتنفس الصعداء ظنا منه أنه اقترب من تحقيق السيطرة الكاملة علي الصعيد حتي كان للصعايدة من أهل قنا رأي آخر, لتبدأ المقاومة والحرب الحقيقية, وتأتي الريح القناوية بما لا تشتهي السفن الفرنسية. وكانت تقديرات القائد الفرنسي أنه لن يلقي مقاومة من المصريين لميلهم إلي الهدوء وكراهيتهم للمماليك, إلا أن ما فعلته المقاومة الشعبية كان بمثابة المفاجأة التي أذهلت ديزيه وقواته وحولت رحلتهم التي ظنوها ستكون ترفيهية إلي جحيم خلا فيه مسرح الأحداث إلا من الأبطال الحقيقيين, فما أن انتهي دور المماليك حتي شهدت حملة ديزيه علي الصعيد ما لم تشهده طوال رحلتها من مقاومة من خلال معركة قنا في12 فبراير1799 ومعركة أبو مناع في17 فبراير ومعركة إسنا في25 فبراير. وتلك المعارك التي أنهكت قوات الجنرال ديزيه وأحرجت موقفه جعلته يستنجد بنابليون طالبا المدد والعون, ولما أصابه اليأس غادر إسنا إلي قوص في طريقه إلي أسيوط حيث قواته طلبا للأمان, وقد سبق الجنرال ديزيه عند سفره إلي قوص أسطوله الذي كان يسير ببطء في النيل ليلحق بالجيش في أسيوط, وكان الأسطول مكونا من اثنتي عشرة سفينة تقل ذخائر الجيش ومؤنه تتقدمها السفينة الحربية إيتاليا. وعند قرية نجع البارود والتي تحول إسمها إلي وصف في ذلك اليوم, ورغم ما يتمتع به أهلها من طيبة وعطف وهدوء فإن ذلك لم يقف حائلا دون اشتعال الموقف لتتحول القرية في لحظات إلي موقع قتال وحلبة للصراع, وعلي الرغم من الهجوم الناري الذي شنته عليهم سفينة القيادة إيتاليا بمدافعها الحديثة والتي حصدت منهم الكثير فإن ذلك لم يزدهم إلا إصرارا علي الصمود والثأر, ووجدوا أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما إما النصر للاحتفاظ بكيانهم وكرامتهم أو الموت مستسلمين لترفع الأعلام الفرنسية علي جثثهم وأنقاض قريتهم, ففضلوا الخيار الذي يمجدهم من خلاله التاريخ. ومن هنا هاجم أهل نجع البارود السفن الفرنسية بضراوة واستولوا عليها وافرغوا شحنتها من الذخائر علي شاطئ النيل, ثم امتطوا ظهور السفن وقصدوا سفينة القيادة إيتاليا للاستيلاء عليها, وحين تأزم الموقف فكر قائد السفينة القومندان موراندي في الانسحاب لكن الريح عاكسته فجنحت به السفينة ولم يلبث أن هرع إليها الأهالي من كل صوب, وهنا أدرك موراندي الخطر المحيط به فأشعل النار في مستودع البارود ونسف السفينة لتتناثر شظاياها مختلطة بدماء غير قليل من الأهالي, ليستمر من بقي في القتال ببسالة حتي مات موراندي متأثرا بجراحه, وقتل جميع الفرنسيين الذين كانوا علي ظهر سفن الأسطول الفرنسي, وكانوا أكثر من خمسمائة قتيل, وهي أكبر خسارة منيت بها الحملة الفرنسية علي مصر. وإلي وقت قريب كانت هذه الملحمة ذاتها الخاصة بأهالي نجع البارود هي العيد القومي لأهل الأقصر قبل أن تتحول مدينة الأقصر لمحافظة وتتخذ من14 نوفمبر عيدا قوميا لها, تخليدا لذكري اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون الفرعون الشهير, أحد ملوك الأسرة ال18الفرعونية التي حكمت مصر في الفترة من1347-1336 ق.م, وقد تم اكتشاف المقبرة علي يد الأثري الإنجليزي هاورد كارتر في14 نوفمبر سنة1922 م. وإلي الشرق من قناوالأقصر يأتي العيد القومي لمحافظة البحر الأحمر ليخلد ذكري تصدي المحافظة لقوي الاستعمار الصهيوني في معركة شدوان والتي جسدت ملحمة شعبية وعسكرية يوم22 يناير1970 أثناء حرب الإستنزاف حيث شارك أبناء المحافظة قواتهم المسلحة في دحر العدوان الغاشم علي الجزيرة من خلال إمداد ومعاونة القوات المسلحة بجميع الوسائل والوسائط البحرية, لدحر الهجوم الذي قامت به القوات الإسرائيلية الجوية, المكونة من طائرات الفانتوم وسكاي هوك الأمريكية الصنع, علي القوات المصرية البسيطة المتمركزة بجزيرة شدوان لتتصدي لها القوة المصرية ببسالة وتنزل بها خسائر جسيمة في الأفراد لا تقل عن ثلاثين بين قتيل وجريح في الوقت الذي تمكنت فيه وسائل الدفاع الجوي المصرية من إسقاط طائرتين للعدو من طراز ميراج وسكاي هوك, لتضطر القوات الإسرائيلية بعد ذلك للانسحاب من الأجزاء التي احتلتها في الجزيرة. ومن ساحل البحر الأحمر شرقا إلي الصحراء الغربية حيث يمثل العيد القومي لمحافظة الواديالجديدة معركة من نوع خاص خاضتها الثورة المصرية, معركة التنمية الشاملة وإقامة واد جديد مواز لتعمير الصحراء الغربية ليصبح الثالث من أكتوبر من كل عام يوما تحتفل فيه محافظة الوادي الجديد بعيدها القومي والذي يخلد ذكري وصول طلائع الخير والتعمير للمنطقة في عام1959, حيث انطلقت شرارة البدء للعمل بكل قوة وإصرار لتعمير الصحراء وتحقيق التنمية الشاملة.