رئيس اليمن الأسبق يتحدث عن اغتيال الغشمى وتداعياته السياسية    قديروف: العاصمة الشيشانية غروزنى تعرضت لهجوم بطائرة مسيرة أوكرانية    ترامب يفوز بالنسخة الأولى لجائزة فيفا للسلام    توقعات طقس السبت 6 ديسمبر: انخفاض ملحوظ في الحرارة وتحذيرات من أمطار ورمال مثارة    أول ظهور للنجم تامر حسنى بعد أزمته الصحية (صور)    البشعة جهاز كشف الكذب عند القدماء.. وهم اكتسب صدقه مع الزمن    رئيس اليمن الأسبق يكشف تفاصيل إجبار سالم ربيع على الاستقالة    كيف أتجاوز شعور الخنق والكوابيس؟.. أمين الفتوى يجيب بقناة الناس    القومي للمرأة يهنئ الفائزين بجوائز التميز الحكومي والعربي وأفضل مبادرة عربية    الزمالك يواصل الاستعانة بالناشئين لتعويض الغيابات    تذبذب الأوقية بالبورصة العالمية.. ومجلس الذهب يكشف عن توقعات 2026    "مسيحي" يترشح لوظيفة قيادية في وزارة الأوقاف، ما القصة ؟    وزارة العمل: وظائف جديدة فى الضبعة بمرتبات تصل ل40 ألف جنيه مع إقامة كاملة بالوجبات    القيادة المركزية الأمريكية توجه الشكر لقوات الأمن السورية لهذا السبب    ليلي علوي تكشف سبب وصول أمير المصري للعالمية    كواليس تحضيرات نسمة محجوب ومنى زكي لأغاني أم كلثوم بفيلم «الست»    14ألف دولة تلاوة    السفير الفلسطينى بالقاهرة ل «أخبار اليوم»: موقفنا متطابق مع الموقف المصرى ونثمّن جهود الرئيس السيسى فى دعم القضية الفلسطينية    مصل الإنفلونزا وأمراض القلب    تفاصيل تخلص عروس من حياتها بتناول قرص حفظ الغلال بالمنيا بعد أشهر قليلة من زوجها    البريد المصرى يتيح إصدار شهادة «المشغولات الذهبية» من مصلحة الدمغة والموازين    الإسماعيلي يفوز على الإنتاج الحربي بهدف وديا استعدادا للجونة    الرئيس الأمريكي يصل إلى مقر حفل سحب قرعة كأس العالم لكرة القدم 2026    ضبط قضايا إتجار بالنقد الأجنبي بقيمة 46 مليون جنيه خلال أسبوع    إعلامي سعودي ينصح صلاح بالرحيل عن ليفربول    تايمز: مصر تسعى لاستعادة حجر رشيد لخروجه من البلاد بشكل غير قانونى    تأجيل محاكمة طفل المنشار وحبس المتهم بالاعتداء على طالب الشيخ زايد.. الأحكام × أسبوع    الأمم المتحدة تدعو لتحقيق شامل ومحاسبة المسئولين عن جرائم الأسد والهجمات الإسرائيلية في سوريا    الصحة: فحص أكثر من 7 ملايين طالب ضمن مبادرة رئيس الجمهورية للكشف المبكر عن «الأنيميا والسمنة والتقزم» بالمدارس الابتدائية    رئيس مصلحة الجمارك: نتطلع إلى نقلة نوعية في كفاءة وسرعة التخليص الجمركي للشحنات الجوية    حلمي طولان: تصريحي عن الكويت فُهم خطأ وجاهزون لمواجهة الإمارات    تموين المنوفية تضبط 4 أطنان أعلاف مجهولة وتحرر 231 محضرًا خلال يومين    جامعة حلوان تنظّم ندوة تعريفية حول برنامجي Euraxess وHorizon Europe    مخالفات جسيمة.. إحالة مسؤولين بمراكز القصاصين وأبو صوير للنيابة    جامعة المنصورة الأهلية تشارك بمؤتمر شباب الباحثين لدول البريكس بروسيا    الزمالك يترقب قرار اتحاد الكرة بشأن قضية زيزو.. واللاعب يجهز للتصعيد    شركة "GSK" تطرح "چمبرلي" علاج مناعي حديث لأورام بطانة الرحم في مصر    الصين وفرنسا تؤكدان على «حل الدولتين» وتدينان الانتهاكات في فلسطين    لجنة المسئولية الطبية وسلامة المريض تعقد ثاني اجتماعاتها وتتخذ عدة قرارات    «الطفولة والأمومة» يضيء مبناه باللون البرتقالي ضمن حملة «16يوما» لمناهضة العنف ضد المرأة والفتاة    لمدة 12 ساعة.. انقطاع المياه غرب الإسكندرية بسبب تجديد خط رئيسى    طريقة استخراج شهادة المخالفات المرورية إلكترونيًا    لتعزيز التعاون الكنسي.. البابا تواضروس يجتمع بأساقفة الإيبارشيات ورؤساء الأديرة    "قبل ساعة الاستجابة.. دعوات وأمنيات ترتفع إلى السماء في يوم الجمعة"    خشوع وسكينه....أبرز اذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    حريق مصعد عقار بطنطا وإصابة 6 أشخاص    جامعة الإسكندرية تحصد لقب "الجامعة الأكثر استدامة في أفريقيا" لعام 2025    بعد انقطاع خدمات Cloudflare.. تعطل فى موقع Downdetector لتتبع الأعطال التقنية    وزير الكهرباء: تعظيم مشاركة القطاع الخاص بمجالات الإنتاج والتوزيع واستخدام التكنولوجيا لدعم استقرار الشبكة    لقاءات ثنائية مكثفة لكبار قادة القوات المسلحة على هامش معرض إيديكس    الأهلي يلتقي «جمعية الأصدقاء الإيفواري» في افتتاح بطولة إفريقيا لكرة السلة سيدات    محافظ الجيزة: توريد 20 ماكينة غسيل كلوي ل5 مستشفيات بالمحافظة    طريقة عمل السردين بأكثر من طريقة بمذاق لا يقاوم    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 5 ديسمبر 2025    مصر ترحب باتفاقات السلام بين الكونجو الديمقراطية ورواندا الموقعة بواشنطن    كيف تُحسب الزكاة على الشهادات المُودَعة بالبنك؟    ننشر آداب وسنن يفضل الالتزام بها يوم الجمعة    الحصر العددي لانتخابات النواب في إطسا.. مصطفى البنا يتصدر يليه حسام خليل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عرابى يستنهض وعى المسلمين بهُوِيَّتهم ويوقظ نهضتهم د. صبرى حافظ
نشر في التحرير يوم 25 - 01 - 2014

كان أهل سيلان يحتفون بعرابى على طريقتهم بدعوة على الغداء أو العشاء فى مأدبة يقيمونها على شرفه وشرف رفاقه الكبار
أخذ المسلمون السيلانيون يرتدون الطربوش مثل عرابى وتَخلَّوا عن الإزار ولبسوا البنطلون مثله
لأن المسلمين كما بينت كانوا من أكثر سكان الجزيرة معاناة من الاستعمار اكتسب عرابى فى نظرهم قيمة كبيرة كأحد الذين تَصدَّوا للاحتلال
كان المسلمون تاريخيًّا فى هذه الجزيرة من عيون مجتمعها ومن أكثر سكانها ثراءً وتأثيرًا على مدى قرون طويلة من الزمان
تَحوَّل المسلمون فى سرنديب بعد الاستعمار إلى الزراعة والصيد وأعمال النسج وغيرها من الحرف المتواضعة
كانت عمليات التنصير شديدة الأهمية للإدارة الاستعمارية إذ أتاحت لها استمالة قطاع كبير من السكان.. لكن المسلمين كانوا أكثر السكان مقاومة
كان وصول أحمد عرابى هو العامل المساعد الذى احتاجت إليه تلك الأقلية المسلمة كى تنهض من سُباتها الطويل
ترك عرابى أثرًا كبيرًا فى سيلان عمومًا، وفى مجتمع المسلمين بها خصوصًا، حتى قبل قدومه إلى الجزيرة، وهو الأمر الذى عبرت عنه طريقة استقبالهم الحافل له عند وصوله من ناحية، واستمرار توافدهم على بيته لزيارته من ناحية أخرى. وهى زيارات كانت تنتهى فى كثير من الأحيان بدعوته لزيارتهم أو للاحتفاء به على طريقتهم بدعوة على الغداء أو العشاء فى مأدبة يقيمونها على شرفه وشرف رفاقه الكبار. وما إن ذهب عرابى إلى مسجد مارادانا، للصلاة فى أول جمعة له فى الجزيرة حتى تعزز انطباعهم الإيجابى عنه، وتأكد له ولمسلمى سيلان، وجلهم من الشوافع الذين يعتزون بمصر بخاصة، وبكل من يجيئهم منها، لأنها الأرض التى أنجبت الإمام الشافعى وأمضى فيها آخر سنوات حياته، ونشر منها مذهبه، ومات ودفن بها، أن علاقته بهم ستزداد أهمية على مر الأيام. وقد لاحظ عرابى الذى رفض أن يؤمهم لصلاة الجمعة حينما دعوه لذلك من باب الاحتفاء والأدب، وهو الذى بدأ حياته التعليمية فى الأزهر الشريف، مدى ضعف لغة الإمام العربية، ومدى حاجته إلى مزيد من الدروس فيها. بل إن عربية إسماعيل سنى لبّه الذى تَطوَّع للترجمة له بين العربية والسنهالية، وهى لغة جل سكان الجزيرة، كانت محدودة هى الأخرى إلى حد كبير. وهو الأمر الذى التقت فيه حاجة مسلمى سيلان وحاجة العرابيين إلى توفير تعليم جيد لأبنائهم تكون اللغة العربية ركنًا أساسيًّا فيه.
فقد طلب عرابى وصحبه فى اجتماعهم الأول مع حاكم الجزيرة، كما رأينا، أن يجد لأبنائه وأبناء وبنات رفاقه مكانًا فى المدارس الإنجليزية الجيدة فى الجزيرة، فلم يكن من المتوقع أن يلتحق أى من أبنائهم بمدارس الجزيرة المحلية التى تدرس فيها كل المواد بلغتَى الجزيرة الأساسيتين، السنهالية والتاميل. ولم تكن ثمة مدارس تعلم اللغة العربية بالمعنى الدقيق للكلمة، ناهيك بأن تستخدمها لغةً للتعليم، رغم وجود دافع دينى قوى لدى مسلمى الجزيرة لتعلمها. فقد كانت المدارس التى تعلم العربية فى الجزيرة، أقرب إلى كتاتيب تحفيظ القرآن، منها إلى المدرسة الحديثة بالمعنى الدقيق للكلمة، التى عرفتها مصر منذ بدأ محمد على مشروعه التحديثى الكبير فيها، الذى تلقى دفعة قوية، خصوصًا فى المجال التعليمى فى عصر إسماعيل الذى خرجت من إهابه الثورة العرابية.
فمن يقرأ سيرة المترجم الشاب (اسمه بالكامل إسماعيل سنى لبه ماريكار صاحب دوراى Sinne Lebbe Marikar Sahib Dorai Ismail) الذى تطوع لأن يكون مترجمًا لأحمد عرابى باشا، وكان له دور كبير فى تقديمه لبيوتات مسلمى الجزيرة، يعرف أنه تعلم لغة التاميل إلى جانب لغته الأم وهى السنهالية لدى معلم خاصّ كان يفد إلى بيته فى المساء. بينما كان يتلقى تعليمه العربى نهارًا فى مدرسة من تلك المدارس أو الكتاتيب التى كانت تعلم المسلمين شيئًا من القرآن، وهى «مدرسة فيراند العربية لتحفيظ القرآن Verandah Arabic Quran School». وإذا كنا نعرف أن مدارس تحفيظ القرآن فى البلاد التى يتكلم أهلها العربية لا تقوم بأكثر من التحفيظ الببغائى للنص، دون فهم حقيقى لمعناه، ناهيك بالتفقه فى لغته، فما بالك بتلك التى لا يعرف تلاميذها أيًّا من مفردات اللغة العربية، الذين ينتهى بهم الأمر إلى ما هو أسوأ من الببغاوات. صحيح أن إسماعيل مضى بعد تلك المدرسة فى تعلُّم مزيد من العربية فى مدرسة عربية أعلى هى «Madrasa Arabic College»، وكانت مهارته فيها هى التى لفتت إليه نظر فقيهها الشيخ عبد الله الذى ينحدر من أصول يمنية حضرمية كما يقول اسمه والذى تُورِد المصادر السريلانكية اسمه مصحوبًا بكثير من ألفاظ التبجيل (الشيخ الأستاذ الكامل والعارف حضرة عبد الله بن عمر باذيب اليمانى الحضرمى الشيبانى Sheikh Usthazul Kamil Wal Arif Hadarath Abdullah ibn Omar Batheeb Al Yamani Hadaramiya Shibaniya). فأخذه تحت جناحه وطوَّر معارفه. لكن الذى غير حياته بحق، كان تعرُّفه إلى عرابى وصحبه، وملازمتهم والتعلم منهم لعدة سنوات. بل إن علاقته بهم كانت الدافع وراء رحلته للحج فى العام التالى 1884، التى زار بعدها مصر وتركيا ووسَّع عبرها مداركه ومعارفه بالعلوم العربية. وبعد عام من عودته من تلك الرحلة الطويلة قرر الزواج، وحضر عرابى ورفاقه حفل زواجه، وكان شاهدًا عليه مما اعتُبر شرفًا كبيرًا ظل على أثره قريبًا من عرابى، حفيًّا به حتى انتقل عرابى من كولومبو إلى كاندى. لكن انتقال عرابى لم يقف علاقة إسماعيل بها، فقد كان يتردد عليه زائرًا بانتظام حتى وفاته المبكرة فى حادثة قطار عام 1896 قرب كولومبو.
وعلى الرغم من هذا كله، وهو أرقى ما كانت توفره سيلان وقتها من تعليم فى اللغة العربية، لمس عرابى وصحبه تدنِّى مستوى اللغة العربية لكل من الإمام والمترجم معًا فى زيارته الأولى للمسجد وفى تعامله مع عدد لا بأس به من وجهاء المسلمين الذين كانوا يتوافدون على بيته أو يدعونه لزيارة بيوتهم. كما استطاع عرابى من خلال حواراته المحبطة، بسبب فقدان اللغة المشتركة، مع كثير من أعيان المسلمين السيلانيين أن يدرك عزوفهم عن إرسال أبنائهم إلى المدارس الإنجليزية، لأنهم كانوا أكثر سكان الجزيرة معاناة من الاستعمار الإنجليزى. وكان هذا كله وراء طلب عرابى بعد زيارتين للمسجد وأكثر من اجتماع وزيارة مع عدد من المسلمين السيلانيين، من حاكم الجزيرة أن يوفر لابنيه وأبناء وبنات رفاقه أماكن فى أفضل المدارس الإنجليزية بالجزيرة. لأنهم يدركون أهمية التعليم فى المدارس الجيدة، فهم جميعا أبناء النهضة التعليمية الكبرى فى عصر إسماعيل. يدركون دور التعليم كآلة للفرز والتراتب والحراك الاجتماعى فى أى مجتمع. وقد أثار هذا الأمر استغراب وجهاء المسلمين واستهجانهم. وسوف يصبح موضوع جدل طويل بين عرابى وكثير من زعماء سكان الجزيرة من المسلمين، وفاتحة عملية تطوير كبيرة لهم، نقلتهم نقلة نوعية استعادوا بها شيئًا مما فقدوه.
والواقع أن كثيرًا من الدراسات التى اطّلعتُ عليها عن تبلور هُوِيَّة مسلمى سريلانكا فى العصر الحديث، وتطورهم بعدما عانت مكانتهم وهويتهم لأكثر من قرنين من الأفول، تربط بين بداية وعى هؤلاء المسلمين بتاريخهم وإمكانياتهم وتميزهم وقدوم العرابيين للجزيرة. فقد كان المسلمون تاريخيًّا فى هذه الجزيرة من عيون مجتمعها ومن أكثر سكانها ثراء وتأثيرًا على مد قرون طويلة من الزمان، على الرغم من أنهم يحتلون المكانة الثالثة من حيث الحجم (بعد الأغلبية السنهالية التى تبلغ 75% من السكان، ثم التاميل المنحدرين من جنوب شبه القارة الهندية ومن ولاية تاميلنادو فى أغلب الأحيان 14% ويجىء بعدهما السيلانيون المسلمون الذين يبلغ عددهم نحو 10% من السكان). إذ يعود تاريخهم فيها إلى ما قبل الإسلام، وتجارة التوابل مع العرب، لذلك يطلقون عليهم لقب «العرب السيلانيين Srilankan Moors». وهى التسمية التى صاغتها موجات الاستعمار الأوروبى المتلاحقة، والتى لم تكن معروفة أو متداولة بين أهل سرنديب، سيلان فى ما بعد، إلا بعد وفودهم إليها، ولأغراض استعمارية خالصة وفق مبدأ «فرِّق تسُدْ». وقد لعب المسلمون فى الجزيرة بسبب استئثارهم بجل النشاط التجارى على مر القرون أدوارًا مرموقة فى بلاط ملوكها، وبين أكثر طبقاتها نفوذًا. وكانوا يعيشون فى الحواضر والموانى الساحلية بسبب أنشطتهم التجارية المختلفة، ويحظى أبناؤهم بأرقى فرص التعليم الخاص الذى توفره لهم ثروات آبائهم، وإعلاء الإسلام لقيمة التعليم والمعرفة.
لكن قدوم الاستعمار الأوروبى للجزيرة، وقد بدأت بشائره كما نعلم بشركات التجارة مع الهند وفتح الأسواق والاستئثار بأهم السلع منذ بدء موجاته الأولى فى القرن السادس عشر، ضرب مكانة المسلمين التجارية المرموقة فيها، فانهالت عليهم معاول التهميش مع قدوم الاستعمار البرتغالى ثم الهولندى ثم الإنجليزى إلى الجزيرة. وبعد أن كان المسلمون الذين اشتغلوا بالتجارة لقرون، واحتلوا بسبب ممارستهم لها مكانة اقتصادية واجتماعية متميزة جعلتهم من أرقى سكان الجزيرة وأكثرهم تميزًا، أخذ المستعمرون الجُدُد ينتزعون منهم تلك المكانة بالتدريج، فحصل البرتغاليون على حصة لا بأس بها من تجارة الجزيرة ثم تبعهم الهولنديون بحصص أخرى. وما إن جاء المستعمرون الإنجليز إليها حتى أجهزوا كلية على بقية حصصهم وعلى مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية فى الجزيرة، خصوصًا بعد زراعة الشاى وتغيير التركيبة المحصولية للجزيرة. وقد تفاقم وضعهم وازدادوا تهميشًا مع ترسخ الاستعمار الإنجليزى فى سيلان، ومع تغييره للتركيبة الاقتصادية ومن ثَم الاجتماعية للجزيرة. وبعد أن كان المسلمون من أرقى سكان الموانى الساحلية على مد شواطئ الجزيرة، أخذ الأوروبيون ينتزعون منهم تلك المكانة، ويزيحونهم عنها، بل يدفعونهم للانتقال إلى داخل الجزيرة حيث تنعدم فرص الثراء والتجارة معًا، وحيث تحول كثير منهم إلى الزراعة والصيد وأعمال النسيج وغيرها من الحرف المتواضعة.
عامل آخر أدى إلى تهميش المسلمين فى الجزيرة، هو أنهم كانوا من أكثر سكان الجزيرة مقاومة لعمليات التنصير التى كانت تدور على قدم وساق مع عمليات فتح الأسواق، وتوطئة الأرض للإدارة الاستعمارية الوافدة، خصوصًا أن المثل السائر فى هذا المجال يقول «يذهب المبشر، ثم يتبعه التاجر، فيمهدان الأرض للمستعمر». وكانت عمليات التنصير شديدة الأهمية للإدارة الاستعمارية، إذ تتيح لها استمالة قطاع كبير من السكان، والاطمئنان لولاءاتهم، ثم استخدامهم كلما دعت الضرورة لشقّ الصف الوطنى. وقُبَيل وفود العرابيين إلى الجزيرة، كان عدد كبير من سكانها من السنهاليين والتاميل، يفوق قليلًا عدد المسلمين بها الذى كان وقتها مئتى ألف مسلم، قد اعتنق المسيحية. يقول لنا إحصاء 1881 إن 162270 من السنهاليين البوذيين قد اعتنقوها، و82200 من التاميل الهندوس قد تَنَصَّروا، بينما لا يشير الإحصاء نفسه إلى تنصُّر أى من مسلميها فى ذلك الوقت. ومع إبعاد المسلمين عن مراكز المدن، وانتزاع التجارة منهم، خَفَتَ صوتهم وقلَّ دورهم فى المجتمع ككل، وفى حياته السياسية والعامة، بعدما كانوا فى زمن آخر الممالك السنهالية التى اتخذت من كاندى عاصمة لها من أكثر السكان ثراء وأوسعهم نفوذًا وتأثيرًا. كما أنهم كانوا بين أكثر سكان الجزيرة فى هذا الوقت، أى العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، تخلُّفًا، وأقلهم أخذا بأسباب التحديث التى بدأت تنتاب الجزيرة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتنتشر بين السنهاليين منهم بخاصة. (راجعM. M. M. Mahroof، "British Rule and the Muslims (1800 – 1900)" in An Ethnological Survey of the Muslims in Sri Lanka from Earliest Times to Independence، ed. MMM Hahroof and Sir Raziq Fareed Foundation، (Colombo، Sir Raziq Fareed Foundation، 1986). P. 82)
ويبدو أن أحمد عرابى وصحبه جاؤوا إلى الجزيرة فى موعد من القدر، إذ يصفه بعض المؤرخين فى سريلانكا، بأنه القوة المحركة لعملية التحديث التى جرت هناك بين المسلمين بخاصة، إذ بدأ هناك نوع من الإحياء الإسلامى عقب وصوله مباشرة إلى سريلانكا، كما يشير رولاند وينزيلهومر فى دراسته التى يرجع فيها إلى عرابى، فضلًا عن عملية التحديث الجذرية لمسلميها، دور تقديم القهوة وزراعة البن إلى الجزيرة (راجع Roland Wenzlhuemer، From Coffee to Tea Cultivation in Ceylon، 1880-1900: An Economic and Social History (Brill، Leiden، 2008) ص 291 – 296). ويصف وينزلهومر هذا الإحياء الإسلامى بأنه حركة أقرب إلى التحديث بالمعنى الغربى منها إلى الإحياء بالمعنى الدينى. وكان عمادها، كما كان الحال فى هذا العصر، المدرسة، لأن مدارس المبشرين المسيحيين قامت هناك بدور مشابه لما قامت به فى المشرق العربى من شق الصف والتحديث معًا، وكان خوف المسلمين منها ملحوظًا، لأنها كانت تؤدِّى إلى اعتناق أبناء الديانات البوذية والهندوسية فى سيلان للمسيحية. وكان وصول أحمد عرابى هو العامل المساعد الذى احتاجت إليه تلك الأقلية المسلمة كى تنهض من سُباتها الطويل. فقد كان فى سيلان وقت وصول أحمد عرابى إليها عام 1883 ما يقرب من مئتى ألف مسلم (197٫775) منهم 32٫208 يعيشون فى العاصمة كولومبو. وكان كثير منهم قد تابعوا أخبار عرابى ومحاكمته، لذلك ما إن وصل إلى سيلان حتى أصبح محطّ اهتمام المسلمين، ووفر لهم ما كانوا يفتقرون إليه من قيادة روحية ووطنية معًا، ومن طاقة على النهضة والتغيير.
ولأن المسلمين كما بينتُ كانوا من أكثر سكان الجزيرة معاناة من الاستعمار الإنجليزى، اكتسب عرابى باشا فى نظرهم قيمة رمزية كبيرة كأحد الذين تَصدَّوا للاحتلال الإنجليزى لبلادهم. وأصبح رمزًا يتجمع حوله المسلمون، وقد عانوا طويلًا، على العكس من التاميل والسنهاليين، من الافتقار إلى الرمز الجامع لشملهم فى القرن التاسع عشر، بالصورة التى يشار إليه معها فى المراجع السيلانية على أنه بطل التعريب والتعليم فيها، وموحِّد المسلمين بها حول مشروع نهضوى حداثى بامتياز (راجع محمد محروف المشار إليه أعلاه). بل سرعان ما أصبح مثالًا يُحتذى فى كل شىء، من الملبس والمأكل والمشرب، حتى اختياراته لتعليم أبنائه. فأخذ المسلمون السيلانيون يرتدون الطربوش مثله، وتَخَلَّوا عن الإزار ولبسوا البنطلون مثله، أو ارتدو الجاكت على الجلباب كما كان يفعل فى كثير من الأحيان. وحينما أعلن فى أول اجتماع كبير عقده معهم عقب وصوله أنه سيرسل ابنه إلى مدرسة تعلم باللغة الإنجليزية، أثار هذا الأمر جدلًا واسعًا بينهم. وقد برر ذلك لمن اعترضوا على قراره من المسلمين بالقول العربى السائر «مَن تَعلَّم لغة قوم أمن مكرهم/شرهم». وبضرورة أو يوفروا لأبنائهم أرقى تعليم ممكن، دون إبقائهم فى معتزَل لا يتيح لهم فرص التطوُّر والترقِّى، وذكِّرهم بحديث الرسول الكريم المشهور «اطلبوا العلم ولو فى الصين»، وركز على أهمية تعليم المسلمين، لا الذكور وحدهم ولكن الإناث كذلك، فأهمية تعليم المرأة المسلمة عنده لا تقل عن أهميته للرجل.
وما إن نشرت الصحف الإسلامية فى سيلان شيئًا من هذا الجدل الذى دار بينهم وبين عرابى وقرأه أول من اهتموا بالتعليم من مسلمى سيلان، وهو محمد قاسم سيدى لبّه Mohammado Cassim Siddi Lebbe الذى كان قريبًا من عرابى فى السنّ، إذ وُلد فى كاندى فى 11 يونيو 1838، أى يكبره بثلاث سنوات، حتى شد الرحال إلى كولومبو وجاء لمقابلة عرابى، ووضع نفسه فى خدمة أفكاره التحديثية. وكان محمد قاسم سيدى لبّه، الذى يُعرَف اختصارا ب«سيدى لبّه»، من أبرز الناشطين بين مسلمى مدينة كاندى، ومن أكثر أبنائها تعليمًا. كان محاميًا وعضوًا بمجلس المدينة وناظرًا على بعض أوقاف مسلميها، وقد أسس أول جريدة موجَّهة للمسلمين فيها وهى «Muslim Nation الأمة الإسلامية»، التى كانت تُنشَر باللغتين العربية والتاميلية. وكان يدعو فيها إلى ضرورة أن ينفضَّ المسلمون عن أنفسهم الوضع المزرى الذى يعيشون فيه. فهم فى رأيه متخلفون تعليميًّا، منعزلون ثقافيًّا، متحجرون دينيًّا، يعانون الركود الاقتصادى والعقم الفكرى. لكن دعوته لأهمية تعليم المسلمين والنهوض بهم ثقافيًّا وفكريًّا لم تَلْقَ آذانًا صاغية من مواطنيه، ولم تتحول إلى إجراءات فعلية إلا بعد وصول أحمد عرابى، وعمل سيدى لبّة معه على تأسيس المدرسة الخيرية الإسلامية التى أدارها لبّة عام 1884، وهى أول مدرسة إسلامية فى تاريخ سيلان، التى كانت النواة التى خرجت منها بعد سنوات قليلة المدرسة الزاهرة 1892، وهى المدرسة التى اختار عرابى اسمها، وحدد منهاج عملها، ومزج فيها بين مزايا التعليم الأزهرى الذى سبق أن تَلَقَّى عرابى تعليمه فيه، ونظام التعليم المدنى الذى يهتمّ بتعليم اللغة الإنجليزية والعلوم المدنية الحديثة، وجعلها مشروعًا منبثقًا عن الجمعية الإسلامية التربوية فى كولومبو ليضمن لها الاستمرار والازدهار. ثم سعى لتسجيلها مع الحكومة السيلانية كى تحصل على تمويل حكومى واعتراف رسمى يمكِّنها من الاستمرار، وفى عام 1894 تغير اسمها إلى «الكلية الزاهرة Zahira College» التى أصبحت الآن إحدى أهم المؤسسات التعليمية الراقية التى يتكالب السريلانكيون، مسلمين وغير مسلمين، على إلحاق أبنائهم بها. وفى عام 1891 تم تأسيس ثلاث مدارس إسلامية للبنات، أُولَاها فى منطقة كاندى Kandy التى أقام بها عرابى كما نعرف، والثانية فى Kurunegala والثالثة فى Gampola، وكانت هذه المدارس الإسلامية الثلاث هى أولى مدارس البنات فى سيلان كلها. وسوف أتوقف مع القراء فى ما بعد عند زيارتى واحدة من كلياتها التى تملأ الآن الجزيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.